كتب. د. تيسير السعيدين. صورة المعاناة في ديوان ( حمائم عشق وشوق إليها )

لآفاق حرة

صورة المعاناة في ديوان ( حمائم عشق وشوق إليها ) للدكتور عبد الرحمن فحماوي

بقلم. د. تيسير حسين السعيدين

صدّر د. عبد الرحمن فحماوي ديوانه المذكور مستهلا له بإهداء وتوطئة، مبينا طبيعة القصائد التي تضمنها، ويبدو أنه قد حذق نظم الشعر في وقت مبكّر، لأنه ذكر في الديوان قصائد كتبها في مستهل العَقد الأخير من القرن الماضي، وقد تنوّعت القصائد والمقطوعات التي تضمنها الديوان بين الوجدانيات في الجزء الأول من الديوان، وفلسطين في روع الشاعر، حيث بدا فيه مسكونا بخلفيته الإسلامية إلى حد بعيد .


وقد رسم الفحماوي في بداية ديوانه صورة للدنيا مملوءة بالمصاعب والآلام وهما من فروع المعاناة التي نحن بصدد الوقوف معها في هذه الإطلالة، ولعل هذا التصور كان ناجما عن تأثر كبير بالتربية الإسلامية التي يتكئ عليها، فهو يرى الدنيا سرابا لا أكثر في المقطوعة التي افتتح بها الديوان، ثم أنهاه بها في نهايته، وكأنه يدلل أن الحياة تبدأ بالتعب ، ثم لا تلبث أن تنتهي به، فيقول :
صدقت القول في الدنيا صديقي سراب لاهث نحو البريق
يظن الناس أن جمعوا عقيقا فما وجدوا سوى عفن العقيق
لذلك فهو يرى أن المعاناة في هذه الحياة طويلة، ويدلل على ذلك أنه ينقضي نصفها بالسهر، أما النصف الثاني، فيكون في العمل والارتحال، لذللك نجده يقول :
فماذا تريد من الحياة
وقد ضاع نصف الليالي سهادا
ونصف النهار الثاني رحيلا
ولعل المعاناة التي تقصاها الشاعر تضمنت العديد من الصور، وقد تفاوتت هذه المعاناة بين المعاناة النفسية والمعنوية من جانب، والمعاناة البدنية من جانب آخر.

