قراءة في رواية “كائن رمادي” بقلم. أ. د. ثناء قاسم

لآفاق حرة

قراءة في رواية كائن رمادي لنشأت المصري
بقلم أ.د. ثناء قاسم


خلفت قراءة رواية ( كائن رمادي) لنشأت المصري في نفسي انطباعًا وأثرًا وحالة لا أظن أنها مرت علىّ من قبل مع رواية أخرى ؛ خلفت إحساسًا هو مزيج من الدهشة والتعجب والإعجاب والتأمل سواء لموضوع الرواية الذي أظنه بكرًا في مجال الكتابة القصصية أو للوعاء الفني الذي حملها ؛ من مستوى فني في السرد والتكنيك واللغة وغير ذلك . أدهشني الكاتب في التقاط هذه الفكرة والموضوع الذي يتقاسمه علم النفس والفلسفة في إطار مشبع بالواقع . لقد استطاع الكاتب بثقافته وتجاربه في الحياة التقاط صور لبؤر عميقة تتراوح داخل الكثير من الناس ومع ذلك فهى غير معلنة أو مكشوفة ، ولا يعرفها إلا من عاشها ، وإلقاء الضوء الكاشف على حالة من حالات النفس البشرية حين تتسلط عليها ظروف وأحداث وحوادث ، فتصبح رهينة إحساس يفقدها القدرة على مواصلة رحلة الحياة بشكل طبيعي . وسبب هذا الانطباع لدىّ أن الحالة التي عرضها الكاتب من خلال معاناة ( وليد ) هى نفس الحالة التي تنتابني أحيانًا ، ترتبط بعلاقتي بالأشياء والناس وتفاصيل المعيشة ومراحلها ، حلوها ومرها ، نجاحاتها وعثراتها ، أتأمل ما مضى وما هو كائن وما هو آت ، وأجمع بينهم برابط العبثية والملالة والسأم واللامبالاة . كل شيء يصبح ماضيًا ، حتى المستقبل هو زمن سيمضي كغيره وينتهي. قيمة أى شيء تصبح صفرًا . فبين حركة الكائنات وطبيعة الدنيا معادلة صفرية محصولها المستنتج : لاشيء يبقى ، ولا شيء مهما كانت قيمته يدوم . سؤال كثيرًا ما أسأله لنفسي : أين ذهب المفكرون والمصلحون والقادة والزعماء؟ أين ذهب أصحاب الأموال والسطوة والنفوذ ؟ كل يوم ينتهي، ليأتي يوم بعده ينتهي مثله . هذا ما عبرت عنه أبيات المتنبي في قوله :
نبكي عَلى الدُنيا وَما مِن مَعشَرٍ جَمَعَتهُمُ الدُنيا فَلَم يَتَفَرَّقوا
أَينَ الأَكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى كَنَزوا الكُنوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا
مِن كُلِّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بِجَيشِهِ حَتّى ثوى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيِّقُ
وَالمَوتُ آتٍ وَالنُفوسُ نَفائِس والمُستَعـِزُ بما لديه الأحمقُ
(والمُستَعـِزُ بما لديه الأحمقُ) الجملة العبقرية بصدد ما نحن فيه ، فكل ما لدى الدنيا لنا لا يستحق التهليل له أو استعظامه وكأنه الغاية الكبرى ، الأحمق فقط هو من يفعل هذا ؛ لأن لكل غاية منتهى ، ولكل هدف نهاية .
اكتشفتُ من خلال هذه الرواية – بكل تفاصيلها ودقائقها – أنني لست وحدي من تمر به هذه الحالة ، فالكاتب يشاركني هذا ، وربما أناس كثيرون ، ولم لا ؟
لقد أسقط الكاتب معاناة البطل وأزمته على عناصر الرواية الفنية ، وصبغها بصبغته ، وأسبغ عليها ما غلف الرواية بأكملها بما يكشف بجلاء الستار عن طبيعة تلك الأزمة . نستعرض ذلك فيما يأتي :
دلالة العنوان / أزمة البطل
من الخطأ أن يتوقف القاريء أمام عنوان العمل القصصي في محاولة استشفاف مدلوله وما يرمي إليه. ، ولا يجوز له استباق مرحلة قراءة الرواية ؛ لأنه لن يصل إلى نتيجة مأمونة مضمونة ، باستثناء عناوين الشخصيات والأماكن . والتكهنات هنا ليس لها أى سند من منطق أو فطنة ، ومهما كانت درجة وضوح العنوان فلن يصل القاريء إلى المغزى إلا بعد الفراغ من القراءة ، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك عناوين لا تكشف عن المغزى حتى بعد قراءة القصة . فبعض الكتاب لا يولون العناوين اهتمامًا كافيًا من حيث الدقة في الاختيار بما يلائم مضمون الرواية . رغم ما تمثله من قيمة بوصفها عتبة للنص تحمل وحدها ضلعًا في صياغة خلاصة فلسفة الكاتب أو رؤيته في الرواية . ورغم هذا كله فإن القاريء عامة لا يستطيع التحكم في خياله الذي يسرح محلقًا فيما وراء العنوان بمجرد أن تقع عينه على الغلاف .
