لو تَجاوَزْنا الحساب؟ / إبراهيم يوسف (لبنان)

لآفاق جرة

*********

نظرَ غلامٌ في بئر.. فأبصرَ وجهَه

فأسرعَإلى أمّه يخبرُها أن في الجبّ لصّ

ثم قادها من يدِها

وأسرعَ بها لترى اللصّ بعينِها

وحينما نظرتْ في البئر؟

قالتْ له:

أيّ والله إنهما لصٌ..وفاسدة!

الحكاية من نسجِ الخيال

فلا وجودَ في الواقع للأشخاص

وسائرِ الإشارات والأماكنِ

الواردة في الموضوع

وما يتراءى من شَبَه

إنّما هو محضُ صدفة  ليس أكثر

إبان الحرب الأهلية،وفي بداية اهتمامنا بالتفتيش عن الفرصالأفضل، لأولادنا في المدارس الخاصة. وكان مستوىالتعليم في رسميّات الدّولةقدبدأ بالانحدار، بعد أن كانت هذهالمدارستحرزتفوقاً واضحا على مؤسسات التعليم الخاص،وتحصدالمراتب الأولىفي نتائج الامتحانات العامةلوقت طويل.يومئذ اخترتلأولادي إحدى الإرساليات الأجنبية التيتتميّزبكفاءة موصوفة؛وكان يستغرقوصولالحافلة إليها بعض أرباع الساعة. أرهقني وأرهق زوجتي النهوض المبكر، والقذائف العشوائيةتروِّعناوتسقطفي كل مكان. إضافة إلى القسط السنوي المرهق يستهلك معظم مردودي من المال.

بينما إلى جوارنا في الحيّ، مدرسة أخرى نشأت بفعلالحرب. كانت دارة لعائلة مسيحية ميسورة الحال، غادرتهابتأثير الفرز الطائفي، حينما عمَّ الاضطراب مختلف المصالح الرسمية والخاصة،وعموم المرافق في البلاد، وشملت الفوضى قيام المدارسالخاصة والجامعات، فتحول المنزل إلى مدرسة بعد البيع، من قبل مستثمرٍ في قطاع المقاولات والبناء.

توحي المدرسة الحديثةبالتميّز والازدهار،وليس في مسموعاتها والدعاية التي تحيط بهاما يثيرالشك بكفاءتها.يؤمها مئات الطلابونحن في “عزّ” الحرب، وعشرات المركباتالنظيفة اللامعة تأتي من البعيد والجوار.يراها الناظرمن بعيد جميلة التصميمشديدة العناية رائعةالبناء.تزين باحتهاالصور البديعة تلهب خيال الأطفال،وتلفت انتباهالأهل من الزوار.

وقدأعِدَّت الأراجيح في فناء حديقة واسعة، تحيط بالمدرسة من جميع الجهات، وَمُزَحْلِقَةٌ أقيمت في إحدى الزوايا،وبركة مياهمزخرفة بالفسيفساء تسبح فيها أصنافالسمك الملون،وطاووس مُدَلَّلمزهو بنفسهيتنقل في الحديقة،يفرش جناحيه فيسبي عقول الأطفال من الكبار والصغار.ويقوم في الحديقة ملعبان: للأطفال الصغار وللفتية الشبان من الجنسين.

عززت ثقتي بالمدرسة هذه المغريات تسعد قلوب الأطفال.وهكذا سوّلت لينفسي أن أغيِّر مدرسة أولادي، فلِمَ لا أطمئن إلى سلامتهم؟ وأنقلهم إلى جوار إقامتنا في الحيّ، وهو قرار اتخذتُه بقليل من الترددوالحذر، وكثير من الإحساس بالأمان.

في بداية العام الدراسي انتدبتِ الشركةحيث كنت أعمل، فريقا للتدرب أنا منهمعلى معدات جديدةللشركة؛مدتها شهران.كانت قد اشترتهامن بعض الصناعات. وحينما عدنا من الدورة انشغلنا شهرا آخر، في الإعداد لإفادة الشركة بما تعلمناه.

