الغربة النفسية والمكانية في قصيدة “أوجـاعٌ مُستنسـخة” للشاعر الأردني ( محمد العموش )

.هاشم خليل عبدالغني – الأردن

محمد العموش من الشعراء الأردنيين القلائل الذين استطاعوا بشـاعريتـهم المـتزنة واسـلبوهم الـبسيط تـحسس قـضايا الإنسـان العـربي ومخـاطبة روحــه ، شاعــر يبني جملته الشعرية بانسياب وهدوء دون تكلف .

صاحب ديوان ( الصافنات الجياع ) محمد العموش ، من قرية- دير الورق – مـدينة المـفرق ، تخـصص في الشريـعة الإسلامــية وهـو مدرس في التربية، شارك في مسابــقة أمير الشـعراء فـي المـوسم الثاني لعام 2008، ووصل فيها لمرحلة متقدمة، كما شارك في عدة مسابقات عربية ومحلية وحاز على المركز الأول في مسابقة نقــابة المعلمين الأردنيين الشعرية لعام2017 ..كــما انه شارك في العـديد من المهرجانات الدولية والمحلية.

شـدتني قـصيدة العـموش “أوجـاعٌ مُستنسـخة” حـين قـراءتهـا فأعـدت قـراءتها أكـثر مــن مـرة… سنحـاول فـي هـذا الـمقـال الـمتواضع الإشــارة لأهــم النقــاط التي سلـط الشـاعر الضوء

عليها .

يحمل عـنوان قصيدة  الشاعر محمد العموش ،إشارات ومعانٍ مــؤلمة ، لأمـراضنا المـزمنة المـتلاحـقة وهـمومـنا المـتعددة المتنـاسلــة،والقـصـيدة صــورة طـبـق الأصــل مـن الـنسـخـة الأولـى للمشاكل المتراكمة  في بلادنا العربية ، التي انعكست بشـــكل سلبي عــلى مختلف جوانب حياتنا ،لأننا لم نسارع لمُعالجتها ابتداءً ، وابتكار الحلول المناسبة لها.

بعاطفة قوية صادقة نابضة بالحياة وبسردية إيحائية ، يتحدث الشاعر في مطلع القصيدة ،عن والده البسيط المكافح المعطاء، الذي ورث من والديه الطـيبة والنقــاء ، ويحـمل عــلى كتفيه جملــة مــن السجايا والخصال الكريمة ،تدثرها عباءة الكرامة والشهامة والنــبل فــي زمـن جميل كانت الرجـولة تتجسد فيه ، بأبهى صورها وأحلى وأجمــل معانيها قــولاً وفعلاً ،(التسامح، المحبة ، الإيثار ، النخوة ، الكرم ).

ويستكمل الشاعــر حــديثه عن والــده الذي يحمـل على ظهره

سبعــين عـاماُ مــن الأنفــة والمحــبة و الــكد والكدح ،من أجل تحقــيق حـياة آمــنة حافـلة بالاطــمئنان والاسـتقرار المــادي والمعـنوي لأسرته.. (مهمـوم فــي تأمين مستقبل أفضل لهم).

رغم  مـا يخــفيه فـي صـدره مـن هـمــوم وآمـال واعــدة ،نصفــها خـفـي ، ونصفــها الأخــر تفضـحه مــلامحـه . فإن آثـار معـانـاته  واضحة في غلظة صوته وخشونته .

“في والدي من والدَيْهِ رَوائــــــحُ

وبهِ من الزمنِ الجميلِ مَلامـِـــحُ

في ظهـــرِهِ ســَبعونَ عاماً دامياً

وبصـــدرهِ أحلامـُـــنا تتصـــافحُ

في صوتهِ ممـَّـا يخبئ بـُـحـَّـةٌ

خنقَ الأســـى نصفــاً ، ونصفٌ فاضحُ”

 

يشبه الشاعر معاناة والده الذي أجهده الكد والشقاء في الحياة، بالعـروبة المتعبة المجهدة مـن الصـراعات التي لــم تستثنِ أيا من أقطارها ، فبعضها يعيش عنـفاً  شعبياً داخـلياً

وبعـضها يعــاني عنفــاً مــن أنظمة متسلطة …فكلاهما منهك وممزق من الداخل !!

