الرّومانسيّة وتداعياتها في ديوان “أوراق الزّيتون” للشّاعر محمود درويش

آفاق حرة

أحمد البزور

إنّهُ من الحقِّ، أّنّ الشّاعرَ محمود درويش يُعدّ واحدًا من الشّعراءِ العربِ المعاصرين ممن شاركوا في إثراءِ الحركةِ الشّعريّة العربيّة، من خلالِ إصدارِ مجموعةٍ من الدّواوين الشّعريّة، كما أنّه مما لا شكّ فيه أنّهُ أكثرُ الشّعراءِ اهتمامًا واشتغالًا، من حيثُ البحثُ، والدّرسُ، والنّقدُ.

 

الرّومانسيّة

من النّاحيةِ التّاريخيّة، قامتْ الرّومانسيّةُ في أواخرِ القرنِ الثّامنِ عشرِ بالموازةِ مع الثّورةِ الفرنسيّة (1789م)، إضافةً إلى ذلك، سقوط نابليون من عرشهِ، ومجدهِ، وعزلهِ عن العالَم الخارجيّ، وموته منفيًا في جزيرةِ سانت هيلينا (1821م). وهذا الأخيرُ، كان بمنزلةِ القشةِ التي قسمتْ ظهرَ البعير، وما أحدثه من صدمةٍ، فيما يمكن تسميته بخيبةِ التّوقعِ، ولهذا السّبب تحديدًا، جعل النّاس يصابون بحالةٍ من الشّكِّ الممزوج بالحزنِ، والتّشاؤمِ، والكآبة، والإحباط، ولا جدوى العيش والحياة بعد انهيار المجد.

وعلى ضوءِ ذلك، لا نجافي الحقيقة في قولنا: إنّ الرّومانسيّة تعدّ تعبيرًا عن الحالةِ النّفسيّة أكثر من كونها مذهبًا أدبيًّا، إلى جانبِ ذلك، أنّ الأدبَ بالنّسبةِ للرّومانسيين وسيلةٌ للتّعبيرِ عن الذّاتِ، وتأييدًا لهذا، فإنّ الرّومانسيّة في “جوهرها كان التّحلل من كلّ الأصولِ، والقيودِ، والتّخففِ من أغلالها”، وباختصارٍ، تعدّ الرّومانسية خروجًا وثورة على تقاليد الأدبِ الكلاسيكيّ، وهذا نفسه ما انتهى إليه محمّد مندور في كتابه الأدب ومذاهبه(1).

وما تجدر الإشارة إليه في هذا الصّدد، أنّ الرّومانسيّة تنهضُ على استثارةِ العاطفةِ، وإلهابِ حماسِ المتلقي، وتأجيجِ مشاعره استنادًا إلى الخيالِ، هذا وتسودُ الرّومانسيّةُ النّغمةَ الخطابيّة والغنائيّة التّحريضيّة والثّوريّة، كما تشتغلُ الرّومانسيّة على الحزنِ، من تشاؤم، وسوداويّة، وشكوى، ووحدة، وألم، وموت، وفراق، واغتراب، ويأس، وبؤس، وما سوى ذلك من مصاحبات الحزن. بالإضافةِ إلى ذلك، تتناول الرّومانسيّة هموم الفرد وانشغاله، لذلك، كثيرًا ما تسودها النّزعة الذّاتيّة في التّعبيرِ عمّا يجيشُ في النّفسِ من مشاعرَ، وعواطفَ، وأحاسيس. ومن هذا المنطلق، يقررُ الباحثُ بأنّ ديوان “أوراق الزّيتون” مثالٌ جيّد على هذه الظّاهرة.

 

أوراق الزّيتون

يضمّ الدّيوان بين غلافيه ستًّا وعشرين قصيدة، موزّعة على مئةٍ صفحة تقريبًا، والحاصلُ من هذا الدّيوان، أنّه يمثّل نتاجَ مرحلةٍ من الوعي على واقعِ تشرّدِ الفلسطيني، ومعاناته، واغترابه، ومما يجدرُ ذكره هنا، أنّ العنوان ضرورةٌتسمياتيّة، وبذلك، فإنّ عنوانَ المجموعةِ يشكّلُ مادةً للتّعبيرِ؛ حيثُ إنّ أوراق الزّيتون دلالةٌ رمزيّةٌ على السّلامِ والحياةِ ورسوخِ الجذورِ الفلسطينيّة.