( كائن رمادي ) عنوان جاذب للتكهنات و التساؤلات والتأويلات قبل القراءة وعند الشروع في القراءة : ربما يكون المقصود بالكائن الرمادي شخصًا احترق حتى صار رمادًا ، وربما يكون المقصود الكائنات الخرافية أو الأسطورية التي تعيش فوق الأرض أو تحتها ، حسب بعض المعتقدات . وبخاصة حين نصادف ما يشير إلى ذلك في موضع – وحيد – في الرواية ، حين وصفت ( إيمان ) الزوجة الثانية ( وليد ) وكان مستغرقًا في شروده قائلة : عيناك تكاد تخترقان الجدران والسقف ، حتى وجهك ، تبدل لونه ، كأنك رمادي خرج من جوف الأرض ، أو هبط من السماء ، أخافك أحيانًا . وربما يكون المقصود الإنسان المتردد . وبخاصة مع ورود ما يؤكد هذا في الجزء الأخير من الرواية حين وصفته ( رحمة ) الزوجة الثالثة بالمتردد الأبيض .
إنه على الرغم من وجود هذه العلامات المرشحة أن تكون إجابات عما يتعلق بتساؤلات مطروحة بصدد مقصود العنوان ، فإنها ليست كاشفة عن المغزى ، فهذه الرواية من النوع الذي يحتاج إلى تأمل وتذوق من القاريء – لا بالقراءة العابرة – لكي يصل إلى العلاقة الجامعة بين عنوان الرواية ومغزاها . وهى لا تتضح إلا عند التقاط طبيعة الأزمة التي يعانيها البطل ، وهى معاناة مركبة . وعلينا الإنصات إلى النص لعله يخبرنا بدلالة العنوان على نحو قريب .
تكشف رواية ( كائن رمادي ) عن معاناة ( وليد ) التي هيمنت على الرواية من أولها إلى آخرها ، وهى تتلخص فيما تحمله طبيعة كل شيء حولنا من صفة الوجود المؤقت ، فلا شيء يملك لنفسه صفة الخلود أو البقاء الدائم ، فكل شيء مهما طال له نهاية ؛ حتى نحن البشر، لأعمارنا أيضًا نهاية بالموت ، بل للموت نفسه نهاية بالبعث . وكل من عليها فان .
هو يرى ( إن مساكننا التي نملكها ليست ملكنا في الحقيقة ، الزمن يصنع بيننا وبين الأشياء والأماكن تعاقدات خادعة لا تلبث أن تختفي أو تنقرض، وحينئذ تضحك الجدران، والأبواب، والنوافذ علينا حين ننظر إلى الأشياء بشىء من الفخر والكبرياء، فبعد حين قد يكون مجرد ساعات قليلة يختفي كل شىء، وقد لا نحظى حتى بشرف التذكر).
إن أزمة ( وليد ) يتنازعها أمران يجمع بينهما – في نظري – رابط يتصل بالتحليل النفسي للشخصية ؛ أحدهما شخصيته الموصوفة بالرمادية . واللون الرمادي – كما هو معروف- ليس لونًا أصيلًا بنفسه ، فهو درجة حيادية تنحدر وتندرج بين اللونين المحددين في الدرجة : الأبيض والأسود . لون مؤقت في وجوده المتأرجح قربًا أو بعدًا عن اللونين ، وهو بذلك لون لا يدوم طويلًا . ويؤكد هذا ما ورد على لسان ( وليد ) حين قال : يبدو أن اللون الرمادي هو المعبر عنا لأنه مثلنا مؤقت وليس آخر أو أول درجة في لونه ، ليس هناك لون رمادى واحد محدد يستطيع أن يعلن أنه هو الأصل.” وعبر عنه كذلك حين عاد ( وليد ) بالذاكرة إلى نشأته التي أسهمت في تغلل صفة الرمادية داخله : ( لقد زرع أبي وأمي وكل من حولي في نفسي مبدأ التكيف ، وألا أعترض إلى حد التصادم ، وأن أكون جاهزًا للتراجع إذا اقترب مني الضرر بسبب إصراري ، حتى صرت رماديًا ، لا أنا أبيض ولا أسود في فكري وفعلي …أتعبني اللون الرمادي يا إيمان ، ما أكثر ما أحس أنني كائن رمادي هامشي) .
.لتلتقي هذه الصفة فلسفة ( وليد ) التي تمثل الوجه الآخر من أزمته وهى أن كل شيء في حياتنا مؤقت .
أما كلمة ( كائن ) فهى دلالة على المساحة الكونية الواسعة المستوعبة لعدم البقاء والخلود والديمومة ، التي تشمل الكائنات كلها ؛ الحية وغير الحية . وهى بذلك خرجت من المجال المحدود لو جاء العنوان ( رجل رمادي ) .أو ( إنسان رمادي). ويحتفظ لفظ ( كائن ) هنا أيضًا برؤية الكاتب ذات البعد الفلسفي الذي ألقى بظلاله على الرواية .
الأحداث / أزمة البطل
تتضاءل قيمة الحدث -على أهميته – في مثل هذا النوع من الروايات التي تعنى باستجلاء حالة من حالات النفس البشرية ، ربما أزمة قد ألمت بالبطل ، أو معاناة صراع ذاتي داخلي يمر به ، حيث يفسح المجال بدرجة أكبر لبعض الأشكال الفنية ، أو الأدوات المساعدة في إبراز كنه هذا الصراع وهذه المعاناة . والصراع عندما يكون متمركزًا داخل البطل ، فإنه لا قيمة للأحداث الخارجية التي تدفع بها الشخصيات في اتجاهات أخرى ، لتحل المواقف والشواهد محل هذه الأحداث التي بدورها تُروى من داخل شخصية البطل لا خارجها.
