من حكايات ذوات الأربع /بقلم:شوقي دوشن.

ظلت تتوارد إلى ذهنه والضرب المبرح ينهش ظهره ،ذكريات طفولته الجميلة،كان جحشاً صغيراً يرتع مع أمه،يركض بانتشاء هنا وهناك،مدرباً قدميه ورجليه على الركض موقنا أن الحياة تفتح له ذراعيها.

تنطر أليه أمه بذلك الحنان الغريزي وترعاه ،بينما هو يلهو غير مكترث بشيئ سوى بالحليب الذي تدره له،ينطلق بحماس لامتصاصه بنهم حينما يجبره الجوع على ذلك ،وأحياناً أخرى من أجل أن يشعر بالأمان والإطمئنان .

لم يدر بخلده أن الأوقات تتغير، وأن الأحوال لا تبقى على حال. لقد بات موقناً بأمر واحد ; لن يكون مصيره إلا كالذي عليه أمه.

في اللحظة التي تقصم الضربات المتتالية ظهره وتقضم جلده،ماكان ليشعر إلا بأمرين اثنين في اللحظة الراهنة يحس بوطأة ألمهما;
الجوع الذي يعتصر معدته ،والضرب الذي يتوالى بلا رحمة. ألم الضرب فظيع والأفظع منه
ألم الجوع الذي ينهشه نهشا رهيبا.

ذلك لم يمنعه من تذكر أمه حينما كانت تُسرَج إلى عربة صغيرة لتنطلق في رحلات طويلة تارة وتارة قصيرة.
بدأ يألف تلك الرحلات لأنه كان قد بدأ يرافقها وهو يتنطط بفرح حينا وحينا يمنعه الكسل أو التعب من ذلك .

في ذروة الألم،تذكر أيضا أن أمه بشحمها ولحمها كانت تــُضرَب وبقسوة،غير أنها وبرغم ذلك كانت غالبا ما تبات ممتلئة المعدة.كانت عصب العلف والعشب تكاد لا تغيب عنها معظم الأوقات ،؟وفي سبيل ذلك تبذل جهدا مضاعفا في العمل.
ما يجعله بائسا في هذه اللحظة ،أن الأمل يبدو مفقودا في الحصول على طعام يبرد معدته الخاوية.

سالت بعض الدماء من جرح أصاب ظهره،جسده الناحل لم يعد يحتمل المزيد،خاصة عندما تقع الضربات الموجعة على عظامه الناتئة البارزة كأعواد خشب نخره.

في الأوقات الماضية من أيامه ،وقد أشتد عوده وصار قوياً كفاية ،وقد بدأ يتذوق حلاوة العشب الذي ما فتئ يفضله على حليب أمه ،عندما وقر إلى ظنه أن الأوقات السعيدة في انتظاره وأن السرور مقبل عليه من كل اتجاه. في خضم تلك الأمنيات فوجئ ذات يوم بما لم يكن في الحسبان. حبل غليظ لف عنقه لأول مرة ،كان هذا مستهجناً بالنسبة إليه و على مسافة ياردة أو أثنتين وقف رجل غريب ممسكاً بذلك الحبل محاولاً جرَّه إلى خارج الحظيرة ،مأواه الذي احتضن طفولته، لكنه لم يستسلم وقاوم في استبسال وهو يتراجع للخلف مثبتا حوافره بقوة في الأرض.غير أنه ظل يتساءل في نفسه عن هذا البغيض الذي يحاول جرَّه بعنف وعن تلك القسوة التي تكتسي وجهه .
هل يعقل أنه بصدد تفريقه عن أمه وصاحبه ،لكن كلا ،سيثبت لصاحبه كم انه قوي ولن يخضع لغمغمات ولهاث ذلك الغريب ،لن يتحرك قيد أنمله ولن يستجيب أبداً لإرادة ذلك المتطفل.
أنتبه لنظرات صاحبه التي بدأت تتغير ،وتظهر على ملامحه علامات الغضب،
علامات غضب ظنها لصالحه ،بعدها جاءت المفاجأة المدوية، بحمل صاحبه عصاً غليظة ،أقترب منه وألهب له ظهره بضربة كادت تقصم ظهره، كانت قوية إلى درجة أُجبِرِ من هولها على الإنصياع والتحرك للأمام كذا خطوة.

وبينما يُجَر ويُسحَب رغماً عنه ــ طفرت له دمعة، وتعاقبت التساؤلات وطنت في رأسه ،في حيرة مما يجري دون أن يجد لها إجابة.
ومن باب الإسراع بأمر ما لا يكاد يفقهه ،عالجه صاحبه بضربة أخرى أشد إيلاماً تقعر لها جسده ، إنصاع بعدها لإرادتهما.

كلا الرجلين كانا يتمتان بشئ ما أو يصيحان عليه ناظرين اتجاهه نظرة غضب. وبالمجمل لم يكن ليفهم شيئاً ،فحياة البشر فيها من الغموض مافيها.
أُخرِج من مأواه متأسفاً،وبعد مسافة قصيرة،شاهد صاحبه يهرول باتجاه ذلك الرجل ورآه بأم عينه يناوله حزمة أوراق
وقطع معدنية أخذ يفركها باهتمام ،رغم ذلك ،لم يفهم أو يفقه ما يحصل أمامه،الشئ المؤكد الذي يعلمه تماماُ ..أنه لم يحظى برؤية أمه منذ ذلك اليوم.

