مجرد ضغط/ بقلم : نور الدين بنبلا( المغرب )

“ركب رجليه” على حد قول الأديب محمود العقاد، وترك منزله وتاه وسط شارع طويل وعريض. أسرع الخطوات وأنفاسه تتقطع وكأنه يفر من جرح عميق سحق كل ذكرى جميلة التصقت بجدار الزمان.

كل النظرات مصوبة إليه.  من رآه على هاته الحال، سينعته بثمل أفرط في الشرب أو مدمن زاد من مقدار الأقراص المهلوسة لدرء الألم أو لتحدي الخوف من مواجهة حاضرٍ تسرب إليه الملل.

تابع السير، وساعته الذهنية توقفت عقاربها، وكل الأشياء من حوله ساكنة يعتريها الجمود. فعيناه جحظت على كل يافطة معلقة على جنبات أبواب العمارات، تَرْقُبُ أي منفذ للولوج بحثا عن ملاذ ينقذه من تضارب الأفكار ويحميه من تصارع سيناريوهات الرعب داخل ذاته.

أوقفه حارس إحدى العمارات وقال له: – ما قصدك، طبيبا أم محاميا أم خبير حسابات؟

رد عليه صاحبنا قائلا: – أبحث عن أخصائي في الأمراض النفسية والعصبية.

أرشده الحارس بالصعود إلى الطابق الأول، فلعله وجد مكتب أحسن طبيبة محنكة ستلبي مَأْرَبَه. لم ينتظر، حتى يُكٔمِلَ الحارس كلامه لقد ارتمى بسرعة داخل المصعد، وكأنه رائد فضاء يركب مكوكا يشق غبار السماوات بسرعة الضوء، يُبْعِده عن كوكب الأرض، كوكب الفتن والمحن، ويحط به على جِرْم تتحقق فيه كل الأحلام ، وينتهي عنده شريط أحزان بني آدم.

توقف المصعد أمام مكتب الطبيبة، فقَدَّم خطوة متثاقلة، مترددة، مثقلة بكل أنواع الهموم حتى لا يُحْدِث حـِسّا، فالخوف أرخى سُدوله على نفسيته المضطربة التى بات السكون  والانعزال يهددان توازنها.

دعته المكلفة بالاستقبال الى الجلوس وانتظار الدور بعد أن خصته بابتسامة كحلت عينيه، فلها كباقي المكلفات تَجْميعَةُ ابتسامات مختلفة تُمْنَحُ حسب اختلاف الزبائن. امتثل وجلس وكأن الطير حط على رأسه، حيث وُجِدَ قابعا في وحدة أباحت خوفه من سكون قاعة الانتظار، قاعة بسيطة التأتيث: تلفاز قديم معلق على أحد الجدران شُغِّلت عليه قناة دينية وجب استخدامها لإضفاء مزيد من الروحانية وإعطاء بعد نفسي لمن يستمع لتلاوة القرآن الكريم في مثل هذا المكان، وطاولة مستطيلة الشكل وُضِعَتْ عليها بعض المجلات الطبية المهترئة التي لا تزيد الزبون إلا حيرة وتساؤلا عن وجوده وتواجده عند طبيبة نفسية…

بتكاسلٍ منه قام وتوجه مباشرة إلى غرفة العلاج، بعد أن رن الجرس وأيقن أن دوره قد حان لرؤية الطبيبة، هاته الأخيرة رحبت به قائلة:

– تفضل سيدي اجلس، وقل لي ما خطبك وما مشكلتك؟

– سيدتي الطبيبة ، بكل صراحة تاقت روحي إلى الحرية وتيه الشباب وعنفوانه. فضاق الصدر ولم أعد أحتمل ضغوط الحياة، حيث سَجَنْتُ نفسي لمدة زادت عن ربع قرن وراء قضبان يقال أنها ذهبية، حتى أدخلني الروتين والرتابة وغياب القدرة على الفعل، إلى نفق مظلم طُمِسَتْ داخله كل الحواس.

– حسنا، ما مهنتك؟

– مهنتي ، كثرة الكلام، وإنارة الظلام وإزاحة الجهل من عقول الأنام، تكفيني كلمة شكر لأهب الغالي والنفيس، وأنشر المعرفة وأمحي الأمية و الأوهام. لقبوني بالرسول، “لأني أحمل هم الوطن بين الأفكار بكل آلامه وأثقاله دون انحناء”.

تبسمت الطبيبة وقالت :

– طبعا فبحكم امتهانك للتدريس وانتماؤك إلى أسرة التعليم، في حد ذاته مجلبة لأنواع الضغوط التي تؤثر على النفس. فماذا تنتظر من طبيبة أن تفعله من أجلك؟

– سيدتي عجزي عن الجواب هو ما جعلني أتواجد بمكتبك، ولربما الجواب يكمن في ثنايا معرفتك لخبايا النفس والشخصية التي تتمظهر خلالها وخلال علاقاتها التبادلية بالواقع والمجتمع.

وفي خضم بداية هذا الحوار، ليستريح أستاذنا من إجهاد بدا عليه، طلبت الدكتورة منه أن يستلقي على سرير طبي خصص لهذا الغرض.

أغمض عينيه وسبح حيث جرته رياح التسكع إلى ملكوت العالم العلوي، فرأى شخصا ما يحمل معولا صلدا  يكسربه آثامه وذنوبه، ويفك قيوده التي نحتت آثارها على نفسه المريضة  والمتمسكة بخشونة الخطأ، ويسقط به قناع كارثة فشله التي تحجب عنه الخلاص من وشم المسكنة و الخداع.. استفاق مذعورا وقلبه ينبض بسرعة على صوت الدكتورة التي مدته بإناء ماء قائلة: ” خذ هذه الكأس واشرب جرعة من الماء ترد بها النَّفَس.” كان صوتها عذبا رخيما رحيما يشبه صوت  المرحومة جدته من أبيه عندما تناديه لتمنحه قطعة حلوى أو حفنة من حمص منقوع ومطبوخ في ماء مالح ( حمص كمون او طايب وهاري) ،أو لردع عقاب الوالد الذي لامحالة واقع عليه وهي تقول “الله الله أُوليدي مسكين، تْفَرْقو عليه راهْ باقي صْغير”.

فبعد أن عدل جلسته وهدأ من روعه، توجهت له الدكتورة بالقول :”أثناء غفوتك هاته أطلقت من العقال كلمات متقطعة وعبارات غير مفهومة أبانت عن أعراض ضغط نفسي بسيط مرتبط بـشعورك بالضيق و بعجزك عن تحمل أعباء واقعك الاجتماعي. وهي حالة انهزامية تحتاج فقط إلى إعادة الثقة بمن حولك. ولا تتطلب إلا أخذ بعض المهدئات لفترة قصيرة ليستقيم نومك وتعود نفسيتك الى وضعية الانطلاق. وستكون الأمور إن شاء الله بخير.”

سُرَّ بكلام الطبيبة الذي ألهمه  الكشف عن رأس الخيط الذي أحكم إغلاق الدائرة المظلمة وحرمه من جواز السفر لاستشراف المستقبل بفكر إيجابي يؤهله إلى تصحيح ما أفسده الدهر.

ثم عاد أدراجه إلى بيته ممتطيا الحافلة البلدية التي تحولت نوافذها إلى شاشة لعرض مشاهد “فيدباك”من التاريخ المنسي لصاحبنا بحركة بطيئة تتجه إلى الخلف .

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!