كتب. د. تيسير السعيدين. قراءة في كتاب”الطعام والطب الشعبي في الأردن”

لصحيفة آفاق حرة

قراءة في كتاب
(الطعام والطب الشعبي في الأردن )
تأليف وإعداد.د. أحمد شريف الزعبي
….

بقلم. د. تيسير حسين السعيدين

أجمل التهاني نزفها لكم أهلنا في منطقة “لواء بني كنانة” العزيز على قلب كل واحد منا، بهذا المنتدى الذي يحمل اسما له في النفوس أطيب الأثر(منتدى أبناء اليرموك الثقافي)، بما يحمله هذا الاسم من مدلول وتداعيات جميلة تشعر المرء بالعز والفخار والشموخ، حيث نستشعر ونحن نجلس في هذا الركن خبب خيول خالد بن الوليد، وهي تقتحم هضاب الشام ووهادها بشموخ المؤمن وعزّته، مغيرة على جيوش أقوى دولة كانت في تلك الأيام، يوم كان لهذه الأمة من المجد والسّؤدد ما يجعل لها كلمة ومساحة تحت الشمس، فقد كانت متقدّمة ليشعَّ نورُ عقيدة فرسانها في سوريا الطبيعية (بلاد الشام حاليا) من خلال بوابة الفتح الإسلامي، لتعيد رسم خريطة المنطقة جديد قائم على العدالة وحقوق الإنسان الحقيقية، لتكون مقولة (هرقل) بعدها : وداعا يا سوريا، لا لقاء بعده .
فالشكر كل الشكر لهذا المنتدى ممثّلا برئيسه الأخ والصديق الدكتور حسن نعامنة وهيئته الإدارية المحترمة، ورابطة الكتاب الأردنيين ممثلة برئيسها الشاعر أحمد طناش شطناوي وهيئتها الإدارية، ولنادي خرجا الرياضي ممثلا برئيسه وهيئته الإدارية، الذين منحونا وزميلي الأخ الدكتور أحمد موسى النوتي، والدكتور سليم عبابنة منبرا نتحدّث فيه عن هذا المؤلف الذي أتحف به صاحبه المكتبة العربية .
يشرفني أن أقف وزملائي المتحدّثين في هذه الأمسية الجميلة، التي نقف فيها على مرمى حجر من نهر اليرموك الخالد في خرجا الأصالة والتاريخ، خرجا الصخورُ الكلسيةُ البيضاءُ التي اختلط سوادُها ببياضِها، خرجا الأوديةُ السحيقة ُوالسهولُ المنبسطةُ، وعيونُ مائها التي تمدّها بالحياة حتى تشكلَ شلالاتٍ، خرجا العيّنةُ الممثلةُ لأريافنا في أردننا العزيز فضلا عن تمثيل الأرياف في شمالنا الأشم ، نقف كي نتحدّثَ عن شخصية تربوية نذرت نفسها للبحث والتنقيب والتأليف، فكان الموروثُ الثقافيُّ والتراثُ الشعبيُ الأردني الميدان الذي صال فيه فأحسن الصول، وجال فيه فأتقن الجول، هذه الشخصية التي لم تترك زاوية من زوايا هذا التراث إلا وخاضت فيه خوض الباحث المنصف الحصيف، جئنا ضيوفا على خرجا محتفين بمؤلَّف جديد لأبي أكرم، أضافةٌ جديدة إلى مكتبة التراث الأردني .
كما تعرفون أيها الحضورُ الطيب، أن البحثَ في القضايا التاريخية يُعد من أصعب أنواع البحوث العلمية، ولعل مكمنَ هذه الصعوبةِ تعود إلى صعوبة التعاملِ مع الفروض الموضوعة والتحقق من صحتها؛ لأن المعلومات التاريخية تكون عادة معقّدة ومتشابكة، فيصعب تحديد العلاقة بين السبب والنتيجة كما هو الحال في العلوم الطبيعية، فالبيانات التاريخية لا تخضع للتجريب كما هو الحال في الظواهر الأخرى، لأنها حدثت في الزمن الماضي، الذي ذهب وباد .
