الصحفي وليد العودة يحاور الروائي محمد فتحي المقداد

لصحيفة آفاق حرة

الصحفي والإعلامي السُّوريّ “وليد العودة”

يحاور

الروائي “محمد فتحي المقداد”م

حمد فتحي المقداد روائي سوري من محافظة درعا وتحديداً من مدينة بصرى الشام التي ترقد بداخلها  قلعة بُصرى ومسرحها الشهير، عَشِقَ الكتابة والقراءة منذُ صِغَرِهِ  واستهوته الحِلاقة  فاحترفها  وعاشَ من مردودها ولايزال، كتب القصّة القصيرة والقصَّة القصيرة جداً  والرواية والمقالة  والعديد  من الدراسات  الأدبية، صدر  له حتى  الآن  أربعاً  وأربعين  كِتاباً، وفي  جعبتهِ الكثير  من  المخطوطات  والمشاريع المستقبلية.

فاز المقداد بجائزة الأديب محمد إقبال حرب للرواية العربية عام ٢٠٢١  عن مجموع أعماله الروائية.

من أشهر رواياته نذكر له: (دوّامة  الأوغاد   والطريق  إلى الزعتري  وفوق  الأرض  وبين بوابتين  وهي رواية تسجيلية، وتراجانا  ورواية  دع الأزهار تتفتَّح، وخيمة في قصر بعبدا) ، وغيرها إلى جانب الكثير الكثير من القصص والكتب المختلفة والخواطر والمقالات.

معهُ  كان  حِواري  التالي الذي حاولتُ الغوص في دواخله، وهو جديرٌ بالمُتابعة  لِمَن  تستهويه  الثقافة عموماً، وعُذراً  من القُراء؛ فقد يبدو الحوار طويلاً، ولكن مع قامة  أدبية كقامة الروائي “محمد فتحي المقداد” سنستمتِّع  بحديثه ولاشك.

وفي البداية سألته

*لو تحدثنا عن طفولتك وصباك  وطبيعة دراستك واهتماماتك بأسطر قليلة؟

**يا لطفولة لم أعشها..!! خُلقت هكذا لا أدري على وجه الدّقة؛ ما هي أوّل كلمة نطقتُها؛ لكن من خلال إحساسي العميق: “ماما.. بابا”، حالة نسيان رهيب استفقتُ منها في الصفّ الأوّل على المُعلّم وكتاب القراءة، من جديد.. استعدتُ ذاكرتي لأكتب أوّل كلمة في حياتي: “ماما.. بابا”.

لم يكن عندي كيس أو كرتونة للألعاب مليئة بالألعاب المختلفة؛ لأحتار بأيّ منها ألهو، أو أُحطّم أكثرها في حالة غضب ممزوجة بالملل السّريع منها، درّاجة ذات الثلاثة دواليب بمقعدها الخشبيً القاسي، لونها الأحمر شوّه ذاكرتي، ووَسَمها تشاؤمًا منها، وأضاع عليّ متعة مُراقبة قوس قُزح، ومحاولة قيادتي لها الفاشلة بين الأحجار الناتئة كرؤوس الشّياطين في ساحة بيتنا الترابيّة، وخارج البيت الأزقّة والطّرق لم تكن مُعبّدة بالزّفت الأسود بتوقيت بُصرى آنذاك.

إلى الآن لم أُدرك ميلي الشديد لعود الثقّاب برأسه الأحمر المُدبّب الصّغير؛ المُغري بإشعال الحرائق للورق ومخلّفات الأشياء. تخويف شديد من النّار بألسنتها التي لا ترحم. وانتهت صلاة عيد الأضحى لأدخل في حالة بُكاء وفقدان حذائي البلاستيكيّ بلونه الأحمر.. يا لتعاستي.. البِشرُ يرسم خطوطه على وجوههم، وهم خارجون من بُوابة الجامع، عبارات متبادلة بالتهاني والأمنيات، ودموعي لم تتوقّف، تُعاند حيرتي الحزينة، وأنا أبحث عنه مع بعض الذين يكبرونني بسنوات، كنتُ جازمًا أن لا طفل آخر في القرية كلّها يمتلكُ هذا اللّون؛ لأنّ أبي أحضره من الشّام على حدّ زعمي. وصلتُ البيت حافيًا خائبًا من يومها فقدتُ الإحساس بفرحة في العيد.

*متى بدأت الكتابة يا تُرى،  وبمن تأثرت وأُعجبت؟.

**اهتمامي بالكتابة مترافق مع القراءة، وهي النتاج الطبيعيّ للقراءة. وهي إعادة تدوير للمختزن الواعي واللا واعي في رواسب الذاكرة. وأعتقد بتأثير القراءات. لكن من غير المؤكد أن التأثؤ بكاتب ما هو تقليد له، إنما هناك صناعة نص جديد بروح كاتبه، ممكن أن يحجث التشابه ببعض الخيوط والمؤديات. لكن بالقطع هنلك نص جديد.

