فلسفة الموت والحياة في ديوان” ليبقى بيننا” للشاعر جليل دلهامي

 

 

 

كتب إبراهيم موسى النحَّاس:

يرى أرسطوطاليس في مقالته الأولى من كتابه” الأخلاق” بترجمة إسحق بن حنين أنَّ أفعالنا إذا كانت لها غاية نرجوها لذاتها بينما نرجو الآخر بسببها, من الواضح أنَّ تلك الغاية لا يمكن أن تكون سوى الخير, الخير الأسمى, و الشاعر جليل دلهامي في ديوانه( ليبقى بيننا) تقوم رؤيته على بعد فلسفي عميق تجاه الحياة و الموت من خلال هذا المنطلق, ينتمي الديوان في بنيته الإيقاعية إلى قصيدة النثر, و في بنيته التكوينية نجد الديوان عبارة عن قصيدة واحدة قسَّمَها الشاعر إلى ثمانية و ثلاثين مقطعًا قصيرًا, ليصبح كل مقطع و كأنَّه لوحة تشكيلية تُعبِّر عن جانب من جوانب رؤية الشاعر.

أوَّل ما يطالعنا في الديوان هو هذا العمق الفلسفي الوجودي المرتبط بجدلية العلاقة بين الموت و الحياة وموقف الذات الشاعرة منهما, فيقول في المقطع الثاني و الثلاثين:

((المؤمنونبالذاكرة … بقاياالبشر

وحدهم …يتجرعون … منكأسالغياب

سنينالعمرالباقية

وحدهم … نذروا .. ابتساماتهم…

للانتظار

وحدهم ..

علىفوهةالصمتيحترقون بلا دخان)).

و يصل هذا الفكر و الإحساس الوجودي لقِمَّته في المقطع الثامن و الثلاثين حيث الانتظار و تجرُّع كأس الغياب و الاحتراق في متاعب الحياة بدون أن يشعر أحدأي بدون دخان, فيقول:

 ((سنموت …

وينتهيكلشيئ

الفرح / الحزن / اليوم / الغد / الشتاء

سنموت …

ويتبخّركلهذاالكون

كلالكونفيكفّي

حيننتعلمالاحتراق

سنذيب … هذاالبلورالذيبيننا

والحروف

حيننتعلمالاحتراق

سنشعلكلمَنحولنا

حتىالقمر

حيننتعلم … كلالذيلمنتعلمهبعد

سنكتبفيأوَّلالسطرذكرياتناالهجينة

ليقرأهاأولادنابعدجيل

ويعرفونكممِتنا … حُبًّا

لنعيشإلىالأبد))

و لأنَّنا نموت حُبًّا كي نعيش إلى الأبد تسعى الذات الشاعرة إلى الخير الأسمى عن طريق نقد الواقع المحيط بها فنجد التعبير عن القضايا الكليَّة حول السياسة و عن الذين باعوا الوطن و أورثونا الخطايا في المقطع الخامس حيث يقول:

((نسجوا .. منالريحمانسجوا

فرحًا .. يدغدغ .. أحزانهم

( إنوجدت)

ترفابعُمْرٍما

وَرْدًا… وابتسامة

كوخضخم .. لاأعرفكيفيسمونه

علىشاطئما

فيقارةٍما

يقابلربيعًاوناموا

نسجوامنالريحوطنا … عاريًامنالأغنيات

ثماستراحوا

وعادوا…

يبيعونأمثالنا

ماطابلهممنخطاباتودعاية

تبًّالهم

باعواالبلاد .. وأورثوناالخطايا)) حتى المدينة في المقطع الخامس شوارعها بدَتْ مملوءة بالذنوب فيقول:

((فيمدينتيالتي…/ لاتؤمنبالآخرة

أجوبالشوارعالمملوءةبالذنوب

ككلالمذنبين

أبحثعنأشياءبلامعنى

ألقيالسلامعلىبقاياالبشر / لايردُّون

أكملطريقي

أدخلمحلالخردواتعلنيأجدمايغريني

لاشيء … قديمنحنيالحياة

وسطالغبار

وجدتُوجهيعلىمرآةمُهشّمة

ألقيتالسلام / لمأردّمَنهناك

ابتسمت

لكنالمرآةكمدينتي / فاجرة

لمتسمحلوجهيالآخربابتسامةأخيرة)).

و رغم تلك النظرة العدمية نلمح الذات القوية الفاعلة المؤمنة بنفسها و قدراتها و كلها أمل,كما في المقطع السابع و الثلاثين حين يقول في سياق حديثه لها:

((سأمضيفيالعمر ..

باسمًاكالربيع

لنأخاففراقكِ

لابُدَّأنألتقيكِذاتَ .. قدَرٍ

 

وأنامفيحضنكإلىالأبد)). وكم كان الشاعر رائعًا في كسر أفق التلقي لدى القارئ العادي في تعامله مع مفردات اللغة حين قال( لا بدَّ أن ألتقيكِ ذات قدَر) و لم يقل ( ذات يوم) مِمَّا يؤكد أنَّنا أمام شاعر مجدِّد يجيد التعامل مع اللغة في إطار تجريبي يرفض المتوقَّع والتقليد.

