قراءة في قصة (واش انتا هو النح) لعبدالسلام كشتير.

لصحيفة آفاق حرة 
بقلم : الكاتب سعيد فرحاوي

عبدالسلام كشتير في قصة منبية على عوالم المفارقات أساسها منطق مقلوب يقودنا إلى فهم ماهية المجتمعات الهشة؛ بخطاب ساخر يفكك مسار العقليات المسؤولة عن القرار؛ كما يعري عن الرداءات التي تسهم في لعبة التغيير..

اعتمد القاص على الراوي الذي يقوم بوظيفة الحكي عن الغير؛ كمنطلق في قصة استهلها بسؤال: واش انتا هو النح؟؛، في غياب كل القرائن التي تدل على معرفة من المقصود والمعني في السؤال؛ فيبقى السؤال مبهما ليزيد من قيمة التشويق والإثارة؛ وهي خاصية تثير الشك وتدفع بالقارئ ان يسقط في الفضول الذي يقوده إلى متابعة الأحداث لفك شفرات الإثارة المقصودة. مباشرة يدخل في القصة بالحديث عن شخصية الفقيه الذي عرفه؛ هنا يبقى النح مجهولا والفقيه معروفا؛ طبعا لأسباب بنائية؛، لأن كل المؤشرات النصية تحتفظ على قيمتها الدلالية الذي يهدف منها القاص اقتناص قرائه. يقوم بتعريف الفقيه وتنكير النح؛ رغم ان النح؛ من خلال القصة سيشكل دورا اقوى من دور الفقيه؛ وذلك لسبب بنيوي كما قلنا سابقا؛ أساسه إخفاء المفاجأة التي يمكن ان تخفيه الشخصية النكرة؛ فيعتقد القارئ ان المعني هو الفقيه؛ لكن السؤال عنوان القصة سيزيد من تعميق اللبس بما أنه يعني شخصية مجهولة بسؤال فضولي؛ يخفي النص الجواب عنه.
بداية مربكة وشائكة؛ بل اشتغل عليها القاص لبناء قصة في مستوى الاحتفاض على الإثارة التي تقود إلى المفاجأة.
واش انتا هو النح؛ كلمات اعتمدت على الخطاب الدارجي فجاء وقعها أقوى من الفصيح؛ ففرق كبير في الإثارة بين عنوان(هل انت هو النح)؛ وبين (واش انتا هو النح)؛ ملفوظين مختلفين كليا في أسلوب الإثارة النفسية والوقع الدلالي؛ كما هما يشكلان جملتين مختلفتين مطلبا على مستوى الدلالة؛ ما يفسر ذلك هو الخاتمة؛ سنؤجل البحث في هذه الملاحظة ألى مرحلة الانتهاء من التحليل لأسباب سنعلق عليها لاحقا. لكن ما هو شكلي يمكننا الذهاب بعيدا لنقول أنه ملفوظ خطابي يزيد من إدراج الخطاب الدارجي ليشكل مستوى من المستويات المختلفة من الأصوات اللغوية؛ وفي نفس الوقت ليزيد من قيمة هذه اللهجة وإدراجها في الخطابات الجمالية؛ لكونها قادرة ان تكون كذلك مادام السياق المرجعي يسمح ان نجعل من الكلام العادي متعاليا فيتحول إلى كلام إبداعي جمالي يزيد في المتعة وفي إضفاء شرعية اللهجة لتحل؛ إلى جانب الفصيح؛ كمكون فني إبداعي.
انطلق من الوصف ليحدد معالم المكان؛ وهي مسألة طبيعية كما هو معروف الوصف هو الوسيلة الوحيدة التي تصور المكان. إذا كان السرد يروي الأحداث فإن الوصف يصور الأشياء ويصنع المكان و يخلق الفضاء. كما يمكن من الوصف التمهيد لتفكيك مزاج الشخصيات. الوسيلة الممكنة لاختراق المكان ليصبح هذا الأخير محددا بوظيفة مجازية. فبيت الانسان هو امتداد له؛ إذا وصفت البيت وصفت الإنسان على حد تعبير ويليك. لهذا قام القاص بوصف مكان الفقيه؛ لانه من خلاله يمكننا ان نلج كل عوالم هذه الشخصية لنفهمها ونفهم ما تقوم به من أدوار على المستوى السوسيوثقافي.
ترتكز قصة(واش انتا هو النح)؛ على فكرة محورية تبدأ من طفولة هذه الشخصية التي يطغى عليها طابع البداوة والسذاجة وعدم القدرة على الانخراط في نسيج المسيد؛ ثم التخلص من عالم التعليم البسيط والتقليدي؛ المبني على ادوات لاعلاقة لها بممارسة تعليمية هادفة؛ تجعل الطفل يعيش الرعب؛ بتوريط مشترك؛ كجريمة يسهم فيها الفقيه المتعجرف والأسرة الحامية لأساليب التعذيب؛ والمجتمع الذي لا يوفر شروط معقولة لطفل تخلص من سجن إسمه المدرسة العمومية ليلج سجن أكثر وقاحة إسمه المسيد؛ كلها قنوات مربكة تنتج إنسانا مستلبا مقهورا إتكاليا ؛ مما جعل هذه الشخصية تتمرد عن محيطها لتنخرط في عوالم أخرى؛ ذات بعد رعوي ثم تجاري واخيرا تصبح شخصية مهمة تسهم في بناء القرار/الثروة والبرلمان. بشكل آخر تتحول إلى واقع جديد يجمع بين السوق والسياسة. اختار لها اسلوبا ساخرا ومضحكا؛ كاسلوب فكري او ايديولوجي؛ يدمج فيه اشكالا متنوعة من الرؤى؛ في مجال إبداعي سماه قصة قصيرة؛ عنوانها المثير (واش انتا هو النح).
