قراءة في رواية “مشرد البوسفور” بقلم. أحمد العربي

لصحيفة آفاق حرة

 

قراءة في رواية: مشرد البوسفور.

الكاتب: محمد زعل السلوم.

الناشر: شرفات للنشر والتوزيع.

ط١، ب د ف، ٢٠٢١م.


…..

مشرد البوسفور…

 

بقلم. أحمد العربي.

 

بوح شاب من السوريين الكثيرين الذين احتضنتهم اسطنبول، أحبوها وأحبتهم.

 

تعرفت عليه في معرض اسطنبول لعام ٢٠٢١م، شاب أربعيني، اسمر من طين بلادي الذي اعرفه، تعبت حتى استطعت ان اقاطع نظري مع نظره، خجل بالفطرة، متواضع، احسست انه لا يحب التحدث عن نفسه. وعندما تحدث، تحول امامي من نبتة صغيرة في بلادي، الى شجرة سامقة مباركة، انه شاب طموح، مواظب، ناجح، شاعر وكاتب، كنت سعيدا به، اهداني ما توفر من دواوينه، وعندما سألته هل لديك رواية مكتوبة ومطبوعة ؟.قال نعم لكن لا نسخ ورقية منها لديّ، قلت له اريدها ب د ف، وبعد ايام اتصلت به وحصلت عليها انه محمد زعل السلوم شاعر وكاتب سوري، من الجولان السوري المحتل “نازح” للمرة الثانية، ابن بلادي الرائع والرائعة، له الكثير من الإصدارات الشعرية.

مشرد البوسفور، روايته الأولى، وهي أقرب لسيرة ذاتية، مكتوبة على شكل نصوص في ازمان مختلفة، بدءا من عام ٢٠١٧م. متحدثا فيها عن نفسه وما عاشه، ماضيه، وتواجده في اسطنبول، آفاقه واحلامه، ماتحقق وما يحلم به ان يتحقق.

مشرد البوسفور سردية ممتلئة بذات محمد زعل السلوم، مكتوبة بصيغة المتكلم، يخبرنا أنه نشر أغلبها على صفحته في الفيس بوك.

محمد زعل السلوم شاب سوري في عقده الرابع، لنقل انه في سن النضج. يعي أنه ينتمي إلى أصول قبيلة عريقة، ويعرف انه ابن عائلة نزحت من الجولان بعد نكسة ١٩٦٧م. ولد في دمشق. عائلته استقرت في جديدة عرطوز، ومن يومها اكتسب تسمية “نازح”. ورغم ذلك كانت أحوالهم المعيشية جيدة.

نشأ محمد متميزا، تابع دراسته الجامعية في قسم اللغة الفرنسية وحصل على الشهادة الجامعية. بدأ مبكرا شغفه بالقراءة، وكتابة الشعر. نشر ديوانا وحيدا في دمشق، مُنع بعد ذلك لأنه أشار به للفساد والاستبداد والقهر.