( كائن رمادي ) رواية شخصية ، لا رواية أحداث تنمو وتتطور طوعًا لنسيج القصة . ومن ثم فهى تعنى بتحري حركة الشخصية ومراقبة سلوكها وردود أفعالها وانطباعتها ؛ وما نتوقف عنده من أحداث في هذه الرواية يجري على سبيل إسهامها في التعبير عن رؤية الكاتب وصياغة مضمون الرواية صياغة واضحة المعالم أكثر من كونها ترصد تطورًا ما . من هذه الأحداث :
1- زواج ابنته ( عائشة ) في مفتتح الرواية ، لتبدأ مأساته في فقد الهدف الأكبر في حياته
2-انفصاله عن زوجته الأولى ( غادة ) وأم ابنته الوحيدة رغم مكانتها عنده ؛ ليتزوج بأخرى. فلم يعد له ما يبقى من أجله بعد زواج الابنة .
3- زواجه بجارته ( إيمان ) ظنًا منه أنه يحقق هدفًا بالارتباط بها وهى الجميلة الرقيقة التي ربما تعوضه بعد أن أقعد المرض زوجته الأولى.
4- كثرة التجوال والتنقل والسفر بما يسهم في إبراز أزمته ؛ منه على سبيل المثال السفر إلى جنوب سيناء ، وتسلق قمة الجبل ليرى تضاؤل الأرض والناس ، ويرى قوة الجبل وصلابته التي ستنتهي يوم القيامة ، وتصير لينة ضعيفة كقطعة الصوف المنفوش . وسفره إلى المنصورة طلبًا للعزلة ليلتقي ( رحمة ) زوجته الثالثة .
5-الزواج برحمة ، التي حاول مرارًا الفرار منها لنفس الأسباب الثابتة لديه ، إلا إن هدفه الأول الذي انتهى بزواج ابنته ( نانا ) قد أعيد مرة أخرى وتجدد في ميلاد ابنته ( صفاء) فتنتهي معاناته..
وفيما يتعلق بمسألة زواج ( وليد ) من ثلاثة في الرواية ، نرى أن الكاتب أراد من خلال هذه الأحداث الخاصة بالتنقل في الزواج – لفظة تنقل هنا هى الأكثر دقة في وصف مسألة الزواج وليس التعدد – تحقيق عدة أهداف : أولها؛ تقديم ما يتصل اتصالًا صميمًا بأزمة البطل ، وهى أحداث تعكس المعاناة ، حيث أنه يضجر ويميل إلى الانسحاب باحثًا عن هدف ثابت يدوم .ثانيها؛ التأكيد على الفكرة المسيطرة على الرواية وهى أن كل شيء مؤقت حتى العلاقات الزوجية . وقد جرى في خاطر عائشة ابنة الزوجة الثانية الآتي : (هذا العام أتخرج في الجامعة ، أعمل مع أخى، أتزوج ، وقد أطلق فى العام الأول أو الثاني كما تقول الإحصاءات، وهذا لم يعد مؤسفًا، فنصف قصص الزواج تنتهي بطلاق ساخن أو فاتر، وسوف أجعله فاترًا، فأنا لا أخلق المشاكل، وأحب النوم الطويل، وقد يصبح ذلك أحد أسباب الطلاق، فلا شىء يستمر طويلًا ) . و ثالثها ؛ هو ترتيب أدى إلى زواجه من رحمة التي انتهت عندها معاناته بميلاد ابنته ( صفاء ) ، وهذا كله تم تسخيره من أجل إبراز الرؤية الفلسفية في الرواية .
أضاف الكاتب إلى جانب هذه الأحداث عنصرًا جديدًا تم توظيفه ، يعضد به الحدث ويؤازره في تجسيد عمق معاناة البطل دقةً وتفصيلًا . وهى إضافة لا أظن أنه قد سُبق إليها في روايات أخرى ، هذا من جهة ، وهى تعد شكلًا فنيًا ملائمًا تمامًا لمضمون الرواية من جهة أخرى ، فقد شكل الكاتب العديد من القصص القصيرة ودفع بها داخل القصة الأساسية الكبرى للرواية . حيث مثلت هذه القصص عنصر القوى الضاغطة على البطل والمحاصرة له . فهى قصص قصيرة كقصة حياتنا وكحياتنا نفسها . قصة مؤقتة سرعان ما تمضي سريعًا وتنتهي . نعرض شيئًا منها فيما يأتي بنفس تسلسل ورودها في الرواية :
1-قصة الزامر : كان الزامر يعزف بحماس معجبًا بعزفه وكأنه باق وخالد ، وقد وصفه ( وليد ) على سبيل السخرية : ( إنه يمارس عملًا مقدسًا من الأرض إلى الفضاء ) . ثم تبدأ ملامح الصراع في الظهور من خلال ما يدور في رأس ( وليد ) : ( لكن أيها الزامر هل أنت شخصيًا موعود بالخلود ؟ قد تحيا عامًا أو ألف عام ثم تموت بلا رجوع إلى هذا العالم الذى تتشبث به وتزمر له ). قصة الزامر هى أول قصة قصيرة تظهر في الرواية ، بل كانت هى المشهد الافتتاحي لها . وهى – في رأيي – أكثر القصص توضيحًا لمعاناة البطل مقارنة بالقصص الأخرى الواردة في هذه الرواية . و ترجع أسباب هذا إلى رغبة الكاتب في التبكير بالكشف عن طبيعة أزمة البطل لكي يلتقط القاريء بداية الخيط ويسير عليه حتى نهايته ، وهو إجراء يتسق مع طبيعة هذا النوع من الروايات . فلا يتم تأجيل الكشف عن طبيعة الصراع إلى منتصف الرواية ، ويكون مكانها الأنسب صدرها.( وكائن رمادي ) تشبه في ذلك رواية ( الشحاذ ) ؛ حيث بدأ نجيب محفوظ الكشف عن أزمة البطل منذ المشهد الأول ، عندما افتتحت الرواية على العيادة التي جلس فيها البطل يتأمل الصور من حوله ، ثم في شكواه للطبيب من أعراض بدأت تظهر عليه ، ثم يخبره الطبيب أنه ليس وراءها أى عرض أو مرض عضوي . فكلتا الروايتين من ذلك النوع المعني بأزمة يعاني منها البطل .