أقول هذا وقد وضع الدكتور أحمد نفسه في قلب المعمعة، فتصدّى لكمٍ هائلٍ من المعارف والخبرات، مما تركه الآباء والأجداد، من تجارب ثرّة عبر العصور والأجيال، فيما يخص الطعام والطب الشعبي في الأردن، فخاض غماره عائدا لنا بأطيب الثمار وأينعها .
قبل الخوض في هذا الجانب من الموروث الثقافي، اسمحوا لي أن أعرّج قليلا على المفهوم الذي وقف عنده مؤلفنا الكريم، باعتباره جزءاً مهماً من تاريخ الشعوب وثقافتها، وهو الوعاء الذي تستمد منه تقاليدها وقيمها الأصيلة ولغتها وأفكارها وممارستها وأسلوب حياتها،بما يعبر عن ثقافتها وهويتها الوطنية، وهو جسر من جسور التواصل بين الأجيال السابقة واللاحقة، ويعد المكوّن الأساس في صياغة الشخصية وبلورة الهوية الوطنية .
ولعل أهمية الموروث الشعبي نابعة من ميزته في تحديد الهوية، والحفاظ على المكونات المادية المنقولة، والمظاهر الطبيعية الثقافية، بما يجعله قادراً على استنفار الشعوب وحشد طاقاتها وتأمين تكاتفها ، إضافة إلى ما يعطيه من تصور، يكاد يكون كاملا عن نمط حياة أسلافنا، وأساليب عيشهم، وطرائق تفكيرهم وثقافتهم ومعارفهم، وهو من شأنه أن يعزز ثقتنا بثوابتنا وتاريخنا ، الذي يعد اللبنة الأساس في بنيان حاضرنا، ومن شأنه أيضا أن يواجه كل أشكال الغزو الحضاري والتكنلوجي الغربي لعقول أجيالنا، واستلابهم من ثقافتهم وأصالتهم .
وهذا جواب لكل من يسأل : لماذا كل هذا الحديث عن الموروث ؟
فالاهتمام بالموروث الشعبي يا سادة، والعمل على تثبيته وإحيائه، من شأنه أن يذكّر بما حفظته ذاكرة الأجيال المتعاقبة خشية أن يُطمس ويَندثر، ولمحاولة الحد ممن الغزو الذي غزا كل جوانب حياتنا، حتى أتى على أجزاء كبيرة منها، والخشية كلُّ الخشية أن تنسى أجيالنا ثقافتنا الموروثة في جوانبها المتعددة، ومنها الطعام والشراب اللذان كانا محور كتاب الدكتور الزعبي.
“الطعام والطب الشعبي في الأردن ” سفر تقصّى فيه مؤلفه الدكتور أحمد شريف الزعبي الطعام والطب الشعبي من خلال ثلاثة فصول :
– الطعام الشعبي
– معتقدات شعبية متعلقة بالطب
– الطب الشعبي في الأردن
أما الفصل الأول الخاص بالطعام الشعبي، فقد استعرض فيه المؤلف وحلل في ستين صفحة منه كما من الأصناف الغذائية الموروثة مبتدئا بالقمح وكل شيء من مشتقاته، ثم البقوليات والأرز والحلبة والسليقة والبيض والحليب ومشتقاته واللحوم والمكمورة والقشيم، والطيور والخضار والزيتون والفواكه …. وقد خَصص الفصل الثاني من الكتاب للمعتقدات الشعبية المتعلقة بالطب، مبتدئا بالحسد والرقياتِ المتعددة ، وعلاجِ المرأة التي لا تحمل بالخرز بأنواعه، والأمراض التي لها اعتقادات شعبية (الكبسة ، التابعة ، الخوف، والتبصير ، واللجام والنذر، والتنبؤ بالمستقبل،…..).
أما الفصل الأخير والخاص بالطب الشعبي في الأردن، فقد استعرض فيه المؤلف النباتاتِ الطبيةَ وأغراضَها، ثم أمراض الأطفال …..
وقد عزا الدكتور أحمد سبب اهتمامه بهذا الجانب من التراث إلى:
– جهل الجيل الجديد بموروثه، ظنا منهم أن سلفنا كانوا مقصّرين فيه، إذ لم يتركوا لنا شيئا ذا بال مقارنة بالشعوب الأخرى .
– التذكير بالكثير من الآداب الاجتماعية التي حفظها لنا الآباءُ والأجدادُ، والتي ينبغي المحافظةُ عليها.
