»حداد الكلمات «قراءة في كتاب “تراتيل الأيام السورية” للشاعرة وداد سلوم

 

عبد الهادي موادي باحث من المغرب

 

في لحظات حزينة يملأها الموت والخوف والصراخ والهروب… تكتب الشاعرة وداد سلوم تراتيل الأيام السورية، واضعة معاناة الشعب السوري في مئة وخمسة عشرصفحة. الشاعرة سليلة بلاد الشام التي لم تكن تعرف للحرب من قرار، كانت تقضي أيامها بين روضاتها وحدائقها على إيقاع أنغام العصافير، وتساقط أمطار فصل الشتاء، حيث كانت الحياة هادئة سعيدة ورائعة؛ فجأة تنتفض البلاد عن أنفاسها، أسلحة العدو هدمت كل شيء، ما بناه السابقون دثره اللاحقون، وظلمات الحرب تنشر الخلاعة في الناس، موالد الموت ما تزال في بدايتها، وخريف الغياب يكاد يخفي كل الأزهار المورقة، المدن التي شيدها جدي طالها الأحفاد فصارت مثل حيوان في صحراء مقفرة، ربيع الأمل ضاع وسط البؤس، الشام التي تولاها إبليس ليست التي مر منها صلاح الدين، الأسوار التي كنا نشاهدها من المغرب دكتها أرجل الفارين من الحرب، الورود البيضاء التي كانت العرائس تضعها للزينة استبدلت بقناديل من حديد.

الشاعرة وداد سلوم تحاول رسم التغير الذي طال وطنها من الماضي نحو الحاضر، والذي قلب الحياة من الهدوء إلى اللاهدوء، ومن اللاحرب إلى الحرب،فانبنت قريحة الكتابة عندها على هذا الأساس.

اليد التي تكتب تستطيع في أي لحظة أن تغير الأشياء الخبيثة في الواقع وتحولها إلى جمال، والقارئ لنصوص هذا الكتاب يدرك ذلكحتما. حيث لا أمل في الواقع، يوجد أمل عن طريق الكتابة،والبطن المؤمنة بضرورة الخلاص تستطيع أن تنجب جنديا باستطاعته تطهير هذا العالم النتن، تقول الشاعرة:

وبهمة مؤمن له عمر الخليقة

يحفر قبرا

يدفن عظام الحرب المقددة

بشاهدة مجهولة

منسية هناك..

في الجنوب،

بعيدا

بعيدا عن قلب البلاد

الحرب يعني الموت، الضياع، الخسران، الانهيار، التيه؛ والمشاركة في المعارك أمر ضروري، ولو عن طريق الكتابة؛ هكذا انبنت رؤيا الشاعرة وداد سلوم، التي وجدت نفسها وسط نهر الجثث والدماء، وسط القتل والتنكيل، وسط السلب ونهب الحريات، بل وسط أرض انقلب زمانها، فنسجت وحاكت باللغة تلك المتواليات، وغيرتإيقاع البهجة في اللغة حزنا، لتكون أكثر صدق لوصف ما يجري، لغتها الحزينة لم تنبني صدفة، بل هي تحصيل اليومي ومخلفاته، لذلك تتخذها وسيلة لبعث الماضي الجميل، وتبخيس الحاضر، حتى يتسنى لها زعزعة الأنفس والضمائر.

الشاعرة تكتب الأنين بلغة أنيقة مشبعة بالارتجاف والانقباض، النابعان من القلب، تتحمل عبء الوطن، مثل حجر قديم هكذا تشبه نفسها، كلماتها ذات وقع حاد فهي تسعى للملمة وتغيير ما يمكن تغيره، لذلك عبرت القارات بلغتها الصارخة، وأمام وقع ما يجري تتساءل:

كيف أغسل روحي من الدمار الناشب فيها؟

كيف أغسل ذاكرتي من بلادناشبة فيها

رمحا مسموما؟

أي موت يكفي ليمضي هذا الحقد؟

ليتلف هذا القتل؟

كم من أجساد ليذهب الثأر في الماضي؟

وليمعن في الذهاب؟

لذلك فالصورة عندها لها ارتباطات أبعد من المدى، وأبعد من الزمان، فهي تملك القدرة على تحويل الأشلاء والبقايا إلى جمال، والقدرة أيضا على إسماع صوت الحرب إلى كل بقاع العالم، لذلك كتبت رجس الأشياء، وظلم الأعداء وهلع الأمهات على أطفالهن، فقرأت رسائل البحر على جباه الغرقى، واندحار سوريا من عليائها، وطموحات الموتى.

هكذا كان يكتب بودلير واضعا الحياة في ما لا حياة فيه، مستثمرا الرؤيا المأساوية للأشياء والواقع الذي يعيشه، ليخلق الصورة من العدم، وليقول للعالم أن تلك الأشياء المهملة يمكنها أن تقود العالم بانتظام وحزم أحسن مما يفعله الإنسان؛ لذلك تحاول الشاعرة شرب قهوة الفلاسفة العظام، بل التشبع بفلسفة الوجود، حيث تتساءل عن سر خلود الموت وتناسله، وعن الحقد الزاخر فينا، والظلم الذي يكبل أنفسنا، ليس ذلك فحسب بل تتحدث عن إرادة الموت، ودور الإنسان في الحياة.

 

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!