2- قصة الراعي : قصة تؤكد داخل البطل الشعور باللاقيمة واللاجدوى حتى مع الأعمال التي نرى أن لها قيمة كبرى ، فكرة تعمق لديه الشعور بالعبثية وعدم وجود معايير منطقية تحكم ما يدور حولنا . فهذه معزوفة (الراعي الوحيد) لجورج زامفير، التي طارت شهرتها ، بأى معايير جاء الحكم بعظمتها ؟ وهل هى فعلًا تعبر عن ( الراعي ) المسماة باسمه ؟ وها هو الراعي يسمعه ( وليد ) الموسيقى التي وضعت باسمه فلم يتأثر بها .
3- قصة الصديقة الليبية : مساحة هذه القصة في الرواية بضعة أسطر ، عرض فيها الكاتب بإيجاز ما يأتي :
• طبيعة العلاقة التي تربط هذه الصديقة بوليد ، فهى صديقة عبر الفيس بوك ، تصغره بنفس الفارق بين الأب وابنته ، جميلة ، بينهما انسجام عقلي ووجداني ، عمر العلاقة خمس سنوات .
• أخفت عنه مرضها الخطير .
• توفيت بعد أن تنازلت له عن كل ما تملك ( خمسة ملايين دينار وكلب لطيف ) .
• سافر إلى بني غازي لاستلام الثروة .
جاءت هذه القصة القصيرة لتمنح الرواية عدة أبعاد :
• أن كل شيء في الدنيا له نهاية ، حتى العلاقات . وقد كان (وليد) يؤكد لها هذا التصور المتغلغل داخله : كل ما بيننا جميل ولا شىء مهم، ولكل شىء جميل نهاية لأنه مؤقت.
• أن الموت يداهم البشر فجأة ، ولا يمنعه عنهم مال ولا جمال .
• أن من تصاريف القدر التي لانملك معها حيلة أن يموت أحدهم ويستفيد آخر منه مهما بعدت بينهما الأماكن . وهكذا تمضي الأيام ويتحرك القدر بين الناس .
4-قصة مشتري الروبابيكيا والخردة : قصة كاشفة بشكل كبير عن فكرة بلاء الأشياء وانتهائها ، وأنه لا شيئ يدوم على حاله . فإذا كان هذا هو الشائع في الأشياء التي نستخدمها ، فإن البطل يرى أن هذا نفسه يسري أو ينطبق على البشر أنفسهم ، فهم يبلون ، وتنتهي أهدافهم ومهامهم في الحياة ، بل ويفنون (ضحكت دون قصد، وأنا أتخيله في مرات قادمة يملأ عربته بأجساد البشر بدلًا من المعادن والأخشاب، فهم ’’بيكيا’’ الأيام المقبلة ).
5- قصة الصديق اللاعب ( زكي ) : زكى لاعب الكرة ، هداف بلدة ( وليد ) ، كان لاعبًا أسطوريًا مشهورًا . لكن تبدل به الحال ، ثم مات وأصبح مجرد ذكرى. وهو مثال على فكرة أنه لا شيء يدوم ، لاشيء خالد ثابت .
6- قصة صاحب التاكسي : تختلف عن القصص الأخرى في أمرين ؛ الأول أنها قصة لا يتكشف مغزاها إلا بعد تمعن وتفكر واستكمالها إلى نهايتها . الأمر الثاني أنها القصة الوحيدة التي لم تنته من أول مرة ، فقد استأنفها الكاتب بعد مرور بعض القصص والأحداث . وهذه المساحة الزمنية الواسعة أتاحت فرص التغيير التي طرأت على صاحب القصة ، حيث ظهر في الجزء الأول بصحة جيدة رغم تخطيه التسعين من العمر، مثقفًا حكيمًا ، وكان هذا مصدر تفاؤل لوليد . وقد مرت عدة سنوات وتقابلا ، فتكشف له عن شخص مختل عقليًا ، وليس بصحة جيدة . وهذا مثال على الفكرة المسيطرة على البطل ، أن لكل شيء نهاية ، وأن وجود أى شيء مهما كان مؤقت .
7-قصة الأستاذ مبروك : يمثل الأستاذ (محمد ابراهيم مبروك- جار وليد ) النموذج الأمثل لإنسان يدرك تمام الإدراك حقيقة الدنيا وما عليها ، إنسان فهم المعادلة وحقيقة الدنيا ، فهى لا تساوي شيئًا ، فلا يضطر إلى مجاراتها بالكذب أو الطمع أو النفاق أو الضجر، فعاش راضيًا ومات راضيًا ، وهو أيضًا رغم كل هذا الرضا مات ، شأن كل شيء سينتهي ؛ السعيد والشقي ، الراضي والساخط ، المتفائل والمتشائم ، المبتسم والعبوس .
