رمضان على مائدة الشعراء 1-2/ بقلم الشاعر والناقد السعودي سعد عبد الله الغريبي

يفرح المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها لقدوم شهر رمضان المبارك. كيف لا وهو شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، شهر العبادة التي وُكل أمر ثوابها إلى الخالق جل وعلا: “إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”.
لكن ما استرعى انتباهي وأنا أبحث في هذا الموضوع أن تعبير الشعراء المسلمين عن بهجتهم بالشهر الكريم وحض بعضهم بعضا على صيامه وقيامه لم يظهر إلا متأخرا، فنكاد لا نجد في عصري الراشدين والأمويين شيئا من ذلك. أما في العصر العباسي فأكثر ما نجد أبيات الشعراء المجان والخلعاء وهم يعبرون عن تخوفهم لقرب الشهر الكريم، وما سيفرضه عليهم من حرمانهم المتع التي غرقوا فيها، وسأُعرض عنها صفحا، كما نجد بعض أبيات في تهنئة الخليفة بالشهر الكريم مثل أبيات الشاعر أبي بكر الصنوبري (ت 334 هـ) مهنئا بقدوم شهر رمضان:

نلـــــت في ذا الصـــيام مــا ترتجيــــه    ووقـــاك الإلـــه مــا تتقيــه
أنتَ في الناس مثل ذا الشهر في الأشـــــــــــهر أو مثل ليلة الـقدر فيـه
ومثلها أبيات الأمير تميم بن المعز لدين الله (ت 374هـ) مهنئا شقيقه الخليفة العزيز بالله أحد الخلفاء الفاطميين بمصر:

ليهنك أن الصوم فرض مؤكد      من الله مفروض على كل مسلم
وأنك مفروض المحبة مثلــه      علينا بحق – قلتُ – لا بالتوهـــم
أما في العصور المتأخرة وإلى يومنا هذا فقد تبارى الشعراء مرحبين بالشهر الكريم وبهلاله وبلياليه وأيامه، ومعددين فضائله ومزاياه، وموضحين حكمة فرضه وضرورة العمل على تحقيق هذه الحكم.
كما نلحظ أن كثيرا من الأبيات والقصائد الرمضانية مجهول قائلوها، وكأن الناس حفظوها للاستشهاد بها في مناسبتها كل عام ولم يُعنوا بمن نظمها. وغير قليل منها ضعيف فنيا، فهي لا تعدو أن تكون حكما وتوجيهات نظمت في قوالب شعرية..
يعلن المؤيد لدين الله هبة الله الشيرازي (ت 470هـ) عن فرحته بقدوم شهر رجب لأنه سيتلوه شعبان ثم رمضان، فيقول:

ورحــمة ربــنا فينا تجــلت     وذاك الفضل من رب رحيم
وليس سواه يسأل عن نعيم      إذا وقع الســـؤال عن النعيم
أتى رجب يؤمم منك شمس الســـــــــعادة بدرها بدر العلوم
ويأتي بعده شعبان شهر النــــــــبـــي الطاهر الطهر الكريم
وشـــــــهر الله يتلوه وكل يدل على أخي شــرف جسيم

وقد أبدع الشاعر ابن حمديس الصقلي (ت 527 هـ) في وصف هلال رمضان إذ شبهه بالصب الناحل الجسم بقوله:
قلت والنـــاس يرقبون هلالا     يشبه الصب من نحافة جســـمه
من يكن صائما فذا رمضان     خط بالنور للورى أول اســــمـه

وها هو الشاعر الأندلسي ابن الصباغ الجذامي (ت 650هـ) يرحب بمقدم هلال رمضان، ويحضنا على تعظيمه وإكرامه بتلاوة القرآن الكريم، فيقول:

هذا هلال الصوم من رمضان     بالأفق بان فلا تكـــن بالواني
وافاك ضــيفا فالتزم تعظيمـه      واجعــل قِراهُ قراءةَ القــــرآن
صُــمْهُ وصُنهُ واغتنم أيامــه       واجبر ذما الضعفاء بالإحسان
ومن الشعراء المعاصرين الذي عبروا عن فرحتهم بمقدم الشهر الكريم الشاعر السوري خير الدين وانلي الذي حث المسلمين على استقباله بالعمل تحسبا للثواب، فقال:

رمضــان أقبلَ يا أولي الألباب     فاســتقبلوه بعد طــول غيــابِ
عام مضى من عمرنا في غفلةٍ     فتنبّهــوا فالعمــرُ ظـلُّ ســحابِ
وتهيّـــؤوا لتصــبّرٍ ومشــــقةٍ      فأجور من صبروا بغير حسابِ
الله يجــزي الصائمين لأنّهم        من أجله سـخروا بكلّ صــعابِ

أما الأديب مصطفى صادق الرافعي – رحمه الله – فيعبر عن إحساسه بحلول الشهر الكريم بقوله:

فديتـــك زائراً في كــل عـــــام     تُحَيّا بالســـلامة والســلامِ
وتُقْبِلُ كالغمــام يفيــض حـــيناً     ويبقــى بعــده أثرُ الغمــامِ
وكم في الناس من كلفٍ مشوقٍ    إليك وكم شــجيٍ مُســـتهامِ
ويشبه الشاعر الدكتور عبد الله بن سليّم الرشيد شهر الصيام بالنهر الجاري الذي جاء ليغسل الأردان التي تراكمت من الشهور السابقة له، ويحث الشُّعث الغُبر بسبب الذنوب على أن يغتسلوا منه:

