قراءة في قصيدة ” أحترق الآن”. د. ريمان عاشور

صحيفة آفاق حرة
______________

“تحقُّق الإيقاع الداخليِّ في قصيدة” أحترق الآن” للشاعر ناصر النجار.

بقلم د. ريمان عاشور..

** في خضمِّ هذا السكون الكونيِّ وتلك العزلة المفروضة التي سادت العالم.. فأمسى مذهِلًا لساكنيه.. يأتينا الأدب كهفًا نلجأ إليه لتأمُّل ذواتنا والكون من حولنا..
فنتحوَّل إلى ضيوف نرقبُه.. أو فاعلين نخلق لأنفسنا حيِّزا نستكين فيه ..
وبين كلِّ موجة أدبيَّة وأخرى لا بدَّ أن تظهر موجةٌ فارقةٌ بائنةٌ تشقُّ غباب العزلة.. وتزجُّنا في ركن الدهشة..

عن أديب أخالُ قصيدته النثريَّة حالة خاصة..
في بنائها الفنيِّ واللغويِّ أولًا، ثمَّ في مغزاها ومعناها وإيقاعها الداخليِّ المتحقِّق ثانيًا..
هو الشاعر ناصر النجار.. صاحب القصيد المذيَّل ب: هكذا قالت لي تلك الأمازيغية، أو هكذا قلتُ لها تلك الأمازيغية..

ولستُ هنا للتمعُّن في أمازيغيَّة النجار بمقدار رغبتي في مواجهة تلك الرسائل الأدبيَّة المتبادلة الآتية على هيئة قصيدة نثريَّة فنيَّة مُحكمة الصياغة..

ربما الفارق والفيصل في نصوص النجَّار هو كونها لا تخرج -في مُجملها- عن ذاك الفضاء المكانيِّ الذي بناه لنصوصه بناءً متقنًا لا يبرح أركانه وزواياه..

لطالما جُبنَا معه بين أروقة عالم الأساطير حين استحضاره أحد آلهتها رمزًا يضخُّ من خلاله معنىً يخدم السياق الخطابيَّ..
أو إحالته لإحدى شخصيات الفكر الصوفي المتدروش لخدمة خطابه..
أو رموز قرآنيَّة تنقلنا تناصًّا إلى سياق القصَّة القرآنيَّة فتحمِّل القصيدة بمغزى الحكاية القرآنيَّة..

وفي تلك البيئات جميعها لا ينفكُّ النجَّار مُتكئًا على أنسنة الطبيعة أنسنةً مدهشة..
خادمًا مراده المبتغى، وزاجًّا المتلقي في بحر دهشةٍ غير مفارق مذ بداية القصيدة إلى نهايتها..
وإن اختلف الخطاب المرجو بين قصيدة وأخرى..

أما من حيث البناء النصيُّ، فغالبًا ما يكون بناءً سرديًا حكائيًا قائمًا على “تكرار” لازمة لغويَّة بعينها بين الدفقة الشعريَّة والأخرى..
حتى يُهيَّأ للمتلقي أنه أمام موجات بحر متتالية.. تنتهي الأولى منها وتسكن مع بداية حركة الموجة التالية، محضرةً معها اللازمة الشعريَّة اللغويَّة التي اعتمدها الشاعر في قصيدته منذ البدء..

وتلك ظاهرةٌ أدبيَّةٌ تتداخل في وظيفتها بين البناء النصيِّ وتحقيق الإيقاع الداخليِّ في القصيدة..

كما في قوله المتكرر في القصيدة التي بين أيدينا:
“أنا عباءة الخلِّي/ أنا سراب الماء/ أنا سكون الليل/ أنا حلم عاشق/ أنا نهاية الطريق/ أنا زجاج ملوَّن/ أنا السؤال…/ أنا حافي القدمين..

هذه التكرارات المتتالية للضمير “أنا” ما جاءت إلا لتنشر ذاك الإيقاع الداخلي في النصِّ على نحو يصيِّره مموسقًا بتقنيَّة محترفة..

أما الأسلوب الثاني المحقِّق للإيقاع الداخلي فهو الإتيان بحروف أصواتها متناغمة أثناء نطقها..
الشيء الذي يُوقع في النفس تنغيمًا مصاحبًا للتلقي..
أو المجيء بصوت حركيٍّ كما في قوله:
“صليل الحزن/ تكنس بقايا أحلام/ أركض خلفي/ البحر يا سرِّي لا يبكيه بكائي/ بداية تكسُّر القلب”.

باستثناء كلمة “صليل” -لأنَّ الأصل في معناها الصوت حاضر- جاءت كلُّ الأفعال المذكورة أعلاه تُحدثُ حركةً وضجةً مسموعةً في النصِّ وتورثه إيقاعًا حقيقيًّا في نفس المتلقِّي..

والأسلوب الثالث الذي حقَّق الإيقاع في القصيدة هو أسلوبٌ لغويٌّ تخلَّلته صياغة صور شعريَّة وحسيَّة وإطلاقها نحو جماليات تُتْرِفُ النصَّ وتُغنيه..
ثمَّ تخلِّف الدهشة في نفس المتلقي..
كما في قوله:
“أنزف ماء وطحالب وعصافير صغيرة/ أحدِّق في صليل الحزن/ ترسم وجه قمر منذ الدم الأول..”