 *لماذا  تأخرت  في  إصدار  نتاجك  الأدبي قصة رواية مقاله؟.

**في الأساس أنا قارئ مُتعلّق بالكُتب ومهتم بها منذ صغري مع بداية تفتح وعيي على الأبجدية العربية، ومبادئ القراءة والكتابة. تكوّن عندي محتوى مُثقل بالثقافة والمعرفة،  ومع وصول خدمات الأنترنت أواخر العام 2008 وبداية 2209، وتعرفي على أدواتها، ومن خلال المنتديات الأدبيّة وجدتُ مُتّسعا من حرية التفكير، والرغبة الجامحة لإفراغ مُحتواي المليء بفيوضاته المتعددة الأوجه المعرفية. بشكل طبيعي ربّما كان ظهور أول كتاباتي متزامنة مع وصولي لتقنيات التواسل عبر الشبكة العالمية للأنترنت.

 *هل كتبت في صُحف محلية أو عربية ياتُرى؟.

**بكل تأكيد نشر لي كتابات في العديد من الصحف العربية المحلية (الأردن)، وفي الخارج وهي كثيرة. يظهر الكثير متها من خلال محرك البحث جوجل.

 *كيف تجمع بين الكتابة والعمل في الحِلاقة؟.

**كمل تعلم من لا مهنة له لا يمكن أنويعيش بكرامة، منذ بدايات توجهي لسوق العمل، امتهنت الحلاقة كهواية، ثم تحولت إلى مهنة اساسية لاكتساب العيش. أما الكتابة فهي مهارة خاسة عندي، استطعت تطويرها، ومن خلالها قدمت مادة أدبية ذات محتوى محترم، إلى هذه اللحظة بلغ (44)كتابا. توزعت عاى مساحات القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا (ق. ق. ج)، والخاطرة، والمقالة الأدبية، والرواية التي أخذت جُلّ اهتمامي بها.

 *ماهي  طقوسك الخاصَّة في الكتابة؟. هل تميل للكتابة في الليل أم النهار؟.

**كما يُقال في ثقافتنا الشعبية: (إذا دَرّت عَنْزَكَ اُحْلُبْها)، الكتابة عندي تتولد كرغبة وحاجة مُلحّة، غير خاضعة لوقت وزمان أو مكان، عندما تتولّد الفكرة تُلحّ عليّ فتستولي على دواخلي، وتنعكس بمؤثراتها على مظهري. ممكن أن أكتب في الباص، أو أتوقف على قارعة الطريق، أو أجلس لطاولتي مع فنجان قهوة، في الحقيقة الفكرة لن تنتظرني حتى أهيئ نفسي لاستقبالها بكل راحة صمن طقس خاص، الفكرة كالعصفور تتفلت للهرب إذا لم تُقيّ دها، وتقييدها هو بالكتابة حصرًا. كم ركضت وتعبتُ خلف فكرة.

 *ما الذي  يُحرِّضك على الكتابة؟.

**أولًا كإنسان أحمل قضيتي السورية الكبرى، إضافة لقضايا أمتنا العربية، أعتقد جازما أن أية قضية يحملها الكاتب هي المُحرّك والمُحرّض الأوّل لاستيلاد الأفكار.

 *الغُربة ماذا  تعني  لك  أستاذ محمد؟.

**كما هو معلوم تعددت أسباب الغربة، والمبدأ واحد: بُعاد وحنين وأشواق. ولكل حالة مخرجاتها المُرْضية وغير المُرْضية. ولا شكّ بفوائد الغربة على صعيدي الشخصي، فقد أتاحت لي الوقوف على أفكاري، وفتحت آفاقًا من حرية التعبير غير المُتاحة في بلدي، واكتساب معارف وثقافات جديدة.

 *أيهما  تُفضِّل  كتابة الرواية أم القصة بفرعيها القصيرة  والقصيرة  جداً؟.

**رغم الخوض في غمار هذه الأجناس الأدبيّة، إلّا أنّني أميل إلى الكتابة الروائيِّة، وأُفضّلها، لاتساع مساحات التعبير الواسعة.

 *نود لو تُحدثنا  عن روايتك الجديدة “بنسيون الشارع الخلفي”؟.

** “بنسيون الشارع الخلفي” فكرة جديدة تتمحور حول مخرجات الحرب السورية القذرة على مدار أكثر من عقد من الزمن. الحرب في العادة تقلب كل مفردات الحياة عكس الاتجاه، وتشكيل أوضاع شاذة. وظاهرة المُساكنات الغريبة عن المجتمع السوري المحافظ بطبيعته الأزلية، هي نتيجة مليئة بالسلبيات غير المسبوقة، ومن أسباب هذه الظاهرة، الموت وفقدان الأسر بكاملها، ونجا أحد أفرادها، أو من وجد الفرصة للهروب والانفلات من قيود الأسرة والمجتمع، وهناك سبب آخر وجيه وجود الاستعمار المتعدد لسوريا. ومنه الاستعمار والاحتلال الإيراني المباشر، وتشجيع زواج المتعة.

