عزيزة / بقلم : ربيع عقب الباب

1

كان القيظ منهكا
والسكة القريبة خالية تماما من المارة
مطحن الأرز توقف عن بث أنسه
تلاشت نفخات ضرباته
بينما كانت عزيزة تتربع
فوق عريشة صنعت خصيصا لها
معلقة بين نخلتين متجاورتين
وحيدة متداخلة تطلع هناك
في المبني الذي كان منذ قريب
يعج و يضج بمن فيه من أولاد
وشباب كثيرا ما أحنقوها
أثاروا غضبها عليهم
وهم يركلون الكرة
ثم يعبرون السور الواطىء لإحضارها
من بين عيدان الزرع
ليقطفوا ثمار الأرض بكل بساطة
فتظهر لهم الغضب
و في داخلها حب لما يفعلون
وإحساس بالرضا!

2
لفت انتباهها صوت أنين
بدا ضعيفا
وحين كانت عيناها تلتصقان بحجر خلف السور
ينام في حضن العيدان
كان يعلو
يضغط على روحها بقسوة
ليعبر هاجس ملح يتحكم فيه فضول ما
تداخلت في بعضها
هاجمها الأنين
رئتاها تشيل و تعبر جسدها
ما بين الأنين و أصوات : كوني دائما فوق العريشة
ليراك البعيد و القريب .. إياك وتركها “.
تحول الأنين إلى بكاء
خالطه صفير لا تدري من أين يأتي
احتضنت نخلة من الاثنتين
ضغطتها بقوة
كأن وحشا يجذبها : تأكدي لو صرخت طلبا للنجدة ، سوف تكون الدنيا عندك “.
تفتت قوتها، تهدل جناحاها
تهاوى ما تتمتع به من عافية وبأس !!

3
حين كانت تدنو من الحجر
راعها بكاؤه
قطرات من دم ساخن
اهتزت
رفرفت كعصفور فاجأته طلقة صياد
أخفت وجهها
تحركت للعودة إلى العريشة
كان شيء ما
صوت ما يلح عليها
يدفعها للاقتراب
كأنها استغاثات ما
بنفس صوت الأنين
قطرات الدم تتزايد
كأنها تنبع من جرح ألم بهذا الحجر
شهقة الهواء لا تخرج
لا تغادرها
لا سبيل أمامها للتراجع
لا تدري لم
تقترب
تقترب
أحست بلفح أنفاس ساخنة
بين تردد و اندفاع عاجز
كانت يداها تلامس الحجر
وإذا بفحيح عال يباغتها من بين العيدان
ورأس حية يتطاول
تتهالك أرضا
تزحف عزيزة
تزحف للخلف
تزحف
و الحية كأنها بمائة رأس
تزحف
وعزيزة قطعة لحم متهالكة
تفرز عرقا و خوفا و بولا!

4
في الوقت الذي لامست كف عزيزة الحجر
كانت عين هناك في البعيد
تتابع ما تفعل بدهشة
ولم تغادر إلا بعد تراجع عزيزة
و عودتها أسفل العريشة
وعجزها عن الصعود
دون أن ترى سببا لهذه العودة المفاجئة
وحالة الخوف المميت الذي سيطر عليها
اختفت الحية تماما كما ظهرت
لكن الهواء تحول إلى حيات لا حصر لها
كانت تهاجمها في قسوة
فتدير وجهها
تحتضن النخلة
ترتعش للصعود إلى مملكتها
تتهالك
ترتعد وتتماسك
تفشل المرة بعد المرة
هنا بكت عزيزة بشدة
بكت و هي تحاذر أن يرتفع صوتها
فتعود الحية و تقضى عليها!

5
حين علا نهيق حمار مقتربا
كانت عزيزة تغيب عن الوعي
كأنها كانت في حالة مقاومة للترنح
طيلة هذا الوقت
ووقت غزا أخوها الكبير بحماره المكان
قفز و حملها
هاله حالة بلل نالت من ثيابها
خفوت أنفاسها
بعد محاولات أفاقت مرعوبة
صرخت
أنشبت أظافرها في جسد أخيها
بريق عينيها يخطف
وترنحها المستمر حثه على حملها فورا
و التحرك صوب الدار !

6
بمجرد خلو الغيط
كان أبو السعود الذي يعمل بالنهار مخبرا
و بالليل قاطع طريق

يتحرك جوار السور
يقطف بعض ثمرات الباذنجان
يلتهمها بنهم مفتعل
ثم يعاود قطف زر خيار
حتى وصلت به قدماه إلى الحجر الباكي
سدد بعين ماكرة نظرات متفرسة
وحين تأكد أن لا جديد
الحجر كما وضعوه تماما
والبنت الصغيرة لم تنبش
بل لا يبدو لها أثر قريب منه
كل هذا وهو لا يتوقف
لا يطرأ عليه أدنى انفعال
حتى غاب تماما مع استدارة السور !!

7
حين أفاقت من هلاوسها
وتلك الحمى التي أشعلت جسدها
أنصت لها
رأى في عينيها حجم ما حدث
ربت على كتفها
مسد شعرها
أخفى ما توصل إليه
وابتسم : أرض النخل تعشقها الحيات ، وقد تكون رحمة في بعض الأحوال .
أكد على عدم سروح عزيزة مرة أخرى
وهمس بتفكه : يا جبانة .. كنت أحسبك قادرة وقوية .
وفى الليل

حين كان يدنو قريبا من الحجر

صكت أذنيه تكة بندقية
تأتي من بين العيدان
لتؤكد له أن المنطقة محرزة
وفى حوزة أولاد الليل
وأن روحا حمت أخته الصغرى من الموت ذات قيظ

8

حين خرطها خراط البنات
ووقف ببابها الخطاب
كانت تحدق في هياكلهم
بينما صوت الأنين يكاد يصم أذنها
تمنت أن يغادرها
يشيل صدرها واللون يقتحم روحها
تلك الدماء التي لا تدري لمن
تدري ومن يوم تلك الحادثة
أن سرا ما أخفاه أخوها
ولم تعطِ لسؤالها لحما ودما
ومطاردة الإجابة
لكن الأنين ظل يقلق براءتها
يغزو عالمها بلا رحمة
ولم يغادر حتى أمام ما قدمت الأم
من رقية أو زار أو رحيل في عالم العارفين !!

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!