مناقيرُ مبتورة/بقلم:زهرة عز(المغرب)

شارد الذهن يتأرجح على كرسيه المريح، لم يسمع طرق الباب. دلف رأس صغير بعيون جاحظة. رفع رأسه، ابتسم الطارق ابتسامة نصر أبانت عن أنياب متراصّة وأسنان صناعية كان دفع فيها مالا كثيرا حتى يغري الجنس اللطيف. لطالما عانى من ابتسامته المخجلة. وباستكانة خاطب سيده:
-لقد انتصرتَ سيدي، وكلّ خصومك تواروا ، الكرة في ملعبك والعالم على مرمى قدميك.
بشرى لطالما انتظرها لكنها لم تحرّك فيه ساكنا. وعندما لم يعره انتباها واكتفى بكلمة حسنا، أسرعت قامته القصيرة في الانسحاب، تتعثر في أذيالها هيبته ويأكل جثته الفضول: كيف لا يبالي الرئيس.
غرق عبد الرحيم من جديد في عالمه، ثم بغتة تأبّط شرّه وخرج مسرعا من المكتب الفسيح.
أخذته قدماه إلى دكاكين المدينة القديمة. دلف في زقاق ضيّق، سأل عن وجهته ثم تابع السير.
كان المساء ممطرا وغائما أسدل ظلّه على الكون وأسقط العتمة من الضّوء وهو يخترق جدران الأزقة المبلّلة ويغرق كل الأحلام الصغيرة لساكنيها. أحلام استعصى عليها النموّ في وحل الضّباب .
عند نهاية الزقاق، تنفّس الصعداء أمام دكان بيع الكتب القديمة النّادرة. هناك تجد كلّ غريب وعجيب. أنّى شيعتَ عينيك، تلقفك رفوف من كتب السحر متراصة. وحيثما جال بصرك ثمة صحائف وطلاسم وكتب صفراء.
دلف من الباب الخشبي العتيق يبحث بنظراته الحائرة عن صاحب الدّكّان وسط ضباب الحروف المنبعثة من أكوام الكتب المبعثرة. سأله البائع عن مطلبه:
– أبحث عن كتاب يتناول تناسخ الأرواح.
استخرج العجوز من درج قريب ‘فكر البوذيين’ وناوله إيّاه.
– ستجد ضالّتك وقد تجد نفسك يابني. فإنّي أرى ظل طائر مخيف!
ظلّك هذا يدخل عنوة بينك وبين قلبك.
ولا خلاص لك منه إلاّ بالتطهّر.
سأله بريبة:
– أ أنت ساحر سيدي؟
-بل قارىء نهم قضيت سنوات عمري بين الكتب حتى وقفت على أسرارها. والثمن كان غاليا، أطفأت الحروفُ نور عينيّ. وأكاد الآن لا أرى إلاّ الأطياف والظلال.
عند عودته إلى البيت، أقفل غرفة مكتبه بالمفتاح حتّى أن زوجته الشابّة ساورتها شكوك معتقدة أن له حبيبة افتراضية يبادلها الغزل والقبل. وضعت أذنها على باب الغرفة، لم تسمع سوى حفيف أوراق وهمهمات غير مفهومة.
وهو يقلّب أوراق الكتاب بلهفة، سرح به الخيال بعيدا هناك ببانكوك ذات زيارة لمعبد بوذا.
يتذكّر جيّدا وقوفه عند قدمي تمثاله العملاق الذهبي، منبهرا بكل البذخ والجمال. استرعت انتباهه حينها جرر صغيرة مذهّبة، أخبره المرافق أن البوذيين يؤمنون بتناسخ الأرواح. وبعد الموت هناك دائما ولادة جديدة، فاحتمال أن تكون روحه سكنت يوما امرأة او كلبا او قطا..
تأكد أنه لم يسكن يوما امرأة… لم يتأثر أبدا بدمعة طفل او ابتسامته. ولم يعرف معنى الوفاء او بحث عن الدفء في عيون الاخرين لذلك احتمال ان تكون روحه سكنت كلبا او قطا منعدما.
