بين ميرا و المايسترو….رؤية جديدة لفن الرسائل

آفاق  حرة
كتب إبراهيم موسى النحَّاس:

يعتبر فن الرسائل من فنون النثر الأدبي التي حفل بها أدبنا العربي وأوَّل من كتبها كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لدعوة ملوك وأمراء العالم للدخول في الدين الإسلامي, ثم تشعَّبت أنواعها بين رسائل إخوانية وديوانية ووصفية, حتى وصلنا إلى العصر الحديث, فيستغلها كتاب الرواية والقصة القصيرة على مستويين: الأول يقوم فيه الكاتب بتوظيف الرسالة داخل نسيج الحدث الروائي وبنيتها الهندسية, الثاني تكون الرسالة هي عصب الرواية وأساس بنائها لتُشكِّل الرسائل في النهاية شكلًا جديدًا من أشكال الرواية,وبسبب التقدُّم الكبير في عالم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي التي قامت الآن بوظيفة وهدف الرسائل قديمًا, اترتبطت الرسالة ارتباطا وثيقًا بفن الرواية لتظهر الرواية التي تقوم على توظيف الرسالة داخلها, أو تكون الرسالة هدفًا في جد ذاتها بديلًا عن الرواية في بنيتها القائمة على البداية والوسط والنهاية, والقاصة وحيدة رجيمي (ميرا) مع القاص ( الطيب عبادلية) في كتابهما الجديد ((بين ميرا و المايسترو.. رسائل بيـــــان ووجــــــدان)) يعملان على توظيف هذا الفن الأدبي العربي القديم مدركين لاختلاف وظيفته في العصر الحديث, وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة كادت تقضي على فن الرسالة, فهذا الكتاب يحاول إحياء هذا النوع الأدبي لكن بوظيفة جديدة ومنظور مختلف, وهذا ما أقرَّ به الطيب عبادلية في سياق ردِّه على الكاتبة ميرا في تقديمها حين قال: ((ما كان لنا أن نلتقيَ أنا وأنتِ يا عزيزة “بونة” وما كان ليولدَ بيننا هذا البوحُ الذي يعيدُ بَعْث أدبٍ عربيٍّ كادَ ينقضي أمْرُهُ بانقضاءِ”جبران” و “مَي”؛ وقضاءِ غسَّان وغادة)), أو قوله في الرسالة السادسة: ((انزويتُ بكِ لأكتبَ لكِ .. فقد أعَدْتِ – أنتِ دون سِوَاكِ – لي وهجَ كتابةِ الرسالةِ التي بدأ الانقراضُ يُغيِّبُها..)).

 

نلمس في الكتاب أيضًا الحضور القوي للمكان, وذلك السرد الروائي المهتم بأدق التفاصيل كما في قول الطيب عبادلية في الرسالة السابعة: ((وأنا أمُرُّ بالديارِ .. ديارِكُم حيثُ البحرِ .. و”إيدوغ” شامخٌ كأنَّهُ يحرسُ شواطئَهُ ويمُدُّ بصرَهُ كما كانت تفعل “حذامي”.. وحيثُ الساحاتِ والأزقَّةِ  والباعةِ .. وقفتُ طويلًا أمامَ بائعِ الزهورِ .. أعرفُ يقينًا مدى حُبُّكِ للونِ ألأجوري .. ولكنِّي في هذه المَرَّةِ والوقفةِ أجدُ أنَّني في حالةِ دهشةٍ وإعجابٍ بالنرجسِ.. بلونِهِ الأصفرِ الفاقعِ وأبيضِهِ الناصعِ وأخضرِهِ النائرِ .. النرجسُ .. نوَّارُ العاشقين ..)).