أولا المعاناة المعنوية :
غصّ الديوان بصور المعاناة من هذا النوع ( المعنوي والنفسي )، ففي قصائده التي جمعها من مرحلة الشباب وبداياته، نجد طرفا من المعاناة الناجمة عن مكابدة الحب، ولكنه يبدو حبا مختلفا، سار فيه الفحماوي على خطا، فهو على غرار حب العذريين الذي يقوم على القطيعة والحرمان اللذين يبرّحان بالجسد، ففي قصيدة ( سُقم ) يقول:
عجبت لمن تحكي سقامي جفونُهُ ويجهل أن السقم من سقم جفنه
سأقنع منه بالوصال قليله وأرجو نوالا لا يكون ببينه !
ومثل تلك المعاناة التي يصفها في قصيدة (أسرتني الأحداق ) نجد معنى قريبا من ذلك حيث يقول:
أسرتني الأحداق والهدب التي سفكت قلوبا دون سفك دماء
وفي قصيدة ( أفول البدر) الكثير الكثير من الشكوى والمعاناة التي تغطي جزءا كبيرا منها، وهو من يقول :
وما ذقت من بعد الأحبة راحة ولا برّد الأحشاء من حرها وعدُ
تجلّدت حتى مات صبري، ولم أمت ولا شيء إلا القلب والعظم والجلد !
وفي قصيدة ( يا ليل ) التي سار فيها – ضمن ستة وعشرين بيتا – على منوال الشاعر الحصري القيرواني في قصيدته المشهورة ( يا ليل الصب متى غده ) التي نظمها مصوّرا تباريح الحب فيه، والتي جاءت على بحر ( المتدارك ) نفسه ولكن دون أن يعارضه بالمفهوم الفني للمعارضة .
ومن جانب آخر، فقد أشار الفحماوي إلى تخاذل العرب من مسلمين ومسيحيين في الدفاع عن مقدساتهم أو الاهتمام بها، واستمرائهم الذل والخنوع، في الوقت الذي تصيح فيه المقدسات طلبا للغوث والنجدة، فها هو يقول:
صاح الحجاز وناح البيت والحرم
واستصرخ المسجد الأقصى ألا اعتصموا
أثارت العرب العرباء غاضبة
واستمرأت فعلها الأوباش والعجم
ولعلّ معاناة البعد عن المحبوبة فرع من الحديث عن المعاناة النفسية والتبريح الذي يطاله المرء من حالة عشق، وهو موجود في الشعر منذ زمن بعيد، ابتداء من العصر الجاهلي مرورا بكل العصور الأخرى، وقد يكون هذا التبريح بسبب البعد عن معشوقة أيا كانت هذه المعشوقة، فها هو الشاعر يبين كم ناله الوجد والشوق إلى معشوقته (إربد) عندما اضطرته الظروف إلى الابتعاد عنها ليعمل معلما في منطقة بعيدة عن سكناه فيها فيقول :
تركت بإربد قلبي المعنّى وداعا جنان الصبى والظلال
وداعا مدينة حبي وصبرا كصبري احتراقا وصبري احتمال
حتى إنه لينهي القصيدة بما كان قد بدأها به فيقول :
أشد الرحال أشد الرحال طريقي جنوب وقلبي شمال
ولعل الفحماوي بهذا الصنيع يقتفي خطو ابن الدمينة عندما غادر نجدا، والحنين يتملّكه، إشارة إلى شدة الشوق الذي تعتريه على بعد من يحب، خاصة إذا كانت المسافة بينهما بعيدة، فوقف مستقبلا النسيم القادم من نجد ولسان مقاله:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد..
فقد زادني مسراك وجدا على وجد
ومن المعاناة التي تجعل في القلب غصّة، أن يطالَ المرءَ طعنة في الظهر، حيث يكون ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند، وذلك عندما طعن العراقيون من قبل بعض بني الأمة الذين ألبوا العدو الغربي عليهم، فوقفوا إلى جانبه وساعدوه، حيث يقول في قصيدة ( عاصفة النخيل ) :
وهو الفارس عن ظهره جواده
طعنة في الظهر غاصت
بين أضلاع جواده
هزت السيف ومالت
بالذي مال على الأعناق يهوي بجلاده
حين ألقى بنجاده
وقد صوّر الفحماوي في شعره الأوطان التي تكون طاردة لأهلها من خلال التضييق عليهم في العيش، وهي حالة الاغتراب التي يحس فيها المرء أنه غريب بين أهله وفي أرضه، ففي قصيدة ( الرحال ) يصور حالة الاغتراب التي يحاصر فيها المرء، حتى إنه ليحس أن الوطن يضيق بأهله، وأن المرء يدفن فيه حيا فيقول مخاطبا صديقا له :
أنت مثلي في اغتراب غير أني في بلادي يوأد الّرحال حيّا
لم أجد في موطني إلا حصارا ووجدت الناس أشباها عليّا
وكذا رأيه في قصيدة (غربه) .
ثانيا :المعاناة المادية
– معاناة الأسير في قيوده
لعل من صور المعاناة المادية التي التفت إليها الفحماوي في ديوانه، المعاناة التي يلقاها الأسير في قيوده، والتي تحد من انطلاقه، حيث يكبر فيه الشاعر هذه المعاناة :
كان البطل يتقلب فوق الجمر الرابض
فوق الجرح النابض
جرح آخر
تحت العظم المهروس
بسلسلة القيد المشدود
وحري بالذكر أن هناك حالات مما يرتبط بمعاناة الأسير، ومن هذه الصور معاناة أسرته وزوجه وأهله، إذ هي لا تقل عن معاناته الشخصية إن لم تزد فيقول :
أعوام الحزن بعينيها اشتعلت
جمرا فرمادا
وفراش الحب يحوم
ليسقط مذعورا من غير سلاح
ولعل المعاناة التي طالت الشعب العراقي منذ ربع قرن تقريبا، والتي لم يذق أحد شبيها لها من القتل والحصار والتجويع وجدت لها طريقا لدى الفحماوي، فقد قاوم العراقيون المعاناة التي طالتهم من خلال الحصار الذي فرض عليهم، بالصبر والجلد :
يا جياع الأرض
لا خبز … ولا ماء …
سوى عشق النخيل !
ثم يشير إلى المقاومة والتجلّد التي أبداها العراقيون إزاء هذا الحصار الذريع، مستوحيا عن طريق التناص قضية الفداء لإسماعيل النبي من الذبح فيقول:
حبلت أم المعارك
حينما انسدت علينا
كل الدروب
ولدت أم المعارك
إنها الساحة والميدان للمذبوح والمولود ساحة
هكذا نولد والسكين يا ( اسماعيل) فوق العنق راحة
خلاصة القول أن ديوان ( حمائم عشق وشوق إليها )، والذي تضمن تجربة شعرية ثريّة عاشها الدكتور عبد الرحمن الفحماوي، لهو يستحق أن يقرأ على مهل لما فيه من جماليات كثيرة غير ما ذكرت مما لم أقف عندها ، فأرجو لصاحبه التوفيق والسداد .

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!