– غنى موروثنا الشعبي بأصناف من الغذاء المتكامل المفيد والرخيص والصحي، فبالاطلاع على مكون واحد من المكونات الغذائية التي يحتويها موروثنا الشعبي كالقمح مثلا، نجد أنه قد يُعمَلُ من هذا الصنف وحده ( 41 ) واحدٌ وأربعون صنفا من المأكولات فيما أحصاه المؤلف (الشراك، أقراص العيد، المجدرة، الكباب، الزقاريط، المقرطة، الفتوش، المطابق، شوربة الفريكة، الكشك، الفطاير، التجعاجيل، الخميرة ،…..، فأيُّ خصب هذا يا رعاكم الله!
– حاجة الجسم إلى الغذاء المتوازن، الذي يكفل له القيام بالمهمّات الموكولة إليه، وتطبيقا لمنطوق الحكمة التي تنص على أن ( الدواء في الغذاء ) .
المنهجية المتبعة :
– اتّبع المؤلف منهجية في التأليف تتمثّل بذكر الصنف الغذائي، ثم الوقوف على مفهومه، وذكر المقادير والمواد اللازمة، وطريقة الإعداد خطوة بخطوة، وطريقة تناوله، ذاكرا قيمته الغذائية، وما يكون حوله من حكايات، من خلال عملية استطراد شيّقة وغير مملّة، كما فعل الشيءَ ذاتَه في المعتقدات الشعبية، فقد جمع كلّ فئة من الموروثات على حدة كالحسد مثلا، واقفا عند مفهومه، محللا كيفية حصوله وأنواعه، وطرق التداوي من العين الحاسدة بالرقيات المتعددة والحجب ، والتطيرِ وأضربِه مفصلا كل معتقد وما يدور حوله .
– كان المؤلف في عمله في الكتاب مسكونا بالوطنية والحيادية، دون التحيّز لمنطقة دون أخرى، في تقصي أنواع الطعام في المعتقدات الشعبية المتعلقة في الطب، كي يعطي صورة واضحة عن جوانب هذا الموروث، حيث شمل ذلك ربوع الوطن من شماله إلى وسطه وجنوبه، ومن غربه إلى شرقه، ومن حواضره إلى بواديه ، فكان مما ذكر على سبيل المثال وليس الحصر: رشوف البادية، ورشوف حوران، رشوف الكرك، ورشوف البلقاء، ومشوط الكرك، وعيش اللبن في الجنوب، وطبيخ السميدة في الشمال، ووفويرة الأغوار الجنوبية، والقويرة في البلقاء ) كما إنه لم يغفل طقوس شركائنا في الوطن من الإخوة المسيحيين.
– ومن الجميل أن المؤلف أبرأ ذمته من أمور لم ترتح لها نفسه في بعض الأصناف من الغذاء، ونجاعتها في علاج بعض العلل والأمراض، بأن ذكره لها لا يعني الوصاة بها بمقدار ما هو متقصٍ لما حفظه لنا الموروث، ومثلها كذلك في المعتقداتُ الشعبية المتعلقة بالطب، فقد وقف عند القضايا السلبيةِ التي لا يقبلها المنطق مشيرا إليها في مضانها، كالتوسل بالناس والقبور والأولياء واستخدام التمائم، ورش الملح على العريس في الزفة والقراءة من الكتب الصفراء للاستطباب .
– أشار المؤلف الكريم إلى الطب الشعبي(البديل أو التكميلي ) وهو الجزء الثالث من الكتاب، مبيننا أنه يحظى بالقبول عند قطاعات واسعة من الشعوب ،مقتبسا تعريفا لمنظمة الصحة العالمية له على أنه :
“حصيلة المعارف والمهارات والممارسات القائمة على النظريات والمعتقدات والخبرات المتأهلة في مختلف الثقافات” .
وقد أدهشني ثراء الطب الشعبي كما ورد عن الموروث على وقفات ومعالجات لمختلف جوانب النشاط الإنساني عندما يحدث له اختلال، سواء على مستوى الجانب البيولوجي أو الجانب النفسي سواء بسواء، فيضطره إلى البحث عن علاج، وقد أشار المؤلف إلى اهتمام بعض الدول بالطب البديل المتمثل بطب النباتات، وقد مثّل المؤلف لهذه الدول بألمانيا وإسبانيا والصين .