8- قصة موت الجار وزوجته : تتوالى القصص القصيرة المشبعة بمفارقة الحياة ، والآمال التي تكبر والطموح الذي يلهث ثم لا يلبث أن يصطدم بقدر يغير وجه كل شيء أو يكتب نهايته . وكأنها تصدق على مقولة : تعددت الأسباب والموت واحد.
هذا الجار سمسار في منتصف الكهولة ، وهو الذى زين لوليد السكن في العمارة باعتبارها حديثة البناء وآمنة تمامًا، منذ نحو شهر واحد، اعترف لوليد أنه سيشتري عمارة جديدة ، فقد ربح كثيرًا من مهنة السمسرة . هذا ما رواه وليد عن جاره ، وكأنه كان يستعرض حركة حياة هذا الجار في تلك اللحظات وذلك المشهد العجيب الذي ألقى فيه بنفسه من الطابق الأخير هربًا من الموت محترقًا ، لكنه سقط محترقًا ، وقد فشل في إنقاذ زوجته التي تفحمت داخل الشقة . استعرض في تلك اللحظات المفارقة بين اختيار السكن الآمن حديث البناء ، وبين الموت فيه سريعًا . المفارقة بين الطموح والثراء حين أنتوى شراء عمارة جديدة الشهر القادم ، وبين مفارقته كل هذا في لحظة . المفارقة بين ما قام به من توفير صنبور مياه باردة ليشرب منه المارة والظامئون ، وبين عدم تمكنه من تناول شربة واحدة منه حين ارتعشت شفتاه طلبًا للماء ، فكان ملاك الموت أسبق من الماء . (حتى زوجته تفحمت داخل الشقة ، ولعله فشل في إنقاذها، وحالت النار بينه وبين الباب فقفز من الشرفة، هو اختيار قسرى بين ميتتين، هو نفسه الاختيار بين الحياة والموت) . هكذا ممكن أن يموت الإنسان فجأة تاركًا وراءه كل شيء . الأهم من ذلك أن هذا الانتقال من الدنيا يحدث ببساطة لا يكاد يقف عندها أحد . فهذه ( إيمان ) زوجة وليد الثانية لا تشعر بالأمر برمته ، فقالت وهى تتمطى في فراشها، ما هذا الضجيج الذي أضاع نومى. ليرد وليد:
– أمر عادى، فقدت العمارة شخصين إلى يوم القيامة، أكملي نومك.
وكذلك في موقف ابن الجار المحترق الذي أقبل في هلع استبد بصوته وحركاته، حتى أنه لطم كالنساء حين شاهد أمه المتفحمة ، لكن ظهر من بين الواقفين الفضوليين شخص يشى ثوبه بأنه نقاش، مد يده لابن الفقيد ب ’’كارت’’ فيه اسمه وعنوانه قائلًا: حين تقرر طلاء الشقة . ومضى ، العجيب أن الابن وضع الكارت فى جيبه بطريقة آلية.
وفي هذا تجسيد لحركة الحياة التي لا تتوقف بموت أحد مهما كانت مكانته ودرجته . فالإنسان يعيش وفي يقينه أنه محور الكون ، وأن المجرة ستتوقف بموته . لكن موقف الابن والنقاش وإيمان ينسف هذا اليقين.
لقد هيمن الموت على الرواية من خلال الأحداث والقصص القصيرة والأخبار التي تم تداولها وذكرها ، وهى تؤكد على هذا الاتجاه في التفكير والتصور ، وبخاصة تعدد الأماكن والأسباب والموت واحد , وأن الفرد بل الأعداد الهائلة ممكن أن تنتهي حياتهم بسهولة وفي لحظة . مثال ذلك بالإضافة إلى ما سبق :
• موت الشاب ( رمزي ) ابن الزوجة الثانية فجأة على أثر زلزال ضرب ( أزمت ) ، بعد أن سرق أموالًا طائلة من أمه وزوجها وليد ، وبعد طموحه وآماله العريضة وحركته اللاهثة وراء تحقيق ثراء سريع مهما كان طريق الكسب والتجارة حلالًا أم حرامًا.
• ما ذكره ( وليد ) عن أسباب رغبته في السفر إلى (رواندا) تحديدًا وهى بلد ليس مناسبًا للتنزه : أريد أن أعرف كيف تحمل هؤلاء الإبادة بمئات الألوف عام 1994م ، ورميت جثثهم في النهر كالقطط الميتة، كيف سكتت الأرض، وكيف استسلم النهر حينما سكت البشر؟ كيف صبروا وهم يعلمون أن الموت هو النهاية .وأنهم مؤقتون هم ومن ذبحوهم؟
• ما كان يدور في نفس وليد عن المفارقة بين طلب الخلود والموت : لقد جئت إلى الحياة بدون سؤال ، وتمنيت الخلود على الأرض، وهو هدف مستحيل، لقد داعب الأمل دكتور أحمد زويل عندما ابتكر الفيمتو ثانية، وتوقع وصوله إلى خريطة كاملة صحيحة للجينوم البشر تمهيدًا لإنسان بلا أمراض، اقترابا إلى الخلود، لكنه نام تحت التراب مع من لم يحلموا بالخلود ، حتى إذا عاش الإنسان نحو ألف عام كما عاش سيدنا نوح عليه السلام، فإن آماد الأعمار لا تعني شيئًا، مادامت الأرض ستستضيفنا تحت ترابها.
• بالإضافة إلى تواتر أخبار الغرقى من المهاجرين هجرة غير شرعية .
الشخصيات / أزمة البطل
تأثرت شخصيات الرواية في حركتها بمعاناة البطل في هاجس الأشياء المؤقتة التي تتحرك بين قوسين ولها نهاية .فلا توجد شخصية ثابتة – باستثناء شخصية البطل- فوجود الشخصيات جاء مؤقتًا، تؤدي دورها ثم تختفي من الأحداث والرواية تمامًا .