في المقطع التالي يقتبس الشاعر ألفاظاً ومعانٍ قرآنية ،من سورة الانشقـاق – سورة 84 –  الآيــة السـادسة ” وتكـــادُ تـقرأُ فــي صحيفــــةِ وجهــهِ ” يا أيها الإنســـانُ إنكَ كـــــــادحُ ”

( أي انك أيها الإنسان عامل لربك عملا فملاقيه ، خيرا كان أو شراً ، فليكن عملك بغية مرضاة الله لا سخطه )  فـــالشاعر  يقــول عــن والده:إن الحياة واتجاهاتها المتقلبة، خاصمته وعاندته ، ففي ملامح وجهه علامات الكد والإجهاد المتواصل ، ولقد أظهرت ثمار كده  وتعبه ولغة عيونه، أن حظه من حطام الدنيا قليل .

كمــا يــذكر الشــاعر أن مــن سمات  والده العمل الشريف والــورع الــفطري، الــذي يجعــله يتـقرب لله بـكثرة الطاعات ومسبحته  في جوف الليل ، خرزات النجوم المتلألئة .

كما يشير الشاعر أن  أكبر مساوئ والده، أنه صَافِ القَلْبِ صَادِقُ النِّيَّةِ، متسامح حليم مع خصومه ، شأنه شأن البسطاء من عامة الناس.

رغم انشغال والد الشاعر  بعمله نهارا وتعبده ليلاً ، فإنه متابع مهتم ، بما يكــتبه ابنه مــن شـعر ، فـهــو يـرى أن ابنه يقـسو على الوطن حين يشير فــي شعـره إلى أن الـوطن بات  في الرمـق الأخـير ،وان فـكـرة إصلاحـه مستبعدة ومستحيلـة أي أن الشاعر الضحية والجاني.

 

” ولهُ جبيـــنٌ – كالعُروبــةِ – مـُـرهَـقٌ

لكــنَّ بوصـَــلةَ الحياةِ تنافــــــحُ

وتكـــادُ تقرأُ في صحيفــــةِ وجهــهِ

يا أيها الإنســـانُ إنكَ كـــــــادحُ

ولقـد أبـاحَ لنا غـــلالَ ســـــنينهِ

وعيونـُــهُ عن قحطهـــنَّ بوائـِــحُ

ولهُ ببطـــنِ الليلِ خــلوةُ يونسٍ

ولهُ النجـــومُ الزاهــراتُ مسـابحُ

ولوالــدي – كالطيـِّــبينَ – عيـوبـُـهُ

ولعلَّ أكـــبرَ ما  بهــا ” متســـامحُ ”

ويرى أبي في الصـــحوِ أنيَ ذابحٌ

وطنـــي بشـِــعري ،،، والذبيـحُ الذابـِــحُ”

 

يبين الشاعر في المقطع التالي حال الوطن وما حل به من التشظي  والترهل الفكري وكثرة المنظرين ، والحـيرة وغــياب الهوية الوطنية ، فالشاعر  يقول من قلب مجروح: بأنه يئس مــن الكلام ومـن الكــتابة .وأن حنـجرته بحـت حـزناً وألمــاً ، وأن شعره يفضح السلطة والمتسلطين .

” يبـِـسـَــتْ بحنجــرتي غصــونُ قصيدتي

فالصــوتُ مجروحُ الحروفِ ، وجارحُ”

 

في داخل الشاعر صراع داخلي مستمر ومتجدد ،خارج عن إرادته  فالشاعر يعيش أكثر مــن صراع  داخـــلي في آن واحد ، صراع بين أفكار متعارضة ، صراع يؤرقه مع شرود في الذهن وكثرة التفكير .