استوقفته جملة داخل كتابه العجيب، قد تكون روحه سكنت يوما شجرا أو حجرا فلسانه خشبي وكلّ خطاباته جامدة. ولولا برك المال لما استطاع شراء الآخرين لذلك جاء احترامهم زائفا و مبلّلا بالعفن.
و أثناء رحلته الصّاروخية الى السلطة اكتفى بجراب مليء بالوعود وبتكاثر الخطايا كزاد لاغنى له عنه.
يتذكّر كيف كان يرسم دائرة بفكره وكيف كان يتفنّن في شدّ حبل من حباله الصّوتية لربط القاعدة حدّ اختناق تفّاحته. ثم كيف كان يقفز بحبور وشقاوة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ذهابا وإيابا. يتنقل بين صفر درجة ومائة وثمانين درجة بخفّة بينما تتساقط القناعات من جبّته تباعا. أدرك عبد الرحيم مستكينا أن روحه قد سكنت يوما قردا من الأدغال لطالما صدّق نظرية داروين.
تناول ورقة بيضاء وبدأ يخطّ عليها باللون الأسود .كتب اسمه وسط الورقة ثم بدأ في تعداد كل الأجساد التي سكنها ذات مرّة: حجر، شجر، قرد…
توقّف لحظة ، لابدّ ان تكون هناك روح أخرى هي المهيمنة وتستحوذ على كلّ كيانه. بفضول عنكبوتي نظر الى جدار مقابل له. ظلّ طائر أسود يخرج من العدم بصخب حتّى تناثر تراب مبتلّ بدم الغزال بالجوّ وكلّ العصافير بلعت لسانها فزعا. مدّ عبد الرّحيم ذراعيه كأنه يلامس السماء ففرد الطائر العملاق جناحيه. أخرج لسانه فاذا بالطائر يمدّ منقارا حادّا اخترق العتمة وكاد يفقأ عينيه. شعر برهبة كبيرة، اقترب أكثر من الطّيف الذي بدا عملاقا ونظر إلى ماوراء محاجر عينيه الثاقبتين. ورآه هناك أعلى الشجرة داخل العش بيضةً كبيرة يكسر غشاءها، ثم يسارع برمي البيض والعصافير الصغيرة خارج العشّ بمنقاره الحاد وأجنحته. رأى جدران العشّ وقد احتضنت مواكب الصمت والسكون بعدما تهاوت كل مقاومة للنجاة فاستلقت الزقازيق المبحوحة متعبة إلى جانب أجساد عصافيرها الصغيرة ،محتضنة الخيبة والألم وأجنحتها الجريحة. كلّ معنى للحياة سقط حينها من العشّ، مناقير مبتورة ونزيف مبلّل بالأنين. أجنحة صغيرة تقطر دما مكفّنة بألوان الزهور على أقدام الشجرة. أرواح بريئة غادرت أجسادها بحثا عن حيوات أخرى لربّما استطاعت التصدي للشر . والأم المخدوعة تحيط الطائر المخيف بحنانها وتطعمه حتى يكبر.
هي اذن روح اللقلاق قد سكنته ذات طمع واستيقظت بشراسة داخل عمقه.
ابتسم وهو يعدّ في سريرته كلّ الخصوم الذين ترصّد لهم ورماهم خارج مدار طموحه. تضاحك بخبث وهو يتفرس كل الأحلام التي التهمها كذئب جائع. هي المتاهة اذن تحضر عندما تتوارى الضّمائر وقد تأتي على هيئة لقلاق لترمي بكلّ الآمال.
وفي لحظة إحساس بالرّاحة والرّضى، عانق عبدالرّحيم طيف طائره رأى فيه جمالا لامتناهيا..
وفيما كان الطائر العملاق ينشب عميق أظفاره في أسماله محلقا.. تطايرت الأوراق حفيفا.. حجر، شجر، قردة ولقالق .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!