يفتتحُ درويشُ ديوانه بقصيدةٍ ذات طابعٍ خطابي ثوري موجّهة “إلى القارئ”، ويتفجّر غضبًا، حيث يقول:

“بايعتُ أحزاني..

وصافحتُ التّشرّدَ والسّغَبْ

غضبٌ يدي..

غضبٌ فمي..

ودماءُ أوردتي عصيرٌ من غضبْ

يا قارئي لا ترجُ منّي الهمسَ

لا ترجُ الطّربْ

هذا عَذابِي..

ضربةٌ في الرّملِ طائشةٌ

وأُخرى في السّحُبْ

حَسْبِي بَأنّي غَاضِبٌ

وَالنّارُ أوّلها غضبْ.”

إن القصيدةَ مفرطة بالغضبِ، وتجسيدٌ لحالةِ الثّورةِ التي تعتري وجدانَ الشّاعرِ ورغبته في التّحرر. وقصيدة “عن إنسان” تصفُ معاناةَ اللاجئ الفلسطينيّ، وقد عبّرتْ بصدقٍ عن همومه وانسحاقه تحت وطأة النفي والتّشرد، إذ يقول:

وضعوا في فمّهِ السّلاسلْ

ربطوا يديه بصخرةِالموتى

وقالوا: أنتَقاتل.

طردوهُ من كلّ المرافئ

أخذوا حبيبته الصّغيرة،

ثمّ قالوا: أنت لاجئ”.

وفي مثالٍ آخر نورده لتوضيحِ تداعيات الرّومانسيّة في شعر محمود درويش، نقرأ قصيدة “مرثية” التي لا تخلو من الذّاتيّة، حيث تكشفُ الحزنَ الذي يعتري صدر الشّاعر، في نبرةٍ  مفعمة بالقتامة، وطافحة باليأس، إذ يقول:

“لملمتُ جرحكَ يا أبي برموش أشعارِي

فبكتْ عيونُ النّاسِمن حزني ومن ناري

وغمستُ خبزي في التراب

وما التمستُ شهامة الجارِ.

وقصيدة “وعاد في كفن“، تضفي جوًّا من الشّجنِ واللوعة، وتوحي بمرارةِ الفقد، ليأخذنا الشّاعر في قصيدته إلى عالم شديد السّوداوية، يقول:

“يحكون في بلادنا

يَحكونَ فِي شَجَنْ

عَنْ صَاحبِي الّذي مَضَى

وَعَــــادَ في كَفَنْ”.

و”الموت في الغابِة” قصيدة محاطة بهالة الموت، والمدقق في القصيدة يلاحظ أبعادًا سوداويّة مقلقة عن حقيقة الموت؛ لأنّه ينتهي بالإنسانِ إلى الفناءِ والعدم، بحيث تجمع القصيدة بمشهد جنائزي محزن عبر صورةٍ تبعث في النّفسِ الخوف والأسى:

“جرحٌ صغيرٌمات صاحبُهُ

فطواهُ ليلٌ كالأساطيرِ

لا شيء يستدعي غناءَ أسى

فالموت أكبر من مزاميري”.

تجسّد قصيدة “الموعد الأوّل” حالة الخيبة، والصّدمة، والشّعور بالإحباط، الأمر الذي يجعل القارئ يتعاطف إلى حدّ ما مع هذه الحالة:

“شدّتْ على يدي

ووشوشتني كلمتين

أعزَّ ما ملكته طوال يوم

سنلتقي غدًا

النّصف بعد الرّابعة

النّصف مرّ

وساعة وساعتين

وامتدت الظّلال

ولم تجئ من وعدتْ

في النّصفِ بعد الرابعة”.

من خلال النّظر في مستوى الخطاب الشّعريّ في قصيدة “أغنية“، نلاحظ بأنّها تعجّ بالتشاؤم والشّعور العميق بالاغتراب:

“وحين أعودُ للبيتِ

وحيدًا فارغًا، إلّا من الوحدة

يداي بغير أمتعةٍ، وقلبي دونما وردةْ”.

وإلى مثل هذا، يشير درويش في قصيدة “رسالة من المنفى” إلى الاغتراب والتشرد، ليعكس حالة الفلسطيني لاجئًا ومستلَبًا ومطحونًا تحت وطأة اللجوء والقهر الاقتصاديّ والنّفسيّ، حيث يقول:

“تحيّةً وقبلةً

وليس عندي ما أقول بعد

وكلّ ما في قريتي

زوّادةٌ، فيها رغيفٌ يابس ووجد

ودفترٌ يحمل عنّي بعض ما حملت

بصقتُ في صفحاته ما ضاق بي من حقد.”

