نجم الدين سمان. طيارة طارت في الجو

لآفاق حرة

طَيّارة.. طارت في الجَوّ
بقلم. نجم الدين سمّان.

كلّما شاهدنا.. ونحنُ أطفالٌ أيّةَ طائرةٍ تعبرُ مُصَادَفةً سماءَ إدلب.. أخذنا نَهزِجُ:
” طيَّارة طارت بالجَوّ.. فيها عَسكر فيها ضَوّ
فيها إبراهيم هنانو.. راكِب عَ ضَهر حصانو “.

وأحياناً.. نُردِّدُ الشطرَ الثاني.. هكذا:
” فيها ابراهيم هنانو.. مرَكِّب بِنتُو قِدّامُو “.
مِن غَيرِ أن نعرِفَ.. لماذا؟.

سألتُ جَدّتِي الإدلبيّة:
– كان عند هنانو.. بنت؟.
– أحلى بنت.. والكِلّ طَلَب إيدها.

حَكَت لي جَدَّتي كيف اجتمعَ جَدِّي اسماعيل مع رجالات إدلب بالزعيم هنانو في بيت القائم مقام “عمر الأفيوني” من حكومة الملك فيصل؛ فأعلنوا عهداً على مُحاربة الفرنساوية بدءاً من أنطاكية؛ وبعد أكثر من معركةٍ أعلنَ هنانو من جبل الزاوية: دولةَ حلب المُستقلّة؛ ثم حاول دخولَ الشهباء.. لطرد الفرنسيين منها لكنه فَشِل؛ لم يستقبله كثير من الحلبيين؛ ثمّ خَانَهُ الأتراك؛ فهاجم الفرنسيّون إدلبَ في عِزِّ شهر كانون الثاني 1920 وقصفوها بالطُوب؛ تقصِد: بالمدفعية؛ وجاءت طائرةٌ.. فَطَبَّت قنبلةً علينا؛ وقعت عند “الرام” ولم تنفجر؛ دخل الفرنساوية فاعتقلوا الرجال وبينهم جدّكَ اسماعيل؛ ربطوا أيديهم بسلسلةِ حِبَال وقادوهم مشياً إلى سجن القلعة بحلب؛ وعلى الطريق صاح أبو سالم من ضيعة ”قميناس″ بالعِدِّيَة المَشهورة:

“دَرب حَلَب.. ومشيتو.. / كلّو.. سَجَر زيتوني
حَاجِي تبكي.. وتنوحي / بكرا منِجِي.. يا عيوني”.

بعد عقودٍ.. غنَّاها صباح فخري فنٌسِبَت إلى حلب؛ وأيضاً.. “صابونُ الغارِ” على غَرَار ما تفعلُ المُدنُ الكبرى.. بمَا حولَهَا.

سَرَدَت جَدّتي ما يُشبِهُ الحكايات الخرافية.. قالت:
– هاجمت ابنة هنانو القِشلة الفرنساوية مُلَثّمَةً مع مجموعةٍ من الثوّار “الجَتَا” تضرِب فَشَكّةً؛ ثم تنزِل برجلٍ واحدةٍ.. على مِهمَاز الفرس وتختبئ وراءَ بطنها؛ لتُخَرتِش البارودةَ.
فتعجبتُ: – كيف عرفتوها.. وهي مُلَثَّمَة ؟!.
لم تعبأ جَدَّتي بسؤالي.. فتابعَت:
– أصابت بنت هنانو أولَ جندي فرنساوي؛ واحتمت ببطن الفَرَس؛ انزَاح شمَاخهَا؛ وبَيّنت ضفيرتها؛ فعَرَف الأدالِبةُ أنها ابنة هنانو؛ فكبَّروا؛ ثمّ صَدَح أحدُهًم.. بمَوَّالٍ طازجٍ لتَوّهِ :

يا بنت هنانو.. يا بنتَ العُربَانِي
بيحِطّ النسِر.. بتهرُب الغُربَانِي
يا غِرِّة الفرَس.. يا شَعرهَا الضَاوِي
بتضرُب الفَشكِه.. بتقتُل فِرِنسَاوِي .

كان عُمر جَدَّتِي الإدلبيّة فوق السبعين؛ ولم أكترِث إذا كانت تلك الحكايةُ صحيحةً؛ أو.. نِتاجَ خَيالٍ وتَوقٍ شَعبيِّ لثورةٍ.. لم تَدُم؛ وستُضافُ حكاياتٌ مِثلُهَا بعدَ أقلَّ من مِئةِ عامٍ؛ عن ثورةِ السوريينَ عام 2011.. ضِدَّ طُاغَيَتِهِم؛ وهو يقصِفُهُم بالطائرات ثمّ تتجدَّدُ الأُهزوجَةُ هكذا:

طيّارة.. طارت بالجَوّ / فيها عَسكَر.. فيها عَوّ.
فيها.. بًمبَه كِيمَاوي / فيها براميل.. كِلَّا بَسَامِير.
فيها.. غاز السارين / فيها غُول.. ما فيها ضَوّ “.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!