عاد من فصول ذاكرته إلى واقعه المؤلم الذي لا تزال تجري أحداثه وتفاصيله ويتجرع ويلاتها.
توقف الضرب الآن بالعصي وبكل ما حملته أيدي من أرادوا له أن يتألم ويترك المكان. وفيما ركلة قوية لاحقته وأصابت فخذه،عاجل بالإنصراف مهرولاًخوف المزيد. ولقد اختلط عليه الأمر ،فما عرف أيهما أشد إيلاماً ،مايعانيه من تعذيب أم قرصة الجوع المؤلمة.
إنزوى إلى ركن بعيداً عن الأنظار، ،شعر بالالام توخزه لكنه تحامل على نفسه وبرك مضطجعاً ،ثم أخذ يتذكر تخلي صاحبه عنه لشخص آخر، كان عجوزا ولقد أستعمله في نقل البضائع من وإلى السوق تكسبا للرزق.كان العجوز يسرجه إلى عربة خشبية صغيرة ويظل يعمل طيلة الصباح حتى الظهيرة مقابل قليل من العلف والماء وكثير من العنف ترك آثاراً وندوباً تكاد لا تبرى.

في ذروة تبحره في الماضي القريب ، تذكر غيرته من جمل كان يجر عربة كبيرة من العلف ،وكان صاحبه يرمي له قبضات كبيرة منه بين وقت وآخر ،وبعكسه هو ،كان الجمل يحظى باهتمام واضح.
ذات مرة رآه قادما من بعيد ،كان الجمل رغم حمله الثقيل يمشي بخيلاء وكبر .
ولا يلبث ،عند ذلك ،أن ينهق مرحبا بالجمل وبحمله اللذيذ، يظل ينهق وينهق والعربة المحملة بالعلف اللذيذ تمر من أمامه، أحس بالجمل ينظر إليه شزراً ، و لا يعبأ به ،بعدها رويدا رويدا يغيبون عن الأنظار،وتذهب نهقات الترحيب أدراج الرياح ،ولم تنفع نهقات الإستعطاف في شيئ. كان يتوسل بأن يعطوه من تلك العصب العشبية ،فقد أنقضى أسبوع لا يأكل سوى بقايا طعام جافة عمرها تعدى أسابيع.

مازاده دهشة وألم وحزن،هو تجاهل صاحب الجمل له وعدم إحساسه بمعاناته .ذلك البغيض يقوم برمي عصبات العلف لمواشيه ليلاً ونهاراً ولذلك كان ينهق بحرقة ; البشر لا عدالة فيهم ،البشر ظالمون.

حالة التشرد التي يعيشها الآن ساقته إلى حال لا تعجبه. بلغت النحافة منه مبلغاً وأحس كمن قد شارف على الموت،لكن فكرة الموت جوعا تفزعه ولذلك استجمع ما بقي له من قوة.
ففي إحدى الليالي المأساوية ،جاء الجمل وصاحبه كالعادة محملين بالطعام. هذه المرة لم ينهق كثيرا ،وقد عزم الأمر على القيام بشئ ما.
أسال العلف لعابه ،وقد أكد لنفسه بأن الفرصة لا تأتي سوى مرة واحدة.
وبكل قواه حاول عدة مرات الفكاك من قيده حتى كتب له النجاح وفك قيده ،أدرك حينها أن القيد لم يكن بتلك القوة وكان مهترئاً،وندم كيف ظل طوال تلك الأيام والليالي ينهشه الجوع ويقاسي الظمأ ،فلا صاحبه الجديد أهتم لأمره ــ والذي غاب عن ناظريه منذ ليال ــ ولا أحد آخر رأف لحاله.

أما الآن فقد غدا حُرّاً. والطعام أضحى على بعد ياردات منه ،وهاهي العربة أمامه،ولسوف يغامر ويأخذ نصيبه.
ما أن اقتربت العربة حتى هجم عليها كوحش مفترس
واستطاع أن يقضم لقمة كبيرة من العشب الطري اللذيذ.

وبدأ يلوكها بفرح، لكن فرحته لم تدم طويلاً،إذ هوت على ظهره الناحل ضربة أحسها كالزلزال،جعلته وهو المنهك من الجوع ،يفترش الأرض وقد تباعدت سيقانه عن بعضها، ولم يقوى على الحراك. وعلى مسافة قريبة جدا من خلفه ،وقف صاحب الجمل لاهثا وبيده تلك العصا الغليظة البغيضة.
ظل لدقائق على حالته تلك قبل أن يحاول الوقوف،فيما واصلت العربة طريقها.وقف ومشى ولكن بطيئاً جداً.

ظلت فكرة الحصول على الطعام تراوده، وفجأة وهو على يأسه ذاك ،إذ رأي طفلاً يحمل سلة يتدلى منها قرصين من الخبز،سال لعابه لهما ، ولأنه بين أمرين لا ثالث لهما ،إما الحياة وإما الموت ،وعليه أن ينجو بحياته .
هجم محاولاً اقتناص القرصين ،لكنه وجد مقاومة من ذاك الطفل الذي أخذ يصيح ويبكي في رعب.
حاول أن يقضم الخبز وبدلاً من ذلك قضم أصابع الطفل الذي بدأ يستنجد .
تقاطر الناس نحوهما وقد انهالوا عليه ضربا ورفسا
وبكل ما وجدوه ميسراً أمامهم من النعال والعصي والحجارة.فلم أحس بوطأة مايلاقيه تخلى عن الفكرة خائر القوى.
إنطلق يعرج بعيدا ولا يدري إلى أين حتى انزوى آلى ركن بعيد،توقفت مطاردته ، والآن أضحي شبحاً ووحشاً يخوِّف به الناس أطفالهم .
أشتد به الجوع والظمأ ولم يعد بمقدوره الإحتمال أكثر.
في اليوم التالي كان ممداً إلى أحد الحوانيت والذي قام مالكه برفسه كي يغادر المكان ،غير أنه ما تحرك قط،كان فاغراً فمه ،وعيناه مفتوحتان وجاحظتان ،كان جثة هامده.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!