وقصيدة “البكاء” تقطر دمعًا، وتنتحب حزنًا وألمًا، وتضفي جوًا من الشّجن، واللوعة، وتوحي بمرارة الفقد، فاسمعه يقول:

“ليس من شوقٍ إلى حضنٍ فقدتُه

ليس من ذكرى لتمثال كسرتهْ

ليس من حزنٍ على طفلٍ دفنته

أنا أبكي”.

إنّ أحد مرتكزات الرّومانسيّة في بناءِ النّص الأدبيّ شعرًا ونثرًا، توظيف الطّبيعة بأشيائها المتعددة مع إضفاء الطّابع الإنسانيّ، وفي تصوّرنا، فإنّ قصيدة “عن الشّعر” تعدّ مثالًا جيدًا على الرّومانسيّة إلى حدّ الإمعان، كما نلمح حاجة الشّاعر الملحة إلى التعبير عمّا يجيش في النّفس، حيث يقول درويش:

“أمسِ، غنّينا لنجمٍ فوق غيمةْ

وانغمسنا في البكاء

أمسِ، عاتبنا الدّوالي، والقمر

والليالي.. والقدر”.

وفي قصيدة “الحزن والغضب” ذات الطابع الخطابي، يأخذنا درويش إلى عالم المقاومة، مالئًا لغته بالتّحريض، بحيث تتداعى الرّومانسيّة على أديم القصيدة، في نبرة لا تخلو من حدّة وقوّة لتغدو القصيدة تبعًا لذلك شكلًا للثّورة والرّفض، يقول:

“الصّوت في شفتيكَ لا يطربْ

والنّار في رئتيك لا تغلبْ

وأبو أبيكَ على حذاءٍ مهاجر يُصلبْ

فعلام لا تغضبْ؟”.

إضافةً إلى الطبيعةِ، ترتكز الرّومانسيّةُ على المرأةِ جنبًا إلى جنبٍ مع الحبّ، وعلى هذا الأساس، يستحضرُ درويش في قصيدة “أجمل حبّ” المرأة ملتمسًا السّلوى عن آلامه وعذاباته واغترابه:

“كما ينبت العشب بين مفاصل صخرةْ

وجدنا غريبين يومًا

وكانتْ سماء الرّبيع تؤلّف نجمًا ونجما

وكنتُ أؤلّف فقرة حب..

لعينيكِ.. غنّيتها”.

والأمر ذاته يقال صراحة في أحد مقاطع القصيدة المعنونة بـ “الرّباعيات“، حيث يلوذ الشّاعرُ بالمرأةِ محتميًا بها وكرمز تعويضي عن البعد والفراق، يقول:

“من ثقوبِ السّجنِ لاقيتُ عيونَ البرتقالِ

وعناقَ البحرِ والأفقِ الرّحيبِ

فإذا اشتدّ سوادُ الحزنِ في إحدى الليالي

أتعزّى بجمالِ الليلِ في شَعْرِ حبيبي”(1).

أخلصُ من كلّ ما سبق إلى القولِ بأنّ: الرّومانسيّة كمضمونٍ شعريّ تتداعى في قصائد محمود درويش، وإذا ما أنعم النّاظرُ في القصائد، لاستطاع تصنيفها في الاتّجاهِ الرّومانسيّ، ذلك من خلال النّزعة الذّاتيّة والفرديّة، كما يلحظ القارئُ المتمعن في لغةِ القصائد أنّ ثمّة مضامين مستقاة من الحقلِ الرّومانسيّ، كالحزنِ، والتّشاؤمِ، والبؤسِ، والتّشرّدِ، والاغتراب، والطّبيعة، والمرأة، والحبّ. هذا ويجدُ النّاظرُ في ديوانِ “أوراق الزّيتون” قصائد غير قليلة تنحو فيها هذا المنحى، مما يعطي ميّزةً أسلوبيّةً لافتة للنّظر، وفي جميعِ الأحوالِ، فإنّ الرّؤيةَ الشّعريّة في قصائدَ درويش تتناسبُ مع الرّومانسيّة في مفرداتٍ ذات دوال رومانسيّة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

(1)    الأدب ومذاهبه: محمّد منذور، دار نهضة مصر للطّبع والنّشر، القاهرة، ص 55.

(2)    ديوان محمود درويش، مج1، ط6 ـ 1979م، دار العودة للصّحافة والطّباعة والنّشر، بيروت.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!