الحيز الجغرافي للحدث الروائي على أطراف دمشق، وحصرًا الجنوبية منها بمحيط مخيم اليرموك. وكلمة بنسيون أجنبية بطبيعتها لكن رديفتها العربية “النُّزُل” لم تقنعني بالتعبير لتصوير حالة المساكنات بين الشباب والبنات بدون عقد زواج، وبعيد عن الرّقابة، ومن الطبيعيّ لا رقابة على الضمير والشرف بأوقات الحروب. ربما تكون الرواية هي العمل الأدبي الذي يلقي الضوء على هذه الجديرة بلفت الانتباه إلى سلبياتها، ورصد المتغيرات الاجتماعية بدقة وأمانة قدر المستطاع، وبما وصلت إليه مقدرتي الروائية في إدارة الفكرة بشكل مقبول ومعقول.

 *متى  بدأت بعملك في الحلاقة؟، ولماذا استهوتك هذه الحِرفة بالذات؟.

**الهواية كانت بداية، والاحتراف استغرق عمري ما يقارب من أربعة عقود. مهنة الحلاق مهنة إنسانية في مآلات فحواها، وهي تفاعلية مع مشكلات المحيط الاجتماعي، وهي مهنة التواصل الإيجابي.

ككاتب أتاحت لي بحورًا من الحكايا والسوالف ما بين القديم والحديث، في المفيد واللا مفيد، الجميع يأتون مصطحبين معهم حكاياهم بإرادتهم. ما سأذهب للبحث عنه يأتيني طوعًا، يريحني من عناء البحث عنه. فصالون الحلاقة هو ميداني الذي تتشكل فيه أفكاري، وينطلق أبطال قصصي ورواياتي على سجيتهم لا عوائق أمامهم، وتأتلق رؤاي لذاتي على ضوء عزلتي إذا كنت وحيدًا لا عمل عندي.

 *بصرى الشام ماذا تعني لك؟.

** “بُصرى الشام” بلا منازع على الإطلاق هي العالم كله بالنسبة لي، وكل حجر فيها يعادل جبال وحجارة الكرة الأرضية. لا أدري: هل هذا يُعَد تعصُّبًا مذموما؟. ارتحلتُ عنها جسدًا، وهي مُترحلة بدواخلي.

روحانية مكانها تُضفي على الشرق ملاءات من اليقين الثابت، الذي لا تهتزّ معه الثقة بالحياة، ومن ذا ينازعني في الراهب بحيرا، وفي الناقة الني حملت نسخة من مصحف الشّام (مصحف عثمان. رضي الله عنه)، ومضافة جدّي لأمّي التي بناها بمكان موطئ قدم النبيّ محمد صل الله عليه وسلم. وجدي لأبي محمد الحسن الذي مازال صدى صوته بالأذان من على مئذنة العروس في الجامع العمري ببصرى، يتردد في أذني ويهز قلبي عند اقترابي من ستةّ عقود. فيوضات ربانية وروحانية تسبح بها روحي. هذه بتوقيت بصرى. نعم “بتوقيت بُصرى” الذي كان آخر كتاب مطبوع لي حمل هذا العنوان.

 *المرأة عموماً كيف تنظر إليها من موقعك ككاتب وإنسان؟.

**لا أقول أن المرأة هي نصف المجتمع، ولا نصف الدّين الآخر، بل هي المجتمع بأكمله، وهي الدين كله، هذه الحقيقة، فالأمّ التي تهزّ سرير وليدها بيمينها، قادرة على هزّ العالم بيُسراها. أنا ضد تحويل المرأة لسلعة تُباع وتُشترى من خلال التعرّي التي أخذت أبعادًا، ولتكون معاول هدم وتدمير للفضائل الدينية والاجتماعية المحافظة، ومحاولة تعهير هذه القِيِم، والمرأة هي المدخل السهل المُتاح لاختراق المجتمعات وتفتيتها لتسهيل السيطرة عليها بلا أدنى مقاومة تُذكَر.

المرأة يجب أن تُصان كأمٍّ وأختٍ وزجةٍ وبنتٍ من غوائل العولمة وأدواتها وأذرعها التي تطال كل شيء في هذا الكون، وبحاجة لتظافر الجهود المخلصة من أجل صيانة المرأة وحقوقها.

 

 

 

 *ماذا عن اهتماماتك الأخرى بعيداً عن الكتابة والحلاقة؟.

**أحبُّ الحياة أعشقها، الهدوء في كل معطيات حياتي، أكره النزاع والشقاق. أهرب من الكثرة إلى التقليل في جميع مسالكي. الكتابة والقراءة تحتاجان العزلة التي صرت أميل إليها كلما استطعت إلى ذلك سبيلا. أتمنى لو تتاح لي عزلة روحية في مكان هادئ للتأمل الوجودي، لإثراء تجربتي الروحية بعيدًا عن ضجيج العالم.

 

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!