إن هذه الأفكار المتصارعة ، متقاطعة ومتباينة في أدلتها وبراهينها وقــوة حجـتها ، فـي عــمق  كــيان الشاعــر، المُرَجّح ” المُحَكَم ” المفوّض لحل لهذا الصراع الفكري الداخلي الذي يدور في عقل الشاعر ، يصفه الشاعر بصفــات متباينة ومتنـافرة ،( العجلة والتسرع ، شديد التحمل والتجلد ، قاطع وبات بأموره ، حائر مرتاب ، غـاضب وحــزين ، نـقي السريــرة )، ولأن المـحـكم مضطرب ومهزوز ، تعب من إيجاد مخرج ما… لهذا الصراع المزمن .

إن هذه المسألة الفكرية الصعبة ، لو عرضت على الإمام الشافعي لأحــتار في ترجيــح الراجح من المرجوح . في إشارة من الشاعر

إلى أن أزمتنا الفكرية مزمنة ومستعصية .

” ولقد تعارضـتِ الأدلةُ قـــــوَّةً

في ” متنِ ” أحشـــــائي

وضـَـجَّ الشارحُ نزقٌ صبــورٌ

حازمٌ مترَدِّدٌ متكـَـدِّرٌ صــفوٌ

وَعذبٌ مالحُ

لو غاصَ فيهِ الشـــــافعيُّ بفهمـهِ

لاحتــارَ في فقهِ الهـوى : ما الراجـِــحُ !!

 

ينتقل الشاعر للحديث بقلق عن أزمة الشعر والشاعر، فهو في مراحل تعاطيه مع القصيدة يحس بحيرة واضطراب ،وفي ذات الوقت يحس برغبة  ملحة بالكتابة .

 

“أنا في محطـَّــاتِ القصيـــدةِ تائـِــــهٌ

ورقٌ يظلـِّـلـُـــني ، وحبــري راشـِـــحُ”

 

كما أن الشاعر يشير لمساهمة إشعاره في التلطيف مــن شـدة أوجاع الوطن في مجالات مختلفة ، ولأن للقصيدة دورها فــي الحياة ، وهي المتنفس في قمة الفرح وأوج الحــزن ، فـلـيس للشـاعـر وطـن ثابـت وآمــن عــلى وجــه اليقـين إلا القصيدة ، القصيدة الوطن كلما نجحت في تذليل وإخضاع قوافيها ..(بيت واحـد خرج عــن سيطرتي )، جعــل عاليها سافلها ، وقـلب الموضوع رأساً على عقب ( أي غيرة ) .

 

” خفـَّـفـــتُ من عـــبءِ البلادِ فليس لي

وطـــنٌ على وجــهِ الحقيقــةِ واضـِــحُ

وَطني القصيدةُ ، كُلّما رَوّضْتُهُ

قَلَبَ الهدوءَ عَليَّ بيتٌ جامِحُ”

 

ينتقل الشاعر للحديث عن حالة الاغتراب والضياع التي  هيمنت عــلى نفـسيتـه  كانسـان عــربي .. هــذه الـحالـة تفـاعــلت مع واقع اجتماعي وسياسي مأزوم تحكمه مشاعر الهزيمة والانهيار النفسي (غربة مكانية وذاتية ).

إن ظلم الأنظمة السياسية الحاكمة، وإدراك الــمواطن أن الـوطن يدار لحساب نخبة ما،وليس لحساب عامة المواطنين، تفقد  الشباب جذوة الوطنية المتوقدة، وتجعله يشعـر بالـغربة وتضعــف الشعــور بالانتماء للوطن.