كان شغوفا بالتحصيل المعرفي والثقافي، أصبح ملازما للمركز الثقافي الفرنسي، والاونروا وغيرهم من المراكز الاجنبية المنتشرة في دمشق، أصبح بعد ذلك ملحقا بإذاعة مونت كارلو الفرنسية التي تبث بالعربية، استمر يعمل معهم لسنتين. ليس له نشاط سياسي معارض، وهذا مفهوم ومبرر، فالعمل السياسي المعارض، كان يعني الاعتقال واحتمال الموت، لذلك لم يقاربه إلا قلّة من “المجانين”. لكن هذا لم يمنع محمد أن يكون منتميا قلبا وقالبا لثورة الشعب السوري التي قامت في أواسط آذار ٢٠١١م إنه واحد من ملايين المظلومين في سوريا. لم يكتب محمد في سرديّته عن ما فعل سنوات الثورة حتى خروجه هاربا إلى تركيا عام ٢٠١٧م. ووصوله إلى اسطنبول. و بدأ تدوينه لروايته هذه. حيث ظهر موقفه المعارض للنظام وتأييده لثورة الشعب السوري، وأهدافها بإسقاط الاستبداد واسترداد الحرية والكرامة وتحقيق العدالة والديمقراطية للشعب السوري. تستغرق روايته باسترجاع حياته، تفاصيل ذاتية ايام عيشه في سوريا، شغفه بأصله وعائلته وشبكة علاقاته، وكتاباته وعمله الدؤوب ليصنع من ذاته إنسانا متميزا، تعلم عدة لغات، وقرأ كثيرا، عشق دمشق، واكتشف كم يحبها عندما فارقها. وصل الى اسطنبول وعشقها ايضا. كان يعتقد أنها محطة سفر مؤقت له. فهو على ثقة أن مؤهلاته في اللغة الفرنسية وعلاقاته الفرنسية ومع الأونروا التي نسجها في سوريا بالسنوات السابقة على الثورة، ستجعل قبول لجوئه لفرنسا، بلاد النور والحرية أمرا حتميا. قدم طلبه للفرنسيين في اسطنبول، وانتظر، جاء الجواب مع الرفض، أعاد الكرة عدة مرات، ودائما كان يرفض طلبه. كانت خيبة كبيرة له. وان الحلم الفرنسي تبخر، وان الادعاء الايجابي الفرنسي عن انفسهم ليس صحيحا. لكن اسطنبول لم تترك المشرد النازح مرة اخرى يعيش خيبة أخرى، احتضنته احسن احتضان. لقد أصبح مع الزمن واحدا من شبكات علاقاتها للسوريين الهاربين من النظام والناجين من الموت، تعرف على الكثيرين، شاركهم العيش على الحلوة والمرة، لا ينافسهم أحد بفقرهم وعوزهم، كما لا ينافسهم أحد على أصالتهم وتكاتفهم وتضامنهم، اشتغل أول مجيئه الى اسطنبول في أعمال يدوية كثيرة، استغله ابن وطنه السوري صاحب العمل، ولم ينصفه بالأجر. افترش الأرض والتحف السماء احيانا، تحنّ عليه قطعة كرتون في معمل صغير، وجاءت عليه أيامٌ أكل ما اشتهى ولبس ما أحب، لكن الفقر والحاجة هي الغالبة. لم يستسلم لواقع النزوح والعوز والقهر مما حصل، وأن كل الدنيا صمتت عن قتل السوريين. انخرط سريعا بأجواء اسطنبول. الأم الحنونة التي تمتلك ملايين الاثداء لترضع كل من استنجد بحليبها المغذي وحنانها الفياض. تواصل مع المراكز الثقافية وخاصة الفرنسية، وتعامل مع شبكة كبيرة من الأجانب المقيمين او العابرين فيها. وصار واحدا من شللها. تعرف على الأجواء الثقافية، واطلع على معالم اسطنبول السياحية والتاريخية، أشبع نهمه للمعرفة واستقصاء الماضي العريق والحاضر أمامه في كل أثر ومعلم. كما أنه أصبح مداوما على النوادي والمراكز الثقافية. استطاع الحصول على جائزة يابانية على إنتاجه الشعري. جعلته ينتصر على الفقر والعوز ولو الى حين. كتب عن اسطنبول بشغف وتوسع يذكر بما كتبه أورهان باموق و إليف شافاق وغيرهم. عين محمد رأت الجديد الذي تناغم مع روحه وهويته العربية. لم ينس محمد أصله وسوريا وقضية شعبه والثورة وظلم النظام ومراتع طفولته، يحلم دوما بالعودة، لكن إلى أين ؟ ومتى؟، فسوريا مازالت محتلة و مستعبدة، والطريق اليها طويل ويظهر أنه مستحيل الوصول اليها. لم ينس محمد الأربعيني أنه عاشق للفن والأدب والجمال، لذلك لم تخرج المرأة من قاموس حياته وكتاباته، حاضرة دوما. يفتقدها كحب يكسر صخر قلبه ويورق الأخضر في روحه وحياته.

ما زال مشرد البوسفور متطلعا إلى غد يجد به حبا حقيقيا وغير مستحيل، عملا يلغي العوز يحافظ على الكرامة، ووطنا يكون كحضن أم حنون ومعطاء كإله لا يدير ظهره لشعبه…

……

١٣تشرين ثاني ٢٠٢١م.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!