الناقد المغربي أحمد وليد الروح يقف مع نص ( أحيانا ) للكاتب أحمد محمود دحبور

أحيانا
يعلو وجعك
ثم يعلو
لكن صداه يقف عند عتبة الحنجرة
لهذا يطول صمتك
وترتسم في عينيك تفاصيل الوطن
مخطوطة بالأحمر الناري
***************
“أحيانا” هو، و المقصود به الشاعر، ليس كما هو دائما، “هو” هنا و القصيدة واحد . فهو جزء لا يتجزأ منها، و هي مضمونٌ لما يشعر به و يحسّه ، مضمون لوجع كبير يعلو صداه بحنجرته.. إنه وصف ذاتي مؤقت ليس مستمر و لا منتهي أيضا، هو نوع من الشعور يراود الشاعر يأتي و يذهب و لا يستقر على حال .. هنا يؤكد الشاعر أنه في بعض حالاته و أقساها وجعا يحس بالوجع يعلو و يعلو .. يكاد يخنقه، يقف بحنجرته، يسُدُّها فلا يستطيعُ بعدها الكلام و لهذا يطول صمته، فيقول في صمتٍ مُطبِق:
أحيانا
يعلو وجعك
ثم يعلو
لكن صداه يقف عند عتبة الحنجرة
لهذا يطول صمتك
الشاعر هنا لا يملك سوى صمته، و الإستسلام لحروفه المتزاحمة التي تعلق بحنجرته توجعه و لا تكاد تخرج. هو إنصات للذات في غمار الآخر، فالشاعر بهذا الشعور الذي يسيطر عليه ينقسم لشخصين، هو و الآخر في ثنائية يترتب عنها علاقة تجمع أحمد محمود دحبور بـ “ذاته، نفسه، و موٓاجِعه..” كلُّها مجتمعةً في “الآخر”
و كيف عجز هو عن التعبير عن نفسه و لم يستطع ذلك إلا عندما انصهر في الآخر أو تحول إلى آخر يسكنه. إنها علاقة شبه معقدة علينا محاولة فهمها..
فالشاعر في خطابه ظاهريا كأنه يوجه خطابه لشخص آخر غيره فيقول : ( يعلو وجعك) و يقصد به مخاطبا مفردا “أنت” و قد يقصد به الجماعة “أنتم أو نحن” فصلة الوصل أو الرابط الذي يربط المتكلم بمخاطبه هو “الوجع ” وحده الوجع يجمعهم و يربط بينهم .
إنها علاقة وطيدة تفرض نفسها على الشاعر فهو لم يتعمد مخاطبة نفسه من خلال الآخر فهي طريقة في التعبير غير مقصودة و لم تصدر عن وعي تام للشاعر، ربما الشاعر عند الوجع ينفصل عن ذاته، يخرج منها، يغادرها و يتماهى في الآخر .
فهو هنا لا يملك نفسه و لا يستطيع السيطرة على مشاعره و أحاسيسه، ليس له الآن و بهذه اللحظة سوى الإمعان في ذاته و الإنصات إلى أسرارها و ما تخبئه من أسرار و أوجاع.
هنا في هذا الخطاب يضمحل دور المتكلم و بالمقابل يتصاعد و يعلو صوت المخاطب بعلو الوجع . فيصبح المتكلم نفسه المخاطب .. إذ نجد المتكلم يخاطب نفسه في خطاب مضمر ، فنجده يخاطب
نفسه في شخص آخر أو مخاطب غيره و هنا يكمن عمق الوجع المعلن عنه لمتكلم مخاطب غير معلن .
هذا الإضمار لم يكن محظ الصدفة لأن وضع الشاعر و موقعه من الوجع فرض عليه أن يخاطب نفسه من خلال الآخر هكذا يخفف من وثيرة الوجع و ينقص من تصاعد الإيقاع .
فصوتُ الوجع يعلو بالداخل لكنه لا يتجاوز الحنجرة .. هكذا تبدو القصيدة شبه صرخة لكنها مكتومة، صرخة داخل الذات، و ذات متألمة يكاد الوجع يخنقها فلا تستطيع الكلام .
القصيدة يطغى عليها نبرة الحزن و الوجع لمتكلم غير معلن عنه، و كأنها قصيدة بلا كلام تقول الكثير من الكلام و تعبر عن أشياء كثيرة في سكوت وصمت. قد يطغى الصمت على الكلام لكنه يفصح عن ذات الشاعر بلا كلام و يعبر عن وجعه أبلغ من أي كلمات يمكنها أن تُقال.
ربما عرفنا الوجع لكننا الآن نتساءل عن سبب هذا الوجع و عن مصدره، فلما كل هذا الوجع الذي يخنق الشاعر؟ و لما يأتي الوجع مقرونا بالصمت؟
نعم إنه وجع كبير عندما يتعلق الأمر بالوطن، وطن تفرق أبناءه و شردوا .. و سلبوا من أبسط حقوقهم و منعوا من وطنهم و العيش فيه بسلام و كرامة . فلا شيء أغلى من الوطن لهذا قال الشاعر:
وترتسم في عينيك تفاصيل الوطن
مخطوطة بالأحمر الناري
شاعر أُبعِد عن وطنه و عن أهله و ذويه فليس له الآن سوى وجعه يتجرعه قطرة قطرة إلى أن يفنيه في صمت، قد يتناسى هذا الوجع لهذا قال في مطلع قصيدته “أحيانا” لكن أبدا لن ينسى وطنه و لن يزول وجعه مادامت تفاصيل الوطن ترتسم في عينيه بخط أحمر ناري. فالوجع نار تتقد داخل القلب، فتحرقه.
دام نبض قلمك أخي احمد محمود دحبور
أحيانا
يعلو وجعك
ثم يعلو
لكن صداه يقف عند عتبة الحنجرة
لهذا يطول صمتك
وترتسم في عينيك تفاصيل الوطن
مخطوطة بالأحمر الناري

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!