الشخصية المحورية
بطل الرواية ( وليد ) ، الشخصية الوحيدة التي غلب وجودها على كل الشخصيات ، فهو الذي وقف يتأمل الأحداث القصيرة ، والقصص القصيرة ، وأعمار الشخصيات القصيرة مهما طالت . هو شخصية محورية تتسم بصفتين أساسيتين ؛ التأمل والزهد .
أما التأمل فهو السمة التي أدت به إلى هذا التفكير ، المتأملون وحدهم من الناس هم من يمرون بنفس حالة وليد ، ولقد حرص الكاتب على إظهار هذا من خلال حالة التأمل والتفحص في أحوال الناس والدنيا طوال الرواية ، بالإضافة إلى ذكره هذا نصًا حين كشف عن متعة وليد في ممارسة متعة تأمل الأخرين ، تلك التي كان يمارسها في طفولته وشبابه الأول .( أمارس تلك المتعة ، متعة تأمل الآخرين في طفولتي ، وشبابي الأول ) .
وأما الزهد فهو – في رأيي- النتيجة المنطقية والحتمية لحالة التأمل التي أحاطت وليد ، وفلسفته المرتكزة على حتمية فناء الدنيا ، وأن كل شيء إلى زوال ، فما قيمة الأشياء إذن؟ وما قيمة أن أملكها ؟ تمامًا كما عبر عنه المتنبي في قوله : والمُستَعـِزُ بما لديه الأحمقُ . وهو نفس التصور الذي قدمه القرآن الكريم للناس كافة من خلال الكشف عن طبيعة الدنيا الفانية وما يستتبع ذلك من الزهد فيها . ففي قوله تعالى : ” وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ” (الكهف/45) . تشبيه تمثيلي يجسد للعين القيمة الحقيقية للدنيا ، حيث شبهت بالنبات الذي يورق وينمو ويثمر بفعل المطر ، وهى تمثل مراحل لعمر الإنسان كما أنها مراحل في دورة النبات ، ثم في النهاية تأتي مرحلة تيبسه ثم هشاشته التي تطيح بها الرياح فلا يصبح شيئًا . وكذلك في قوله تعالى :” اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ” (الحديد/20)
ومثل هذه الصور والأمثلة المجسدة في التشبيه عن طبيعة الدنيا تطبع في قلوب من يفهم ويعي الزهد في الدنيا ، وتجعل الإنسان متوازنًا في ردود أفعاله في حالتي اليسر والعسر ، الشدة والرخاء ، المنح والمنع . فلا يفرح فرحًا شديدًا بما يتحصل عليه من نعم ، ولا يحزن حزنًا شديدًا على ما يفوته منها ، وهذا المعنى تم استكماله بعد التشبيه التمثيلي بقوله تعالى ” لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ” (الحديد/23)
وهذه تمامًا الحالة التي ميزت شخصية وليد ، ونجدها في المواضع الآتية :
1-أمسك بعصا ذات مقبض فضى، ملقاة على الأرض، نظر لى، وددت أن أقول له: كلا ،إلا تلك، فقد أحتاج إليها قريبًا، كما أنها من رائحة الوالد رحمه الله، كأنما أدرك الفتى ما يدور بخلدي فتركها، ثم سألني عن المقابل الذى يسدده . قلت : ادفع مبلغًا لا أعارضك فيه . جمع من جيبه بعض النقود الورقية وسلمها لى منتظرًا رأيي . فوجىء بأننى وضعتها في جيبي دون رغبة في معرفة قيمتها. انصرف شاكرًا.
2- يكفي أنه ابنك ليكون طيبًا، إنني لا أكره أحدًا، دعي كل أموالنا باسمك أنت كما هى، فإننى مسافر غدًا إلى رواندا كما قلت لك.
3- وها أنذا لا أكترث بالمال بعد فوزي بالصفقات الرابحة الكبيرة .
4-شغلتنى لعبة الأهداف، فتزوجت ابنتي، وهو هدف ورد في قائمة الوجود، وربحت ثروة معقولة وهو هدف آخر استنزف يقظتي وحلمي لوقت طويل، ثم صنعت للمال غايات ينفق فيها ، وأنفقت في أولويات اعتادها الناس، والظريف أنني من ساير هذه الأهداف، ولو أنني فكرت بطريقة أخرى كأن أكون زاهدا مثلا، أو أحدد للمال مسارب أخرى لاختلف الأمر من البداية .
5- عليك أن تضعي هذه الأرباح الفائقة في حسابك بالبنك الآن هدية منى إليك ، بعد أن تنال عائشة نصيبها بالطبع.
ـ بل أضعها في حسابك أنت، حتى لانحرم غادة من نصيبها.
ـ إذن اقتسميها مع غادة دون رجوع لي.
أما عن باقي الشخصيات فقد كان حضورها رغم كثرتها سريعًا خاطفًا مؤقتًا ، فقد لعبت دورًا أحاديًا غير متطور، ذلك لتدعيم مضمون الرواية الذي يدور في فلك الأشياء المؤقتة، وقد برع الكاتب هنا في استخدام الشخصيات أداة فنية في معالجة الموضوع .
