قراءة في ( أريد أن أحك تلك الفكرة. ) للكاتب والناقد الفلسطيني سعيد أبو نعسة

أفاق حرة

مجموعة قصص قصيرة جدا للأديبة الفلسطينية (تبارك الياسين )

هكذا وبهذا العنوان المكتمل مبنى ومعنى تؤكد تبارك ذاتها . وبإرادة الحُرّة العربية تُصر على حكّ( تلك) الفكرة; لا (هذه) الفكرة ;وكأن تبارك تتجاوز العوائق و تسعى مع سبق الترصّد  نحو أفكارنا التي علاها الصدأ وغبار التقليد والرتابة والاجترار .

في هذه المجموعة صاغت تبارك عالمها القصصي الخاص ،ووجهت وجهها شطر الإبداع وأعرضت عن الناقدين .

 

إيمانها بأن الشكل هو الأدب جعلها تحمل معول التجديد لتهدم القوالب الجامدة وتحطم الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية كي تشكل نمطا في القصّ جديدا; عموده الفقري الدهشة والقفلة الصادمة وجسده رشاقة من أسلوب مبتكر.

حين يتلبّس الكاتب شخوص قصصه فإنه يتنوّع فيبدو أكثر و أعمق.

يتحول من مجرد كاتب إلى رواية شاسعة الأرجاء، لا يكفيها الكون مكانا ولا الحياة زمانا ; فإذا الشارع تبارك وإذا السجن تبارك وإذا الفضاء تبارك وإذا التاريخ هي ; وإذا هي طائر يغني لذلك كله .

طائر يحمل ريشة أدقّ من الشعرة وأحَدّ من الشفرة يكشط بها عفن التراث الرتيب ويجلو الحاضر فإذا هو عروس تأتلق بثوب الجِدّة والابتكار ،وتزهو بسنا الإبداع المتفرد .

( تبارك )ساحرة من نوع مختلف ،تمتطي

مكنسة تجوب بها أقطار  الكون وتفاصيل الأمكنة .مع السكير تترنح وفي الحانة تسقينا كؤوس المتعة وهي تسخر من واقع مأزوم وفكر مهزوم .ونتأوه معها وهي تهدهد دموع أمّ مكلومة وعجوز جائع وقِط شريد. تقطع رأس نيرون ;تقبّل جبين موزارت ويد مودلياني; تمجّد الإنسان فتتجاوز الأوطان  .

تبارك كاتبة مراوغة تحمل مصباح (الياسين) تحكّه فيحضر أمامها سيزيف وكازانوفا وفرانكشتاين .

تسحر القارئ فيمتطي المكنسة وراءها نحو الذكريات الغابرة ونحو ( ألِيس ) التي في بلاد العجائب .

في هذه المجموعة تطبّق تبارك  نظرية التقمص ولا تعلكها فقط .تطل من بين الحروف شاعرةً حينا ودراكولا حينا آخر .عازفة تداعب الوتر ; وجلادا يفرقع بسوطه . بائعة ورود ;وسيّافا يقطع الرؤوس . عجوزا مستقرة; ومغامرة سندبادية تلاعب الخطر .

تبارك كاهنة داهية تمقت سجع الكهّان. تروح تتلاعب بالصيغ والتراكيب فإذا عقدُ بديع ينتظم وسحرُ بيان يحلّق بنا في فضاء استعاري فيّاض بالسحر الحلال وبأقانيم الجمال .

تبارك الخيّرة تجعلك لا تسأل : من هي ؟

بل كم هي ؟

تبارك الشريرة دعت الشعب إلى وليمة عامرة ووقفت تعزف له لحن بحيرة الوجع

فإذا بالمدعوين  يكرعون كؤوس الحقيقة المُرّة ويكتشفون أنفسهم صارخين بصوت واحد : شكرا لك .هكذا يُجمع البشر …حول الفن والأدب  .

هكذا الإبداع يَنفخ في الصور فيبعث النيام على صوت مزمار الحاوي تحمله تبارك فتتلوى الخصور ويضج الرقص في قصر أرضُه مرمر وحيطانُه كريستال تتعاكس عليه تناقضات الحياة ثم تأتلف قصةً قصيرة جدا تختزل الإنسان في مسيرته الكونية وصوره التي لا تنتهي.

( أريد أن أحك تلك الفكرة) مائدةٌ فيها اللذيذ الجديد والصحي المفيد يقول متذوّقه :هل من مزيد ؟

وفيها ما زاد ملحه وتوابله حتى أحرق واحترق .

فيها إسراف العربي في الكلام واقتضاب الغربي في التعبير .

فيها المكثّف والمنتفش  والمنبسط والمنكمش .

ومهما يكن فالكاتب ليس ماكينة تفريخ إبداع .هو كالحياة فيها الغث وفيها السمين .

لكن المجموعة مع كل ما قيل وما يمكن أن يقال تبقى عيدا لأولنا وآخرنا  وأدبا ملتزما لمن أراد أن يذكّر أو ألقى السمع وهو شهيد .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!