النوستالجيا في ديوان (قلبي ما زال مجهول الهوية)

آفاق حرة

 

كتب إبراهيم موسى النحَّاس:

الشاعر محمد كرام في ديوانه الجديد (قلبي ما زال مجهول الهوية) يُقدِّم لنا رؤية تقوم على الحنين لذكريات الطفولة البكر بما تحمله من شحنات عاطفية ترتبط بالبراءة والجمال، فيقول في القصيدة التي حملت عنوان الديوان: ((أين ابنةُ الجيرانِ/ ذاتُ العيونِ الخُضْرِ والشفاهِ الشهيةْ؟/ أين فتاةُ أحلامي التي / طاردتني في كُلّ أروقتي الخياليةْ؟/ أين تلك الفتاةُ التي/ كتبتُ اسمَها في كرَّاستي؟/ فضربني مدرسُ اللغةِ الإنجليزيةْ/ وأين صديقاتُ طفولتي/ في المدرسةِ الابتدائيةْ؟/ ما أجملَ طفلينِ صغيرينِ/ وهُما يرتديان (المريلةَ) البُنِّيةْ/ نتجاورُ في الفصلِ كمُهْرينِ/ براءتُنا لغةٌ فطريةْ/ وكم أحببنا حصةُ التربيةِ الموسيقيةْ / نصطَفُّ أمامَ السبورةِ/ نحملُ أدواتِ العزفْ/ تخرج إيقاعاتٌ منّا/ تشبه ألوانَ الطيفْ/ نتخيّلُ أنّا نعزفُ لحنًا/ لكنَّ اللحنَ الأجملَ نحنُ)).

ثم يمزج هذا الحنين بذكرياته مع أحد معلميه في المدرسة اعترافًا بفضل المعلم عليه، فيقول في قصيدة (أستاذي): ((كم شربنا من مناهلهِ فارتوينا / وانتشينا بعلمٍ أذكى من الفلِّ/ عذرًا معلمي وأسفي / وعزائي بأيامٍ / قد مَرَّت من غير وصْلِ/ عذرًا معلمي فما جهِلَتْ/ ما بين حنايا الضلوع ذوي الفضلِ/ ما كان حظُّكَ نسيانًا/ فلو كان حظي فإنَّ الثّكلَ ثكلي/ قد تنسى العين يومًا أختها/ فتُذكِّرها بها زجاجة الكحلِ/ يحنُّ المرءُ لعهد الصبا/ ويزدادُ حنينهُ إن مضى بالحِمْلِ/ على بابه قد وقفتُ موَدِّعا / وكيف الوداع بين أُمٍّ وطفل)).

ومن هُنا نلمس احتفاء الشاعر بالذكرى والذكريات، ليقول أيضًا في قصيدة (طيف): ((تأتيكَ بِـزِيِّ المدرسةِ/ بملامحَ بنتٍ في العاشرةْ/ تمشي بهدوءٍ وبثقةٍ/ تقفُ أمامكَ حائرةْ/ وترى عينيها الضاحكتينِ/ وترى عينيكَ الساهرةْ/ وترى شفتيكَ المجْـهَـدتينِ/ تُـخْـفي بسمَتَكَ الفاترةْ/ تهديكَ براءتَها الأولى/ تهديكَ ملامحَ نادرةْ/ تهواكَ بعنفٍ وبرفقٍ/ تخفي غيرتَها الثائرة/ تأتيكَ حبيبتك الأولى/ طيفٌ من ذكرى عابرة)).

ليصبح اللجوء إلى الذكريات والحنين إليها بمثابة الواقع الموازي الجميل الذي تخلقه الذات الشاعرة في مواجهة سلبيات الواقع الفعلي،  سلبيات منها معاناة الأديب في واقعه عبَّر عنها في قصيدة (ذاكرتي) بقوله: ((يبكي/ كي يصبحَ شاعرْ/ يحفظ آلافَ الكلماتْ/ يتكلم سبعَ لغاتْ/ يكتبُ نثرًا يكتبُ شعرًا/ يرثى دومًا بقصيدتهِ/ مثل الراوي يكتبُ قصصًا/ يصبح بطلًا في قصتهِ/ مشنوقًا في كُلّ الصفحات)).

وإذا انتقلنا من الرؤية لبعض جوانب التشكيل الفني في الديوان نجد ربط الشاعر للتفاصيل الصغيرة بالنوستالجيا والحنين لذكريات الطفولة/ مع توظيفه للمونولوج أو الحوار الداخلي الذي يعكس ما يفيض بالنفس من المشاعر والأحاسيس، فيقول في قصيدة (قُلْ له): ((ذكِّـرْه ُ بيْ/ بوجهي الصَّبُوحِ/ بشَـعري وعطري/ بإحساسي ../ بأنفاسي/ وبشِعرِ الحُبِّ الذي رَتَّـلَهْ/ وأين القبلاتُ التي رصَّـعَتـني؟!/ والسحاباتُ التي ظلَّــلتنا معًا؟!/ حَبَّاتُ المطر التي داعبتنا؟/ وأين آخرُ الطريق؟! تركنا أوَّلُهْ)).

كما نجد توظيف الطابع القصصي المبني على الحكاية في قصيدة (ذاكرتي) حين يقول: ((يخطو شبرًا أو شبرينْ / يقطعُ مِـيلًا أو مِيلينْ / يحيا عُــمْـرًا أو عمْـرينْ/ في أخرهِ ../ يسكن قبرًا من مترينْ/ يسمع كُلّ الأغنياتْ/ يرقص معها .. / في لحظاتْ/ ينسى كُلّ الأمنياتْ/ غير اللاتي فيها حزنٌ/ فيها ألمٌ/ فيها دمعٌ وفراقْ)).

وعلى مستوى المعجم الشعري نجد توظيف الشاعر للغة فنية تقوم على المجاز وتبتعد عن التقريرية والمباشرة في التعبير، بل نجد التجديد في عدد من الصور الشعرية المبتكرة التي تعكس قوة الخيال لدى الشاعر كتلك الصور في قصيدة (محاولة لوصف امرأة من الجنة) حين يقول: ((اسمكِ فيهِ طعمُ الحلوى حينَ أنطِـقهُ/ يذوبُ في فمي كقطعةِ زُبـْدٍ طريّةْ/ أعيدهُ .. / أتهجّاهُ .. / وأبقى أُرَدِّدهُ/ كطفلٍ/ في أوِّلِ عهدهِ بدرسِ اللغةِ العربيةْ)).

كما نجد تقسيم القصيدة إلى مقاطع قصيرة تقوم على التكثيف الدلالي كرمز لتفكك العالم أو تشظي الذات الشاعرة، كما في قصيدة (نصف ونصف).

من القراءة السابقة يمكن أن أقول إنَّ ديوان (قلبي ما زال مجهول الهوية) للشاعر محمد كرام تقوم رؤيته على الحنين لذكريات الطفولة البكر، في قصيدة قامت على الثراء الفني من خلال توظيف المجاز والتجديد في بعض الصور الشعرية، مع توظيف الطابع القصصي والمونولوج الداخلي، إضافة إلى التكثيف الدلالي الذي يعكس تمكن الشاعر من التعامل الجيِّد مع اللغة.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!