استباق الزمن/ أزمة البطل
استخدم الكاتب عنصر الزمن استخدامًا بارعًا ، حيث قفز بالمسار الزمني حدود المستقبل ، بشكل أحدث نوعًا من المفاجأة الجاذبة لانتباه القاريء ، المثيرة لتساؤلاته عن أسباب ذلك . لنتعرف عندها علاقة هذا التكنيك الفني وبين أزمة البطل ومضمون فكرة الرواية . فنجد (وليد) يجول في الماضي كاشفًا عن انصرامه ومروره ، فذاك سيدنا نوح ، وهذا الدكتور أحمد زويل ، وهذا الرئيس جمال عبد الناصر : لقد داعب الأمل دكتور أحمد زويل عندما ابتكر الفيمتوثانية، وتوقع وصوله إلى خريطة كاملة صحيحة للجينوم البشرى تمهيدًا لإنسان بلا أمراض، اقترابًا إلى الخلود، لكنه نام تحت التراب مع من لم يحلموا بالخلود ، حتى إذا عاش الإنسان نحو ألف عام كما عاش سيدنا نوح عليه السلام، فإن آماد الأعمار لا تعني شيئًا، مادامت الأرض ستستضيفنا تحت ترابها…
جميل أن يكون الإنسان في بؤرة الاهتمام، وأن يأمر ولا يأمره أحد، فكرة تستحق التنفيذ، لماذا لم أرشح نفسى للرئاسة منذ عشرين عامًا مثلًا قبل أن تتملكنى أفكار المؤقت والخلود، وهل هذه الوظيفة تجعل المؤقت خالدًا؟ هل يفلت الرؤساء والملوك من نهاية كل البشر ؟! وهل الزعيم عبد الناصر ، أو الزعيم الخالد خالد فعلا؟ يمشى بيننا الآن؟
ثم يستبق الأحداث الطبيعية في الزمن الحاضر الكائن في ذهن القاريء ، ويستبق الزمن الحاضر بالحديث عن أزمة المياة وسد النهضة : سنوات قليلة وتغيرت الأحوال في مصر، وصار الشعار الأكبر هو عودة مياة النيل إلى ما كانت عليه ، وتطويع تشغيل سد النهضة لتحقيق ذلك رغم أنف العناد الأثيوبي الظالم، وجه حاكم مصر إنذارًا حاسمًا لأثيوبيا لقبول الإدارة المشتركة للسد، فلم تقبل، فحركت مصر قوات ضخمة بمشاركة سودانية ، وخاضت حربًا عبقرية شرسة، انتهت بالاستيلاء على السد حيث أن ضرب السد نفسه خطر كبير على مصر والسودان، وفرضت مصر شروطها التاريخية وعاد النيل إلى حضن مصر وسط أفراح ذكرت المصريين بأفراح مصر بقهر خط بارليف فى اكتوبر 1973…
مادام النيل قد عاد سنكون جميعًا فى خير ورخاء، أعرف ذلك. لكن ما يؤرقنى ، السؤال الأخير وهو ماذا بعد؟
فيظهر هنا الهدف من هذا الاستباق ، فإذا كان الماضي قد مر بكل ما فيه من أفراح وأحزان ، وانتهى الأمر ، فإن ما نهتم به في حاضرنا من مشكلات وهموم ، ونستجمع فيه كل أهدافنا التي نسعى إليها ، فها هى ذا قد تحققت ، لكن عندها سنقول : وماذا بعد ؟! هى أيضًا أحداث مؤقتة.
وكذلك في الاستباق بفوز مصر على البرازيل في مباريات كأس العالم ، صور فرحة المصريين بهذا الحدث العظيم . لكن وماذا بعد ؟! ثم يتذكر رمزي في هذا الحدث : كان رمزي يعشق مباريات كرة القدم ، كان سيفرح كثيرًا، لعله الآن لا يستطيع أن يعبر، أو لعله لايدرك أصلًا ماجرى، أو هو بعيد عن اهتمامه تمامًا في مقره الجديد .
.إذن فيما كان اهتمامه وولعه الشديد بمتابعة المباريات والتشجيع ، ويوقف أنفاسه على فوز فريقه ؟! فما أهمية هذا الحدث ؟ وما قيمته ؟
الراوي / أزمة البطل
تعدد الراوي والسارد في الرواية بشكل عجيب ، لا ضابط له ، ولا ثبات . فنجد مفتتح الرواية بلسان السارد العليم ، أو الكاتب ، أو الراوي الغائب ، ثم يقطع البطل الكلام على الراوي ليلتقط طرفه ليكمل السرد بلسانه : قبل أن يهتدي وليد إلى إجابة ، سرق وليد لساني ليكمل الحكى بنفسه، فهو أدرى بحاله ، قال : ركبت عربتي وانطلقت على غير هدى، كما اعتدت في الفترة الأخيرة .
وفي موضع آخر يلتقط (رمزي) – وهو شخصية ثانوية – طرف الكلام من ( وليد) ليعرف نفسه بنفسه : أنا رمزى، لا تصدقوا أمى الست إيمان، هى تراني كما تتمنى.
ثم تلتقط الطرف أخته (عائشة) لتتحدث عن نفسها أيضًا بنفسها : بدأت أنسى أسمي الحقيقى، فأنا عائشة التى لم تحظ بلقب للدلال، وأمى تدعي أنني الهامش المحايد الذي يزين البيت .
ثم يكمل الكاتب ( السارد العليم ) الكلام حتى يتسلم ( وليد ) مهمة الرواية : تدخل وليد ، ونحاني أنا السارد العليم ، ومضى يحكى عن نفسه ….
