الشاعر جاندمو ( اسطورة حياة شاعر ) بقلم : رياض الدليمي

 

 

نكاد لا تفرق بين القصيدة وكاتبها (جاندمو ) الشاعركان بلا قصيدة .. بلا حياة .. المثقف بلا ذاكرة وبلا سجل يؤرشف منجزه ، ابداعه تخفي في جيوب اصدقائه ومنه اشترى به سندويجات ليسد رمق جوعه وفاقته .. هذا الشاعر الاعجوبة المنحدر من عائلة فقيرة من كركوك ومن جماعة كركوك التي اصدرت بيانها الابداعي التأسيسي عام 1969 عاشرافضا للقصيدة وللغناء وللمهنة الشعرية فكان هو قصيدة بحد ذاتها .

جاندمو ديوان شعري يمشي على ظلال ارض هواهم من كل القصائد حين

أنشد للعوزالحياتي والفقرالروحي والجفاء الفكري .

عاشت وطأة الحروب ولم يتذكر اي حرب لأنهرفض كل اسباب الحروب وتداعياتها .. عاش متنقلا من ملجأ الىم لجاو من بيت صديق الى اخر ومن دولة الىدولة .. ولكن كانت حياته الحقيقية في حانات ابداعه .. يكتب ولم يتذكرانه كتب شيئا جديدا فكان كلما كتبه جديدا وغيرمألوفا ..

لقدترجمالشعروالآدابوكلمايتماشىمعذائقتهوفكره .

هو من جيل ستينيات الابداع هذا العقد الحافل بالتغييرات السياسية والايدلوجية والاجتماعية في الوطن العربي فهو ناتج عنر وحالت مرد الثوري ولكن خذلته كل الثورات ، هذه الثورات لا توازي احلامه فاشعل ثورات بفكره وروحه وشخصيته فكان ثورة متقدة ليس لها مكان اولازم ان تقعد فيه .

 

جاندمو القائل

— “القصيدة هي شكل المعاناة العفوية

في لحظة من لحظات الاتفاق مع الذات والكون. هي عرس العقل كما يقول فاليري ، وهي عرسته شي ما لعقل كما يقول بروتون. إنها العلو الساخن المبتهج كما يقول(رينيهشار ) . وهي صرخة الكائن المهم ومضمن كون اخرس وعابث . لربما هي اتحاد المألوف مع الغامض ؛ نافذة للشكل في استقصاءاتها الفريدة وفي عذاباتها المتوترة”___

يكتب عبدالقادرالجنابي عن جاندمو

هكذا مات جاندمو وحيدا ، في غرفة في استراليا بسكتة قلبية… هكذا تكون نهاية عالم حلمي متفرد. نعم الفيلة الصغار تموت لوحدها. لكنه خبرمؤلم: إذ في وقت يخرج فيه العراق الى الضوء بعد ان عاش في ظلمات حقيقية ، يموت هذا الهامش الجميل الوحيد الذي يذكرنا بأن العراق كان له حلم شعري كبير، إنساني عميق ، قبل ان يسطوعليه برابرة الظل ام العروبي. نعم جاندمو هو عين البراءة العراقية التي تمزقت بسبب إديولوجيات الموت التي لم تسمح للعراقي بأن يعبرعن نفسه كائنا له أشعاره ، أعمالها لموعودة ، مساهماته الثقافية… وانما أبقته مهمشا هنا وهناك وكأنه مجرد واحد بين آخرين اعتلوا كل المنصات. لكن هذا امر ، له مكان آخر للخوض فيه. الآن القارئ يريد أن يعرف من هو جاندمّو الذي يصعق خبر موته كل الشعراء والأدباء العراقيين. يقال ان جاندمو المولود منتصف اربعينات القرن الماضي ، في مدينة كركوك ، كان تلميذا في متوسطة كركوك ، ذكيا في مادة الرياضيات ، لم يمر في خلده بأنه سيكتب شعرا. كانت عائلته الفقيرة ، كبقية عوائل شعراء جيل الستينات المنبوذين ، تبني آمالا عليه ليعيلها في المستقبل. كل شيء كان يسري وفقا للعرف الاجتماعي حتى التقى بالشعرالاوروبي الذي وجده مختلفا عن جل الشعرالعربي.. أخذ يقرأ ويُصعق في آن… حتى اخترقته القصيدة الى حد التلعثم ؛ الشلل الذي كان يرائي به جاندمو حتى اخر لحظة من حياته: احتقاره لممتهني الشعر. فها هو عنصرهائم بين “جماعة كركوك” ،يستهزئ بكل قصيدة تقرأ أمامه ، واعدا الجميع بأنه سيكتب القصيدة الكبرى . شاعرية دم وحقيقية ، مظهرُه ، قرفه من الشعراء المُعتبَرين الذين سرعان ما تنهار ثقتهم بأشعارهم ما إن يحضر… تشردُ هو قصائده الصغيرة والجد غريبة كهذه التي نشرها في منتصف الستينات في مجلة “العاملون في النفط” مقابل ثلاثة دنانير،عنوانها سطر طويل: “الجندي الذي سافر في القطار ونسي أن يقول للبروفيسور نعم” ، والقصيدة مجرد رقم: “))