و في مواجهة الإحساس الوجودي بالموت و الرغبة في الحياة المليئة بالجمال و الخير و مواجهة سلبيات الواقع تتجه الذات الشاعرة لملاذ يُخفّف عنها وطأة الشعور بالحزن, هذا الملاذ هو المرأة التي يستعين بوجودها لمواجهة الغياب و العدم و الموت كما في المقطع الثامن حيث يقول:

((لنفرض..

أنّيالآنببينيدكِ..

كأغنيةٍ … مُبتسمةالنوتات

كفراشةِضوء…

أتعبهاالظلام

كشمعةٍ… تراقص

ألحانالكمان

وأنّكِ …. الحاضرالغائب

أفتّشعنكِ .. داخلي

أصرخ … فيوجهالعدم..

أناديكِ…

غائب ../ ورائحتكتملأالمكان)) ويصبح انتظارها أمرًا طبيعيًّا لأنَّها صارت كل الأشياء, فيقول في المقطع الحادي عشر:

((أيُّنخبٍ .. سأشربهذاالمساء

لاأثرللرياح

أجلسعلىحافّةِالانتظار .. / منتظرًا

كلَّالأشياء

كلَّالمحطاتالتيقدتأتيبكِ

وقدلا … تأتي

أراقببقاياالنساءالمهجورة .. / فيبلدي

مثليوحيدة … أنهكهاالانتظار

وأتلو .. رسائلكِالتيلمْتصِلني

علىمسامعالحاضرين

وسطالفراغ)).

     وقد اعتمد الشاعر للتعبير عن رؤيته على بعض السمات الفنية منها توظيف لغة اليومي و المعاش على مستوى المعجم اللغوي مع الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة التي تؤكد ثقافته في قراءة فن الروايةكما في المقطع الثاني حيث يقول:

 ((فيكفي

مليونجرح..

خلّفته.. الأيادي .. التيصافحتني

…ومضتإلىوجهتها

كلالكراسيالتي …أمسكتها

أوراقالجرائد…

فناجينالقهوة

مفاتيحالجارة

سجائري

قطعالنقود

وانبهاري

لفحاتالريححينألوّح

كيأُسلّم .. منبعيد

علىانتظاري)).

      استخدام التكثيف الدلالي الذي يتناسب مع المقاطع القصيرة كما في  المقطع العشرين حين يقول في سياق حديثه عنها و عن أهمية وجودها في حياته موظّفًا الجانب الجسديّ: ((رياح…

وتنُّورة .. هاربة

ترسمبعضالملامح

امرأةعلىشاطئرغبتي…

تسكناللحظات))

      كما يوظِّف الشاعر الطابع القصصي القائم على الحكاية و التكثيف و التشويق منذ أوَّل مقطع في الديوان حين يقول:

((حبيبة … تحضرحقيبتها

لتغادرآخرالمواطن

علىمرافئالشوق

تضعمنزجاجة … أنوثتها

رشفتين

تشربمنكأسالعنب…

تقبِّل … صورةحبيبهافيالبرواز

تسكرالجدران…))

       و إذا تحدثنا عن الخيال نجد الشاعر جمع بين التصوير الكلي الذي يهتم بأدق التفاصيل كما في المقاطع السابقة إضافة إلى اهتمامه بالخيال المركّب كما تلك الصورة المركبة في المقطع السادس والعشرين حين يقول:

((بعضحزني…

وجهكِالغائبعنأملي

زيجاتالروحتسكنأضلعي

أحلاميالحُبلىبكِ

تأبىالمخاضَ

تأبىأنتنجلي

بعضحزني…

موتٌيغازلالموتفيمأتمي)). كما نجد على مستوى التصوير الجزئي تلك الصور الشعرية الجديدة المبتكرة المرتبطة برؤية الشاعر كتلك الصورة الجديدة المرتبطة بها و بالموت في المقطع السابع والثلاثين((كونيكالموت…واهجريفوضايالمرتبة)) أو تلك الصورة المرتبطة بالانتظار في المقطع التاسع عشر حين يقول: ((كالوقت…كانتتمضيمسرعة/ سيدةمنسراب…/كنتُوحيدًا .. فيمحطةالانتظار/أعانقساعةعلىظهرالجدار )).

من هنا فديوان (( ليبقى بيننا)) للشاعر جليل دلهامي يقوم في رؤيته على عمق فلسفي وجودي تجاه الموت و الحياة مع تعرية لسلبيات الواقع و الإيمان بالمرأة و أهمية وجودها في قصيدة تقوم في بنيتها على المقاطع القصيرة التي توظف التكثيف الدلالي و الطابع القصصي و الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة و التجديد في الصورة الشعرية. وقد اصطحبت الديوان ترجمةفرنسية جميلة للمترجمة نائلة طوايبية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!