مرَّ شــعبان فلم تَحــفَل به    روحُه الملقاةُ بين الهمَّلِ
عجباً من أغبر ذي شعثٍ    مــرَّ بالنهــر فلم يغتسلِ

وللشاعر المصري محمود حسن إسماعيل قصيدة جميلة يرحب فيها بمقدم شهر الصيام، ويشبهه بالضيف الذي لا يكلف مضيفيه شيئا، يقول فيها:

أَضَيْفٌ أنت حـَـلّ على الأنام    وأقسـم أن يُحَيــّا بالصيـام
قطعت الدهـــر جَوّابــا وفيـّا     يعـود مزاره فـي كل عـام
تُخيِّم لا يحدُّ حمــاك ركــــن     فكل الأرض مهـــد للخيـام
نسخت شعائر الضـيفان لمـا     قنعت من الضيافة بالمقــام
ورحت تسن للأجواد شرعـا    من الإحسان علوي النظـام
بأن الجــود حرمــان وزهـد     أعـزُّ من الشراب أو الطعام

ويرحب الشاعر الجزائري المعاصر محمد الأخضر بحلول شهر الخير والرحمة فيقول:

املأ الدنيــــا شــــعاعا     أيهــا النور الحبيــب
اســـكب الأنــوار فيها     مــن بعيـــد وقريــب
ذكِّـــر النـــاس عهودا     هي من خيـر العهـــود
يوم كان الصوم معنى      للتســامي والصـــعود
ينشــر الرحمة في الأر     ض على هذا الوجـــود

ولكاتب هذا المقال قصيدة بعنوان (رمضان) يقول فيها:

رمضــانُ هَلَّ فمرحبا بهلالِـه     شــهرُ الهُدى والبِرِّ والغفرانِ
شــهرٌ تَنَــزَّلَ فيه مُحْكـمُ آيِــهِ      تَهدي الأنَـــامَ لمنهــجِ الدَّيَّــانِ
فيه الجِنــانُ تفتَّحــتْ أبوابُــها     وتُسَـــدُّ فيــه منافـــذُ النِّيــران
فاغنم من الشهر الكريم نهارَهُ      بالصومِ والصــلواتِ والقرآن
والليلَ فاسهرْ خاشـعا متهجِّدا       متعوِّذا من ســــِيرةِ الشيطان
واشكرْ إلهكَ إذ أراكَ طريقَهُ        وهــداك للإســلام والإيمــان

وفي النونية المنسوبة للقحطاني الأندلسي المتوفى في الربع الأخير من القرن الرابع الهجري موعظة بليغة؛ يحثنا فيها الشاعر على الاجتهاد في رمضان صياما وقياما حتى لا يدركنا الموت خاليي الوفاض:

أدِم الصـــيام مـع القيـــام تعبُّـــــــدا      فكلاهمــــا عمــلان مقبـــولانِ
قم في الدجـى واتلُ الكتاب ولا تنمْ إلا    كنومـــــة حائـــر ولهــــان
فلربمـــــــا تأتـــي المنيـــة بغتـــــة      فتســـاق من فُرش إلى أكفــــان
يا حبذا عينان في غســـق الدجـــى      من خشــــية الرحمــــن باكيتان

أما الصاحب بن عباد (ت 385هـ) فينعي على من لا يعرف من الصيام إلا أنه حرمان فيقول:
قد تعدَّوا على الصــيام وقالــوا      حُرِم العبد فيه حسن العوائد
كذبوا، في الصــيام للمرء مهما     كــان مســـتيقظًا أتم الفوائــد
موقــف بالنهـــار غير مريـــب    واجتماع بالليل عند المســاجد

وفي شهر الصيام تصوم الجوارح كلها عن معصية الله تعالى، فتصوم العين بِغضّها عما حرم الله النظر إليه، ويصوم اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة، وتصوم الأذن عن الإصغاء إلى ما نهى الله عنه، وهذا أبو اسحق الصابي (ت 384هـ) يعيب على من يصوم عن الطعام فقط، وهو يقترف الذنوب والآثام، فيقول:

يا ذا الذي صـام عن الطعام      ليتك قد صمت عــن الظــلم
هل ينفع الصوم امرءا طالما     أحشــاؤه مــلأى مــن الإثــم
وللشاعر السوري حميد الأحمد أبيات في المعنى ذاته، إذ يقول:
تصوم عن الطعام وليس يكفي     فما التقوى بتركك للطعام
وأطلقت الجــوارح منك حتى      لتفســد كلَّ صومك بالكلام
وتمضغ في لحوم الناس جهرا     فما تجنيه من هذا الصيام؟!
وفي السياق نفسه يقول أبو بكر عطية الأندلسي (ت 541):

إذا لم يكن في الســــمع مني تصــاون      وفي مقلتي غضٌّ وفي مقولي صَمْتُ
فحظي إذن من صومي الجوع والظما      وإن قلت: إني صمت يوما فما صُمْتُ
يتبع.

(( الفرقد ))

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!