هذا التبادل بين الشخصيات في القيام بدور الراوي ، بشكل يمر سريعًا ، ولا يكاد المقام يستقر بواحد حتى يتسلم راية الرواية غيره – في رأيي – يرتبط بمعاناة البطل ، ويسهم في الكشف عن أزمته . في أنه لا شيء ثابت ، ولا شيء يدوم ,حتى الراوي . وكل إنسان يأخذ دوره في الحياة و سرعان ما ينتهي ويأتي غيره وهكذا …
تجربة الكاتب / أزمة البطل
حين أتأمل تجربة إبداعية وأجد فيها صدقًا فنيًا ، ودقة المبدع في تقصي تفاصيل وتحري دقائق شديدة في قوة تعبيرها عن التجربة ، أجزم لنفسي أن الكاتب لابد أن يكون قد عاش هذه التجربة ، وليس ببعيد أن يكون هو بطلها . مع العلم أن الإبداع بما يحمل من مقومات الخلق والخروج عن دائرة المحاكاة للواقع لا يمنع من أن ينقل الكاتب عن قصة حقيقية ، يتأثر بها بدرجة كلية ، أو بجزء منها ويكمل عليها من وحي خياله . وإني لأظن أن الكاتب هنا يعبر عن تجربة ذاتية ، تكشف عنها دقة التفاصيل في تتبع الحالة التي يعانيها البطل . ومن الجلى في جملة أعمال الأديب نشأت المصري اهتمامه بالحالات الإنسانية ، والجوانب النفسية ، والرؤى الفلسفية سواء في اختيار موضوع الرواية ، أو أسلوب المعالجة ؛ مثل روايات : المهزوز (2019م)– ملائكة في الجحيم (2020م) – كوتشينة(2021م )– اللحن المكسور(2022م) – الكلاب لا تنبح عبثًا (2022م)– كائن رمادي (2023م) .
لقد وصلني إحساس بالتماهي بين شخصية البطل وشخصية الكاتب نفسه ، بما يشير إلى ذاتية التجربة النفسية . التي ظهرت في تحرر الكاتب من بعض القيود الفنية ، وعدم أخذ الحذر في بعض الأحيان ، وهى أمور تعكس تأثر الكاتب بحالة اللامبالاة التي يمر بها البطل ، نتيجة التأمل في حال الدنيا والناس , الذي لا يدوم ، وأن كل شيء في الدنيا فانٍ ، إذن فلا شيء يهم . ويمكنني إجمال مظاهر هذه الحالة وإيجازها في النقاط الآتية :
1- التبادل في مهمة الراوي ، وبخاصة بهذا الانسحاب السافر : سرق وليد لساني ليكمل الحكى بنفسه … أنا رمزى، لا تصدقوا أمى الست إيمان… ونحاني أنا السارد العليم ، ومضى يحكى عن نفسه .
2- إيجاز الكاتب في الحوار بشكل غير مسبوق ، حين يقص كلامًا أشبه بالحكي الفارغ . على سبيل المثال في حوار وليد مع زوجته الثانية : قلت وقالت، قلت وقالت ، حتى قالت إيمان … وهو أسلوب في الإيجاز يكشف – أيضًا – عن حالة البطل ومعاناته ، حيث لا يميل الإنسان إلى تطويل الكلام والحكي .
3- سرد البطل لأسماء كل أصدقائه في الرواية ، فهم أناس يأنس بهم ، لكنهم أيضًا مؤقتون ، فهم مثل كل شيء بين قوسين . ثم يسرد أسماءهم جميعًا ويغلق عليهم قوسين قائلًا : وكل الأصدقاء الذين أضاؤوا حياتي بين قوسين . ومن عجب أننا مع التدقيق والمراجعة نجد أن تلك الأسماء التي سردها البطل هى نفس أسماء أصدقاء الكاتب في الحقيقة ، مما يؤكد ذاتية التجربة التي أشرت إليها .
وبعد ، فإن رواية ( كائن رمادي ) رواية فلسفية ، لكن لم تستغرقها الفلسفة إلا بقدر يسير مما كان يمر به البطل من تأمل في الناس وأحوالهم ، والتفكير فيما يتعلق بالخلق و الميلاد والموت والفناء . وهى رواية نفسية ، لكن لم يستغرقها علم النفس أو الطب النفسي إلا بقدر يسير مما يتعلق بمعنى اللون الرمادي وما يطبعه على صاحبه من الغموض والميل إلى العزلة والتردد وعلاقة هذا بمغزى الرواية من اتصال صفة الرمادية بأنها لون لا يدوم . وهى رواية يشعر معها القارئ أنه هو بطلها بل كاتبها .
ولقد استطاع الكاتب في هذه الرواية ربط كل أركان القصة و عناصرها بأزمة البطل ، وبالرؤية الفلسفية المهيمنة عليها ، من العنوان ، الحدث ، الشخصيات ، الراوي ، القصص القصيرة ، أدوات الكاتب في الخروج عن المألوف أحيانًا .
ومن عجيب الإبداع هنا اكتشافنا في نهاية الرواية التي تتناول صراع البطل مع طبيعة الدنيا المؤقتة ، وتأمله في كل شيء فيها بحالته المؤقتة ، أن الحالة التي كان يعانيها البطل لا تتعدى كونها حالة مؤقتة . فقد انتهت معاناته وأزمته بميلاد ابنته ( صفاء ) ليبدأ مع رحلة حياة جديدة ، لكنها أيضًا – وفق ما استقر داخله – رحلة مؤقتة .
….
د. ثناء محمود قاسم
أستاذ بقسم البلاغة والنقد الأدبي
كلية دار العلوم – جامعة الفيوم
….

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!