كنا لمّا نزل في بداية الفصل الثاني،وفي فترة صعبة من حياتنا علاوة عنالحرب؛وكانت زوجتي مشغولةببعض الدواعي الأسَريّة،ومعظم مسؤولية الأولاد وسلامتهم كانت في رعاية الأقدار. لكن وقد استقرت أوضاعنا العائلية من جديد،وتفرغتُللعناية بمواكبتهم؟ فاجأتني؛بل صفعتني عملية حسابية طار منها صوابي، وأنا أساعد ابنتي الكبرى على حلها.

مهما يكن الأمر فقد شعرتبالورطة بفعل العملية الحسابية،وغرقتُفي خيبة عميقة كادت تكتم أنفاسيوتخنقني. لكنسبق السيف العذل،ولا بد من إنهاء العام الدراسي كيفما اتفق، لاسيما أنني كنتقد سدّدت نصف القسطالسنوي المتوجب.

لكنني اتخذت قرارا حاسما، بإعادتهم إلى المدرسة القديمة، مهما كانت بعيدة ومحفوفة بخطر القذائف في الطرقات، ومهما كانت أعباؤها مكلفة ولو بلغنا حد العوز. وفي المقابل امتعنت عن تسديد القسط الثاني،وقلت تكفيني خسارة العام.

راجعتُ الإدارة مرارا”واعترضتُ”على مستوىالتدريس. واقتنعت أخيرا بالتسليم وعدم جدوى النقاش. لكنني في بداية العام الدراسي الذي تلا خيبتي بالحساب وخسارة العام؟ رحت أطالب إدارة المدرسة بإفادة عن متابعة دروس العام الفائت، كشرطلازمللعودة إلىالمدرسة القديمة.والإدارة الكريمة امتنعت عن تزويدي بالإفادة المطلوبة، ما لم أسدد القسط كاملا.

قلت للمدير بصوت المغلوب على أمره: يكفيني يا سيدي أن تضيعالسنة الدراسية على أولادي، ويعودوا هذه السنة إلى صفوف العام الفائت، وتمنيت عليه أن يمنحني الإفادة ويسهِّل أمري.وحينما أصرَّ على رفض رجائي وتزويديبالإفادة؟

تأكد لي أنهتاجرمقاول لا تعنيهالمدارس ولا التعليم؟ وقداستغل فترة التهجير القسري،ليشتري هذا المنزل الواسع”بتراب” المال،وربمابتدبير من المشاركين في المعارك، ليحوّله إلى مدرسة أحسن ترميمها، ثم شعر بالغبن أن تضيع الفرصةمن يده؟ فلم لا يقوم نفسه بإدارة المدرسة ألا تليق به “المَدْيَرَة”!؟ونحن نعيش في ظل أوضاع أمنية مؤاتية.

وحينما بلغتُطريقا مسدودة في الحوار معه؛ وأعيتني كل حِيَلي؟قلتُ في نفسي: لِمَ لا أكسر جرَّتي معه لعل السلبّية تغيِّر موقفه؟قلت له: من مآثر مدرستكم علينا يا سيدي، إنّ معلمة اللغة الفرنسية، بزَّت كل أدباء فرنساوأضافت””Attenderفعلا جديداإلى اللغة، وهيتكتب لطلابها: On doit “attender” deuxsemainesetc،عوضا عن Attendre)) ولم أكتفِ ففتحتُ دفترالمسألة الحسابية… وتمنيت عليه أن يسترخي ويهدأوأن يسمعني جيدا.

قلت له إذا كان حجم غرفة الصف في مدرستكم أربعين مترا مكعبا، وإذا كان ارتفاعها خمسة أمتار، وكان طولها عشرين مترا كما تقول المسألة؟ فيصبح عرضها – وهو المطلوب لحل المسألة – أربعين سنتيمترا!فأي غرفة هذه يا سيدي!؟

ولو تجاوزنا مسألة الحساب إلى العربي، وأخرجت من جيبي وثيقة أخرى وفيها توصية من إدارة المدرسة إلى ذوي الطلاب تقول: “نرجوا” من أهلنا الكرام أن يتعاونوا معنا”ويراقبون” أولادهم، دون أنيتهاونوا معهم لإنجاز واجباتهم”.