وطن هذا حاله يمر بمرحلة حرجة ، من الطبيعي ،كما يرى الشاعر أن تهتز قيمه ومعايير الانتماء إليه ، فيشعر المواطن بأنه في وطنه كالسائح الذي ينتقل ، من بلد إلى بلد للتنزه أو الراحــة والاستطـلاع أو للاستجمام ،ويتساءل مستنكراً ماذا يحمل السائح في حقيبته غـير متاع قليل وبعض الذكريات والصور !!! يشير الشاعر بإشارة ذكية إلى ضرورة إعادة التنقيب عن المقصود بالانتماء للوطن،فلا وطن بدون وطنية .

” إني أتيـــتُ إلى الحيــــاةِ ســـــياحةً

ماذا يعبئ في الحقيـــبةِ ســـائحُ ”

 

في المقطع الأخير يربط ” محمد العموش” بين الغياب والحضور بين الـمرأة والحـب والـوطن ـ معـبراً عــن قضــية إنسانية وتجربة وطنية عاشها الشاعـر،داخل الـوطن وخارجه ، ( ووجــد فــي هـذا الحب وسيلة ناجحة لتفريغ الشحـنات العـاطفية المكتنزة في داخـله تجاه الوطن والحب ) .

 

ومن خلال الغياب والحضور يسترجع الشاعر قصة حب حيرته  عاشها في صدر شبابه ، وجعلته مــدهوشاً مشغولا ، يقــاوم بقـوة وحنين وشـــوق، لاستدعاء معـلومات عاطـفية من خزان  الـذاكرة فوتر عــود استدعاء الماضي، صوت يتردد بالحزن والغم عالياً، في داخل الشاعر ،” متحابان أحرقتنا الكلمات الناعمة العاطفية الرقيقة التي تثاءبت إحساسا يلامس الـقلب والمشاعر ويحـاكي الخــيال فـي آن واحد ” .

فراقنا كان حقيقة واقعة ملموسة ،في زمن كثر فيه الهزال والسخــف والاستهتار، وتراجعـت المـبادئ وانعـدمت الأخلاق ، في هـذا الزمن لا تطلبي مني أن اعتـبرك وطنا (أسكنه وألفه وأنتمي إليه ) فهـذا أمر غير ممكن ومن المستحيل تحقيقه ،لا تبني الأوطــان وتتــقدم بقصــائد عــن الـحب والولـه وأفــكـار مستوردة ، فحضارات الأوطان لا تصنع إلا بسواعــد وعقــول وابتكارات أبنائها .

” ولـَــدٌ على كـَـتـِــفِ الغيــابِ تشـُــدُّهُ

بنـــتٌ إلى صــدرِ البكــا ،،، ويكــافحُ

وتـَـــرٌ على عـُــودِ الحنيــنِ تجـُـسـُّــهُ

كـَــفُّ التــذكـُّــرِ ، فهو حـــزنٌ صـــادحُ

طـفلانِ مـِـنْ بـَــرْدِ الحـروفِ حروقـُـنا

صـَـدَقَ الفراقَ لنا زمــــانٌ مــــازحُ

لا تســأليني أنْ أُحيلـَــكِ موطـِــناً

لا يصـــنعُ الأوطــانَ شـِـــعرٌ نازحُ”

 

 

مما تقدم يتبين أن الشاعر سلط الضوء في قـصيدته “أوجـاعٌ مُستنسخـة” عـلى نـقـاط عـدة أبــرزها ، الـكفاح مـن أجــل الـحيـاة ،التمزق في بلادنا العربية ،تعــدد الرؤى وتناقــض الأفـكار،الـغربـة داخــل الـوطن ، تراجـع الانتماء لـلوطن ،الربط بــين الوطن والحب والمرأة .

تجدر الإشارة إلى أن الشاعر لجأ للاقتباس من معاني وألفاظ القرآن الكريم ،كما ضمن القـصيدة أحاسيس ومشاعر وجـدانية متباينة بين  الوطنية وقضايا الإنسان والحياة والقلق .الهموم

وخـلاصة الـقول أوطـاننا لن تتحـرر مـن الـفساد الـذي نخـرها عـلى جميع المستويـات ما لم تحصل فـيها ثـورة ضد الظلم،الفقر،الجهل .

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!