بالنسبة للنباتات الطبية التي قد تستخدم في المجال الطبي البديل، فقد قسّمها إلى:
نباتات طبية آمنة مثل (البابونج والميرمية وحصى البان والزعتر واليانسون والكمون والشومر والقرفة والزنجبيل والقَرَنفل والثوم….).
نباتات طبية آمنة نسبيا (الجعدة، والشيح والبعيثران والسنامكي والميرمية )
نباتات ذات سمية (قثاء الحمار والدفلى)
وقد دعا الدكتور أحمد إلى قوننة وشرعنة ما ثبت علميا أنه ناجع من الطب البديل .
ثم يعرج المؤلف على أمراض الأطفال المتعددة الأشكال ، وأمراض الكبار على اختلاف أنواعها، بما في ذلك معالجة الكسور مبينا تعامل الطب البديل مع هذه الحالات .
وينهي كتابه بالحديث عن الأعشاب الطبية، مبينا فائدة كل واحد منها، ومجال الاستطباب الذي يمكن استخدامُها فيه .
وقبل أن أنهي قرائتي لكتاب (الطعام والطب الشعبي في الأردن ) للدكتور الزعبي، لا بد لي من الوقوف على مجموعة من القيم التربوية التربوية التي ضمنها الدكتور كتابه :
– طلب البركة في المحافظة على النعمة ، وذلك من خلال الإشارة إلى عدم دوس القمح بالأقدام في بيدر القمح، وعدم نسيان الفقراء من نصيبهم من المحصول .
– الحرص على أن يكون الطعام من البيئة التي يعيشون فيها تطبيقا لمقولة : ويل لأمة تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تصنع .
– لم يخل الكتاب من وقوف المؤلف على الشكر بالامتنان لما يسرّه الله تعالى، فالحمد له يكون بالقناعة على القليل والكثير، فعندما روى في كتابه عن فتة الخبز الجاف بالشاي مع الزعتر، فقد قال رجل لزوجته بعد تناول الوجبة : اعملي لنا ابريقا من الشاي بعد هذه الوجبة الدسمة !
– المبالغة في الاحترام للضيوف بأن يبقى المضيف واقفا وهم يأكلون، حاملا الإناء الذي يزودهم فيه ب( المليحية ) للمنسف كلما اقتضى الأمر ذلك، ومكررا لهم علامات الترحيب، إضافة إلى كثير من الآداب التي ذكرها الكتاب في مضانها، مما ينبغي التخلّق بها (التسمية قبل الأكل، لا يتقدم للطعام الا بعد أن يدعوهم المضيف، توجيب الضيوف بعضهم بعضا ، الأكل باليد اليمنى ومما يلي، عدم النفخ على الطعام، عدم عيب الطعام، شكر الضيوف للمضيف، ….)
– التربية الاقتصادية من خلال تحويل الخضار من حالته الطازجة، إلى التجفيف لاستخدامه في فصل لشتاء عندما لا تكون هذه الأصناف متوفرة ( شرائح البندورة ودبسها، وتجفيف الباميا، والكوسا، والبصل، والثوم، والجعدة واللوف والدنيدلة، والزعتر ، والعنب والتين ، والجميد ، وتحويل الزبدة إلى سمن)
– الدعوة إلى ذكر الله تعالى عندما يرى المرء ما يعجبه أيا كان هذا الأمر أو النعمة حتى لا يكون حاسدا( بالقول: ما شاء الله، بسم الله )
– مورست مهنة الطب منذ وقت مبكر ، واستمرت حتى بعد ظهور الأطباء والمستشفيات ( الدايات ، والعرافون ، والمشايخ، والمجبرون والمغاربة والرهبان ، والحلاقون، قطع الطنطاف ، وعلاج قطع البطن ، والملع) .
جهد طيب يشكر له، بذله مؤلفنا الكريم الدكتور أحمد شريف الزعبي ، إضافة ما تم نشره من قبل، حيث لملم فيه شعث الموروث الثقافي في مجال الطعام والطب الشعبي، محاولا إيجاد مصفوفة لهذه الجوانب، شاكرا لكم حسن الاستماع .

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!