نجيب كيالي. الحقيبة السوداء

لآفاق حرة

الحقيبة السوداء
قصة قصيرة
بقلم. نجيب كيالي

في أحد البلدان صار للحقيبة الجلدية السوداء يحملها شخص بيده اليمنى مع شدّ الظهر دلالة سياسية، يعني أنه مسؤول أو شيء مهم، وفي أحد الأحياء أخذ أبو محمد- وهو رجل بسيط درويش- يظهر فجأةً، ومعه حقيبة من هذا النوع! بل كانت حقيبته منتفخةً كبطن الحامل! كذلك بدا منتصباً في سيره أكثر من المعتاد!
تعجَّبَ أهل الحي، وزاد عجبهم، فمع الحقيبة ذات الكرش كَثُرَ خروجه من البيت ورجوعه منه، وكلما استوقفه أحدهم وسأله:
– إلى أين؟
ردَّ بسرعة وهو يتابع المسير كمن يريد أن يلحق سيارةً هوب هوب تتحرك:
– عندي موعد.
زاد الفضول الشعبي الذي يفرِّخ كالصيصان، ويطير داخل القلوب كذباب الصيف، وأخذت الأسئلة تنزلق إلى الألسنة:
– هل حصل أبو محمد وهو في هذا العمر الكبير على منصب، وصارت له بعد الكبرة جبة حمرا؟!
– هل مدَّ أبو محمد يده للعمل في تهريب الممنوعات المنتشر هذه الأيام، وهبطت عليه ثروة كبيرة؟!
– إيه يا جار كيف ستردُّ على أمثالنا، وقد أصبحتَ من أصحاب المقامات والرُّتب؟!
تَبِعَهُ أحدهم ذاتَ ظهيرة، فوجده يدخل إلى عمارة كبيرة، فعاد يقول لجماعة من أهل الحي:
– ظنُّنا في محله: أبو محمد طار إلى فوق، طار وعَلَّا. الدنيا عجيبة، وعلينا أن نغيِّر معاملتنا له!
صار أهل الحي ينحنون عند مروره، وينهضون عن كراسيهم التي يجلسون عليها أمام بيوتهم، أو على ضفة المقهى الصغير مع رفع اليد كما كان يفعل المطرب محمد عبد المطلب. أما تحيتهم له فتشكيلة منوَّعة مثل:
– طبق ورد وفل. يا أرض احفظي ما عليكِ.
أو
– أهلاً.. أهلا، أشرقتِ الأنوار، وحلَّتِ البركات، وتفتحتِ الزهرات.
أبو محمد كان يتعجب من تبجيلاتهم الجديدة، ولم يفهم سببَها، وهو- من ناحيته- كان شخصاً بسيطاً قليلَ الكلام، وقليلَ الاختلاط بالناس، لكنه كان يكتفي بمط أنفه مع القلق وهو ينظر في المرآة إلى وجهه الذي يزداد شحوباً في الآونة الأخيرة، ويلمس بيده حافة شيء سميك يلتف حول عموده الفقري، وله علاقة بمشيته المنتصبة الشبيهة بمشية العناتر!
في البيوت بعضُ النسوة وبَّخن أزواجهن، لأنهم لم يعرفوا طريق الطيران إلى فوق كأبي محمد، وبعضهن قلن: إنَّ على زوجته أن تصنع له حجاباً يحرسه من العين، وبعض الرجال التقط له صورةً، ووضعها بروفايلاً على موبايله! وكثيرون وكثيرات رددوا بنبرةِ حسدٍ عالية:(يعطي الإجاص لمن ليس له أضراس)! وأحدهم كانت له بعض الخبرة بنظم الشعر، فجهَّز قصيدة، منها هذان البيتان ليقدمها له عندما تحين فرصةٌ مناسبة:
أُحبُّك يا أميرَ المكرماتِ
وأعطيكَ البقيةَ من حياتي
وطبلَ الحب أقرعه بشوقٍ
ليملأ صوتُه كلَّ الجهاتِ
ومرةً وقع الأعجب والأغرب: زاره واحدٌ من أبناء الحي مترجياً إياه أن يُدبِّر بنفوذه عملاً لابنه القاعد في البيت دون أي شغل!
– وهل صرتُ محافظاً أو وزيراً على غفلة؟ (قال أبو محمد مبهوتاً).
– ولو.. أنت لهذه وللأكبر منها.
وأضاف الزائر:
– قَسَمَاً عَظَماً حقيبتك وحدَها تتدبَّر ألفَ عمل، وألفَ وظيفة!
أطلقَ أبو محمد ضحكةً كبيرة على غير عادته، ضحكته مسحت مؤقتاً قسماً من شحوب وجهه.
ولما جاء بالحقيبة وفتحها ذُهِلَ الضيف الزائر، فقد أخرج منها أدواتِ رجل مريض لا همَّ له إلا زيارة الأطباء: دستة ضخمة من وصفات الدكاترة، مجموعة كبيرة من الأدوية، مع بخاخ للربو، مع جاكيت يستعمله إذا داهمته نوبة برد، حتى إنَّ الحقيبة تحوي حفَّاضات قطنية، فالظاهر أنه يعاني من السلس البولي!
قذف أبو محمد الحقيبة إلى حضن زائره قائلاً:
– خذها لتتدبَّر عملاً لابنك أو لمن تشاء من أهل الحي.
*
٢٠٢٣/٨/٤

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!