التعبير عن أيدلوجية الكاتب والصراع بين القلب والعقل لتحمل الرسائل موقف الكاتب والكاتبة تجاه قضايا الكون والحياة والحُب والقلب والعقل, ولنقرأ معًا قول وحيدة رجيمي في الرسالة التاسعة: ((إنَّهُ ومهما كانت منابعُ الكتابةِ ولو كان القلبُ … بكلِّ تأكيدٍ فإنَّها بمُبارَكةٍ من العقلِ .. لا شيءَ فيَّ أنا ..يحدِّثُ.. ينبضُ ويهمسُ .. يأملُ ويرجو .. لاشيءَ يتمُّ إلّا بمباركةٍ وانسجامٍ بين عقلي المتنوِّرِ وقلبي النابضِ .. فلا قلبَ ينبضُ بالحُبِّ بمعزلٍ عن العقلِ .. ولاعقلَ يأملُ في حُبٍّ لن ينبضَ له القلبُ..)). نفس الملمح نجده عند الطيب عبادلية في الرسالة العاشرة حين بقول: ((أنا يوسفُ يا إخوتي  .. ولستُ كيوسفَ حُسْنًا .. ولم أدَّعِ  يومًا أنِّي  في الحُبِّ نبيًّا .. يُقبِّلُ طيفَها يحملُ بريدَها المُعطّرَ بأنفاسِها  الشذيَّة ..وهي تسألني في حياء .. طفلة صبية .. مَن أخرجَك من الجُبِّ .. غيرُ حُبِّي)).

الإعلاء من شأن القارئ ليصبح مشاركًا في كتابة النص وذلك بترك فراغات دلالية متعمدة يكملها القارئ من خلال توظيف الحذف مثل حذف المنادى المُعرَّف بأداة التعريف “ال” بعد أيُّها, لخلق نوع من التفاعل والمشاركة مع القارئ كما في قول الكاتبة وحيدا ميرا في رسالة التقديم: ((.. براكين ظلّتْ في سُباتِها دهورًا .. فإذا أنتَ تشعل فتيلها.. أيُّها .. أنتَ..أيُّها السابحُ في ملكوتِ البيانِ .. تصدحُ شِعرًا..تنثر نثرًا.. وتروي لنا .. عن سالفِ الزمكان.. أنت ..أيُّها العاكفُ و المعتكف في دير الأحزان)) ولنتأمَّل معًا ذلك التلاعب باللغة في كلمة “الزمكان” التي جمعت بين الزمان والمكان في كلمة واحدة لتعكس الكاتبة وحدتهما كما تعكس قدرتها على التعامل مع اللغة ببراعة حتى لو ستعيد بنيتها الصرفية. نفس التقنية نجدها في الرسالة الأولى والتي جاء عنوانها (( في الأفقِ بريقٌ)) حيث نجد حذف الاسم المجرور بعد “حتى” كذلك حذف المتعجب منه بعد “ما أجمل”حين يقول الطيب عبادلية: ((كان اليأسُ .. ينخرُ النبضَ ويُضعِفُهُ .. حتى .. فما أجملَ .. حتى التي تبيدُ يأسًا .. وتضيءُ ظلمة ..ويحل ربيعٌ بَعْدَ شتاءٍ..))

يتجلى في الرسائل العمق الفلسفي لدرجة عَرْض الكاتبة لرؤيتها التي تعظم من شأن الحب وقيمته في الحياة حين تقول في الرسالة الخامسة: ((إنَّنا نُحِبُّ لنعيشَ حتى بَعْدَ الحياةِ … ولا نعيشُ لنُحِبَّ .. والحُبُّ هو الحالةُ المُزمِنةُ التى لا نعالجُها .. ولا نريدُ الشفاءَ منها…ليتَ ربِّي يزيدُ في عُمْري عُمْرًا لأحِبَّ عُمْرًا آخَرَ و دهرًا)).

من القراءة السابقة يمكن أن نقول إنَّ كتاب ((بين ميرا و المايسترو.. رسائل بيـــــان ووجــــــدان)) لوحيدة رجيمي”ميرا” والطيب عبادلية يقوم على هدف إحياء الرسائل الأدبية الوجدانية كرسائل مي زيادة مع جبران ولكن من منظور روائي يهتم بعرض رؤية الكاتب تجاه قضايا وقيم إنسانية مثل قيمة الحب وصراع القلب والعقل وما تحمله من عمق فلسفي, ولغة سرد روائي تهتم بوصف أدق التفاصيل وتعكس صورة الكاتب المثقف, ليُفجِّر الكتاب التساؤل الهام حول مدى علاقة فن الرسالة بالرواية في أدبنا الحديث.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!