مولانا (قصة قصيرة) – بقلم. محمد فتحي المقداد

لصحيفة آفاق حرة

 

مولانا..

قصة قصيرة
بقلم/ محمد فتحي المقداد

سيّارتان ملطّختان بالطّين والأوساخ توقّفتا أمام الصّالون، كأنّهما مُستَحاثّتان من سحيق الدّهر خرجتا، نزل من الأولى شخص غريب، مظهره لافتٌ بلباسه الحربيّ الأخضر المُموّه، طوله الفارع ألقى في نفسي مهابة عصيّة على التفسير، ألقى التحيّة وجلس على كرسي الحلاقة.
ردّي جاء بصوت خفيض خالطه الخوف و الوجل، تلعثم لساني وأن أحاول فهم طلباته، أيقنتُ من أهميّته من المرافقة المرابطة في السيّارة الخلفية، وهم يُشهرون أسلحتهم في كلّ اتّجاه، و أعينهم تدور في محاجرها كرادارات تستكشف كل نقطة وزاوية في محيطنا، المرافق الشخصيّ ترجّل خلفه، ويتابع كلّ حركاتي وسَكَناتي، طلب منّي تسليمه هاتفي النّقال.
تجمّدت الدماء في عروقي، الخوف طغى على أحاسيسي، فقدتُ السيطرة على أعصابي، التوتّر استفزّ كوامني الخاملة منذ زمان موغل في القِدَم، خانتني نفسي في استجماع كلمتين مترابطتيْن للترحيب به، اتّقاء لشرّه المحتمل إذا ما أخطأت، وللواجب المتحتّم عليّ تجاه زبائني.
بخطوة مفاجئة قام أحد الحُرّاس في الخارج بإنزال الباب السحّاب، انغلتِ الدنيا في عينيّ، أطبقتِ الهموم والأحزان على قلبي، أيقنتُ أنّ أوراق شجرة حياتي سقطت جميعًا، ولم تعُد ذات فعالية فيما يُذكر.
– المرافق الشخصي: سيّدي الجنرال، أنتظرُ أوامرك فيما أخطأ هذا الحلّاق، أو حاول فعل أيّ شيء.
انفتحت عينا الجنرال على اتّساعهما، مُبدِيًا دهشته مما سمع من المرافق، وقال: “أنا لا علاقة لي بالموضوع، هذا شأنك معه” .
– “يا إلهي ..!!، من أين وقعت عليّ هذه المصيبة”.
وجه الجنرال القبيح، حاجباه العريضان، شارباه متدليان يُخفيان تحتهما مغارة لا يخرج منها إلّا السبّ والشّتم، شعر لحيته الكثّ الأشعث ينسدل على صدره، رائحة الخمر تفوح مختلطة برائحة الدخّان؛ ليخرج مزيجُ الروائح الأقرب لرائحة المجاري الشّهيرة. تقزّزت نفسي. وصلت حدّ الاستفراغ، لكنّها حالة الخوف ألجمته، وأرجعَتْه إلى بطني.
قدماي تصطّكان، يداي ترتجفان، اللعنة..!!، كأنّني برجولتي تخونني، إحساسي ببرودة تسلّلت على ساقيّ. كنتُ قد سمعتُ وقرأتُ عن الجنرالات، وحفظتُ الكثير من جرائمهم، أمّا أن أكونَ في يوم ما وجهًا لوجه أمام أحدهم، هذا ما لم يكن بالحسبان.
طلقة واحدة من المرافق ابن الحرام، وبضغطة خفيفة من إبهامه سينتهي كلّ شيء، يا تُرى كم ستبقى جُثّتي مُلقاة على الأرض، ستمتصّ كلّ برودة الأرض المتسرّبة من الهيمالايا و الألب وحرمون، وكيف سينعكس اصفرارها على من يكتشف جُثّتي للمرّة الأولى؟ . هل ستتعرّف زوجتي عليّ أو أولادي؟. قاتلكَ الله أيّها الجنرال الشرّير، ومرافقك الوغد اللّئيم.

***
« سيموت الجنرال و في عينيه حرائق لم يشعلها»، نسيت قائلها. ذاكرتي ممسوحة، كأنّه لم يكن في الدنيا فرح أو سرور قَطّ، أعتمت مقلتاي الأسود صار سيّد الموقف، رغم أنّ التيّار الكهربائي يشتغل.
تنحنح الجنرال بصوته الأجشّ الكريه بوقعه الثقيل على مسمعي، وأشار بيده، المرافق من فوره يستخرج «سيجارة» ويشعلها، برفق يضعها بين شفتيّ الجنرال. خُيِّلَ إليّ أنهما شفيرا جمل هائج.
– الجنرال: “كان علينا أن نحرق الأرض والسّماء من تحت أرجُل هؤلاء الكَفَرة، ولا نتركُ لهم مجالًا للتنفُّس أبدًا، حسب وصيّة مولانا”.
-المرافق: “سيّدي..، و لكنّهم مدنيّون مسالمون، لا علاقة لهم بنظام أو ثوّار”.
-الجنرال: “حتّى و إن كان ذلك، سنشعل كلّ الجبهات حسب الاتّفاق مع حلفائنا”.
رنين مُتقَطّع على ثلاث دفعات، المرافق يمسكُ الهاتف النقّال بيده. ما انتهت الرنّةُ الثالثة حتّى ضغط باصبعه لاجراء اتّصال مع جهة ما، وضع الهاتف على أُذُن الجنرال، وقال: “نحن قادمون”.
الكلمة الأخيرة، وما سمعته قبل قليل من حواريهما على الجانب الآخر ، أخرجني من ذهولي، أيقنت أنّني أمام الفتيل الذي أحرق البلاد، ورأس الأفعى، و قوام الفتنة، إحساس مفاجئ في معدتي، شعرتُ برغبةٍ شديدة ملحّة في الذهاب إلى الحمّام بسبب الإسهال، حاولت ضبط نفسي، وأنا أضغط بكلّ ما أوتيتُ من قوّة كي لا تفوح رائحتي أمام الجنرال، ربّما يضغط المرافق على الزناد فورا، ولن أكون شاهدا على العصر.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!