ولعلَّ أكثر الأساليب والتقنيات التي تجعل النجَّار متفرِّدًا في أسلوبه هو تكثييف الإضافات وتمديدها وتتابعها، لتكون قادرة على خلق مشاهد شعريَّة متسلسلة تتقافز على أجزاء القصيدة فتحولها إلى لوحة مرسومة يكاد المتلقي أن يتلقَّفها بحواسه الخمس..
وهي ظاهرةٌ حاضرةٌ دومًا في جلِّ قصائده.. إن لم تكن كلها..

كما في قوله: “أهزُّ بيدي وجه(شجرة عجوز) مازالت تحفر لظلِّها (جدارًا) صخوره ملساء..
وهو بارعٌ في الإتيان بلفظ مضافٍ إلى آخر ثم إلحاقه بجملة فعلية أو اسمية..
والجُمل -كما نعلم- بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال..
وبذلك لا يكتفي الشاعر بسَوْق إضافات متتالية وحسب، بل يُسدل عليها وصفًا.. إما من خلال حضور الصفة بعد الموصوف في حال كونه نكرة.. أو حضور الحال بعد موصوفٍ معرفة..
فتغدو صوره الفنيَّة أقرب إلى أغصان متشابكة في غابة غنَّاء.. وهو ما يميِّزه ويثري قصيده..

إضافة إلى تطويع الطبيعة تطويعًا يخلق صورًا ذهنيَّة شعريَّة جديدة قد تفاجئ المتلقي وتُسهم في خلق مشهد في ذهنه ثلاثي الأبعاد ..

كما في قوله: “أنزف ماءً وطحالب وعصافير صغيرة”
فالنزف عادة إذا حضر يتهيَّأ السامع لحضور الدم وراءه.. أمَّا إن استُتبع بماء وطحالب وعصافير فقد أحدث صدمة مفاجئة تجعل حواس المتلقي متَّقدة لتخيُّل معنى جديد غير مسبوق، وترسم في ذهنه صورة حديثة تلحقها دهشة ماتعة ولذَّة تلهثُ نحو اللحاق بالصورة الفنية القادمة.
وهو بذلك قد منح الماء ظلالَ معنىً جديد فيه الدم حاضر..حين أسندها إلى لفظة الفعل(نزف) فأضفى عليها بعض خصائص الدم ..وكذلك الحال عينه مع لفظتي(الطحالب والعصافير)..
وبذلك تتحقق الدهشة من خلال خلْق صور ذهنيَّة غير مسبوقة..

وكي تتحوَّل القصيدة إلى لوحة فنيَّة- كما أسلفنا- تلبِّي حاجة الحواس الخمس عند المتلقي يلوِّن الشاعر أجزاء قصيدته بألوان متباينة تكاد تُنطقها وتُرينا تفاصيلها..
وقد تأتَّى ذلك في استحضاره مفردات استجلبتْ معها الألوان إلى ذهن المتلقي..
كحضور الماء الشفاف اللون.. وحضور اللون الأحمر القاني من خلال لفظة الدم.. واللون الأخضر في جلْب لفظة الطحالب والشجرة، وبياض ناصع في القمر والثلج.. وسواد استجرَّه الليل..
وأزرق في ازرقاق البحر.. وألوان شتَّى تستحضرها العصافير حين رفرفت فوق أجزاء القصيدة..

وبذلك حضرت هذه القصيدة البديعة لوحةً ناطقة ملوَّنة مشحونة بالإيقاع الداخلي والموسيقى الماتعة المتحقِّقة في آليات عدة استخدمها الشاعر..

وفيما يلي قصيدة: “أحترق الآن” التي تناولناها بالقراءة أعلاه..

أحترق الآن..

ورائحة سجادتي كما الريح ساكنة
أقشّر قلبي
أنزف ماءً وطحالب وعصافير صغيرة
أحدّق في صليل الحزن
أهزُّ بيدي وجه شجرة عجوز
ما زالت تحفر لظلها جدارا صخوره ملساء
تكشف عن ساعديه وتشتد قبضته
تغنّي وتكنّس بقايا أحلام لم تولد بعد
ترسم وجه قمر شنق منذ الدم الأول ..

أركض خلفي
وأنا عباءة الخلّي حين فاض
وأنا سراب الماء
لهفة أغنية منذ غروب الليل
ما زالت تراقص الأيائل والفراشات والنهر ورجفة البركان ..

أنا سكون الكون
وبكاء البحر
والبحر يا سرّي ..لا يبكيه بكائي !!

أنا حلم عاشق
لأمرأة تسكن الغابة السوداء
تستجدي الخصب من وعود تكوّرت بين يديها
وتلفظ أنفاس شوقها أسطورةً على حواف القمر ..

أنا نهاية الطريق وبداية تكسُّر القلب
أنا زجاج ملوَّن
و ” زير ماء ” جدتي
وعقد أمي
وتراب مسفوح دمه
أنا السؤال حين طلَّت صبيَّة من نافذتها وقالت :
كان صوته جميلًا ..فلماذا شنقوا القمر !!
وأنا حافي القدمين على جمر الثلج أنتظر
وسفينتي غرقى تلفها تنورة ليل بارد ..
وما زلت انتظر ..!!

هكذا قلت لها تلك الأمازيغية..
Nasser Al Najjar
______
الأردن

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!