ثم أشرت إليه أين تكون مختلف الأخطاء، مما لا يصح أن يجهله”مدير” مثله.مع ذلكلم يقتنع وأجابني أن أمينة السّر بجانبهليست مُدَرِّسَة للعربي،وهي التي نظّمت الرسالة إلى أهالي الطلاب -بينما حارس مقبرة”الپانثيون”يتقن خمسلغات علاوة عن لغته -وأما مسألة الحساب كما قال؟ فلا تزيد عن أرقام وحسب،وليبلغْ عرضُ أو طول الغرفة ما بلغ!

وحينما فاض كيلي معه..؟ تأملت وفرة الكتب والمراجع، التي تزين رفوف الإدارة.. في التاريخ والأدب والفكر وسائر العلوم وسألته: أقرأت كل هذه الكتب يا صاحبي!؟ وأجابني بغيظ شديد أن الأمر لا يعنيني ويجب أن ألتزم آداب الزيارات.

كنتُ مُسْتفزا وَمُسْتَنْفَراً لأقصى الحدود، وقد خرجتُ عن السيطرة على نفسي وأعصابي وردة فعلي.وهو يرفض إعطائي الإفادة. ولكي أثأر مما نالني من السوء في مدرسته؟ قلت له قبل أن أغادر مكتبه: لا تؤاخذني فالتعليم ليس مهنتي، لكن الغرفة التي في مدرستكمموضوع المسألة الحسابية؟ التي تفتقت عنها عبقرية “أقليدس”، القيِّم في المدرسة على مستقبل أولادنا..؟ التي لا يتعدى عرضها أربعين سنتيمترا..!!هل هي صف في مدرسة؟ أم هي إحدى قنوات الصرف الصحي!؟

وهل يتسع يا أستاذ حجم الصف في مسألة الحساب، لأكثر من تيس.. ومغفّلة! هكذا فششت خلقي وغادرت دون أن ألتفت إليه. فلم أر ما بدا على وجهه منردة الفعل، ولم أترك له متسعا من الوقت ليشاتمنيأو يبهدلنيويشتبكبالأيديمعي.

لكنني أعترف وأشهد أمامك بالحق على نفسييا صديقي،أنني شعرت بخطأ فادح بعد خروجي من المدرسة،سبب لي حرجا نال مني وانعكس وجعا في نفسي.فلا  تجوز الاستهانة بالكرامات مهما كانت الدواعي، ومهما بلغت حدود ضعفي وغيظي، وخسارة مالي وضياع العام الدراسي، فلا أزدريه وأشتمته معأمينة سره.ولا زلت إلى اليوم آسفا على ما قلته.

ثم عرضت مشكلتي فيما بعد لموظف، يحسن الإصغاء في وزارة التربية والتعليم، وسألته أن يتدبر أمر الإفادة لعودة أولادي إلى مدرستهم القديمة، دون المرور بمدرسة إقليدس في حيِّنا، فاقتنع بشكواي وأجابني بالموافقة وسهَّل لي طلبي.

وأدهى المفاجاءآت أن ألتقيب المدير المقاول في نهاية السنة الدراسية، في باحة المدرسة التي عاد إليها أولادي، لتخبرني أمينة السّر فيها أن أولاد “خصمي” الأربعة، يتابعون دروسهم في المدرسة إيَّاها”من شدة ثقته بمدرسته”..!و أكثر من ذلك..؟ هناك من معلماته من شَكَتْ لمن حولها؟ أنه دأب على التحرش بها وبسائر زميلاتها… والله أدرى وأعلم به.

هذه المدرسة توقفت أخيرا وتحولت إلى معهد للتدريب المهني. وهكذا فإن مهنة التدريس بعد الحرب في لبنان، استمرت تتمتع بكفاءة عالية وقدر من الاحترام، لولا المواجهة الوجودية في الحرب على كورونا وخراب المرفأ والفساد، ما فتك بالبلاد وسائر العباد. لكنني بالرغم من كل ما جرى؟ لا زلت أشعر  بالندامة على الواقعة، وما قلته للمدير  وأمينة سر مدرسته.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!