منذ اول إشارة إلى آخر علامة تبنى الحكايات بأبعاد رمزية تدفعنا إلى إعادة النظر في كل جملة من جمل القصة ككل.
النص ابتدأ من النقطة الصفر/على شكل سؤال؛ كعنوان ايحائي (واش انتا هو النح)؛ فختمها بنفس السؤال ؛ اما ماتبقى شكل خصوصيات نصية بدرجات متفاوتة في بناء حيثيات القصة؛ مماجعل من عنصر التشويق يزداد ويتمطط؛ ليشكل خاصية بنائية تكسر أفق انتظار القارئ العادي والبسيط؛ لأن لا أحد منا كان يتوقع هذه الخاتمة؛ كما كان يظن ان الأحداث ستتحرك وتتقوى بالمسار الذي صنعه القاص؛ لا أحد كان يظن ان هذا الساذج المسمى بالنح؛ الذي شكل موضوع سخرية عند الجميع؛ سيصبح شخصية مهمة في مجتمع يدعم ويدافع عن التافهين والساذجين؛ ؛ و أن هذه الشخصية التي كانت تشكل مجالا للاستصغار والتحقير بين الأطفال؛ انها ستصبح يوما ما حسب النهاية التي تصورها الراوي والقاص معا/ برلمانيا. من جهة هي دالة فيما يخص لعبة بناء قارئ بالصيغة التي يشاؤها القاص؛ لأن هذا الأخير اخرج القارئ من حساباته؛ ومارس عليه لعبة الحضور القوي ولم يجعل منه قارئا تشاركيا يسهم في بناء تطور القصة؛ لهذا سنعتبر هذا البناء انه يدخل في إطار قتل القارئ وإحياء المؤلف ويكون بذلك القاص قد اعاد النظر في مقولة قتل المؤلف كما طرحها رولان بارت؛ كما انها ستشكل محورا مهما لبناء خطاب ساخر يستهجن ويعري عن ماهية المسؤول المشرع لبناء قوانين الدولة؛ فهذا الشخص موضوع السخرية من طرف الجميع أصبح يشكل النموذج القوي في اتخاد القرار وتشريع القوانين؛ بذلك نعتبرها قصة ذات قيمتين:شكليا اشتغلت على قارئ تحدد معالمه بالصيغة التي تريد؛ فجعلت من الكتابة في واد والقارئ في واد آخر؛ هنا سنتكلم عن تكسير افق الانتظار وإيقاف كل التوقعات؛ وتغيير وجهة النص نحو ظنون غير مرتقبة. أما دلاليا سندخلها في الكتابة القضية التي عرت عن النموذج العربي المسير والحاكم.
كما كشفت عن غياب أسايب الدعم والتشجيع في كل منظوماتنا التربوية المريضة؛ التي لم تتحرر من عقدة سلطة المعلم وجهل الأسر؛ وعقم المقررات التعليمية؛ وإنهاك حرمات الطفل واغتصاب براءته وحريته؛كما لاننسى ان الاختبار الشجاع لأب متمرد عن أساليب مؤسسات قمعية ؛ يحكمها الرعب و الجهل بكل الأساليب التي تغيب فيها الحكامة والطرق المعقولة لبناء انسان منتج؛ جعلتنا نخرج من وضعية النح الساذج والسالب ؛ غير قادرة على إنتاج انسان متحرر؛ إلى نح آخر اكثر جودة وإنتاجية. فوضعنا القاص أمام نحين:نح المسيد والمدرسة والأسرة المريضة ونح الاختيار الشجاع المتمرد والخارج عن واقع القمع والاستيلاب. اي وضعنا القاص امام نص يخفي عمق القضية ويطرح أساس الموقف؛ فجعلنا نعيش معه حياة أخرى بجرأة المثقف الذي اختار أشكالا تعبيرية/القصة ؛منها يعري عن البنى الهشة وبها يحاسب الوضعيات المسؤولة عن التأخر؛ خاصة إذا كان موضوعها هو الإنسان.
قصة واش انتا هو النح هي قصة المفارقات بين اختيارين متباعدين ومتناقضين؛ اختيار قمعي همجي جامد؛ تتحكم فيه عقليات راكدة أنتجت لنا النح السالب البسيط والساذج؛ الذي زاد من تعميق هيجانه والجر به إلى الوراء هو الاحتقار وجنون المجتمع الذي لا يرحم؛ واختيار النح الشجاع الذي سار في مركب مغاير عن مركب العاديين البسطاء؛ مما شكل في حياته تحولا جدريا بين أساسين متناقضين: أساس السلطة الخارجية الهمجيةوسلطة الاختيار الحر والسليم؛ الذي غير من المسار ككل؛ فتحول السؤال من واش انتا هو النح/كإحالة إلى النح البسيط؛ إلى خاتمة ظهر فيها نح مغاير أعاد النظر في السؤال؛ رغم أن الكلمات هي نفسها لم تتغير؛ فأصبحنا امام النح المشرع؛ الفاعل؛ الثري؛ وهو تحول سيعري عن كل السياسات السابقة؛ بكل اساليبها وتصورتها ورؤيتها الفلسفية إلى الحياة.
.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!