 

………………………………

أيكون الموت غيابا لذاكرة؟

أم صفا من طيورالبطريق

ينتظرمخلصا ما

تحت شمس بنفسجية ؟

ماذا سنخلف لأطفالنا؟

ماذا سنخلف لهم في القرن المقبل؟

هل سنخلف لهم سموما حارة؟

هل سنخلف لهم موتا جاهزا؟

هل سنخلف لهم جنائز؟

………………..

هكذا من وراء الآفاق

القلوب تعتقل نفسها

إقصاء للجنون.

القصائد تهجرنفسها.

وهكذا الحب،

والنسيان

حريرالنجوم ، الحريرالمجنون للنوم

وحده القادرعلى إعادة التوازن لقلبي.

 

م/ سفرعلى باب البريد

ثانية يجيء البحر الحزن ، ثانية

في مكان ما ، من الارق

منذ ان لامس الافق

زمن العالم

مد البكاء على باب البريد

صناديق

واشرعة مسافرة من جديد،

((عندما كان ( دمو) في بيروت ، تعرف الى صديق لبناني مأخوذ بشاعريته ، فكان هذا الصديق يدفع وجبة طعام مقابل عدد من القصائد. ويبدو ان الأمر دام لعدة أشهر ما استطاع الصديق اللبناني جمع الكثير من القصائد ، بعث بعضها الي ، فقمت بنشرها في “الرغبة الإباحية”  (نيسان 1974) مع تعريفه للقصيدة المذكورأعلاه. لكن هذا الصديق اللبناني اختفى كليا واختفت معه ما أملاه دمو من قصائد شهية بالتأكيد مقابل وجبات غذاء مدفوعة كان جان في أمس الحاجة اليها. آم لأن يقرأ صديقنا اللبناني الذي لما عد أتذكر أسمه خبر موت صديقه في نشر قصائد دمو.))

 

قصائد كتبت مقابل وجبات طعام شهية في بيروت تلك السنوات

 

1

عاش بقلب مفعم بالألغام

طوال حياته

في صيف كلّه أسرار وطلاسم

أكتشفُ

أنت حتى مياه الجرح

كنارا.

 

لا تخبر وهب أن في الصحراء سحرا

فقدعرفذلك

بعد طفولته.

 

قولو له أن السراب والموت

واحدٌ وأن الحياة ليست ولن يكون لها

أكثر من وجهين: وجهين أصفرين بائسين

ولكن ، قولوا له ، أيضا ، أن المستقبل

لا أصداء فيه إلا في الغياب

كان يحب… كان يحبُّ أن يُحبَّ.

 

2

 

أبحثُ عن كِفي رمادا لذاكرة

في رماد الصواعق

في نيران الفراغ

في الحب

في العذاب

في الاستحالات

فيأنينالقلوبالممزقة

في القيثارات المعطلة

في عطلات نهاية الأسبوع الجميلة

في الخرافات

في الأمس ذي الصمامات المقفلة

في الأغوار ، في كل مكان

إلا في هذاالعالم

أبحثُ عنك

يا حبيبتي.

 

3

 

لا وجودَ في الظلإلاّ

لعاصمة الأبدية

الغيوم حين تنعكس في بحيرة ما

تنزع قشورها وتبدأ في التكلم

 

هل بالرماد وحده يضاء القلب

هل الحق ولأسر

ماذا يفصلني

ما الذي يمكن أن يفصلني عن المستقبل

سوى مقصلة النوم والارتخاء

 

في بحيرة أوسع وأكثف من الذاكرة

تبدو ظلال الفجر تتأرجح

بين الليل والليل يموت في حاضري

آهلِ مال قوار بهذه…

 

………….

لقد مات جاندمو في عام 2003 مايو بعد ان سكت المذياع ربما رفض ان يذيع خبرموته لان الشاعر جاندمو ولد ميتا فعاش الابدية ابدية احلامنا والامنا وامالنا

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!