كتب محمد فتحي المقداد. الأنا والآخر في قصيدة “قد تمطر حروفي”

لآفاق حرة

الأنا والآخر في قصيدة
“قد تمطر حروفي”. د. الشاعر. سلطان الخضور
بقلم. محمد فتحي المقداد

المجموعة الشعرية “قد تمطر حروفي” تتراوح نصوصها عروضيًا ما بين العمودي والتفعيلة والمنثور. وبالتوقف بداية في رحاب العنوان الذي أثار شكوكًا قلقة بتساؤلات تباعدت وتقاربت؛ لتتلمّس بعضًا من المرامي التي ذهب الشاعر إليها، وما قد ظهر منها على وجه التأكيد.
وكما ورد الكلام حول الحرف (قد) الذي ابتدأ به العنوان، بمتابعة ذلك في المصادر النحوية من خلال بحث الجوجل، تبيّن أنها (حرف يفيد التحقيق، إذا جاء مع الفعل الماضي. مثل: “قد جاءنا نذيرٌ”. قد: حرف يفيد التشكيك إذا جاء مع الفعل المضارع. مثل:”قد ينجح سعيدٌ”). من مصادر النت.
قد تُمطر السّماء عادة، وقد لا تمطر، أمر مُتوقّع احتمال الحدوث أو عدمه، ولكن الحروف هنا التي قد تمطر أو لا.. ومطر الحروف جاء شعرًا بأشكاله وفنياته، وأفكاره الواضحة والمُرمزة، بحاجة للقراءة بمحبة، وقابلية استقبال عقلية متفتحة تستوعب الدلالات والتحليلات والتأويلات.

دراسة القصيدة:
نص “قد تمطر حروفي” عنوان نص تعالى لتتخذ منه المجموعة الشعرية عنوانها. (قد تمطر حروفي وعدًا) (وقد تعاجلني مساء)، ما بين الوعد والمساء تتسارع، لوعد (أستله من بين الجفون) والتشكك الخائف من دموع المساء الحيرى لتعالج الحالة (أو تعالجني عند الفجر بابتسامة صفراء)، وما بين المساء والفجر ليل طويل مشحون بالهموم واقع بين المعاجلة والمعالجة، وببنهما تستطيل الحالة لتسيطر على (قلبي المجروح). (أنا الذي أسكنُ همس الشعر، وتسكنني القوافي) والسكن بحاجة مسكن لم تتركه القصيدة نهبًا للتشكيك والتأويل، بل جاء الخبر بتحديد المكان: (قرب الشطآن). وكان مُتساوقً ما بين الماضي والحاضر (يبحثون عن زلة)، وما بينما مساحات يتحرك فيها الأنا والآخر، الأنا المتمثلة بالشاعر حينما يقول (أنا الذي)، والآخر (يا صديقي)، ومآل القصد أن الشاعر يريد من يسمعه ويحمل معه قضيته، ويكون نصيرًا له.
الأنا في القصيدة بلسان الشاعر: (أما الذي أسكن همس الشعر//وتسكنني القوافي//قرب الشطآن//تلاحق معناي وساوس الحُراس)، ولماذا السكنى قرب الشطآن المفتوحة على عوالم رحبة تتسع لشاعر مهموم مهجوس بمعانيه الحاملة لقضيته الكبرى؛ لتأتي الإجابة ب: (تلاحق معناي وساس الحُراس)، (يبحثون عن زلة// أو هفوة) للخروج من حالة الرعب والخوف والتشكك من أسباب قد تأتي مع مطر الحروف: (ليقذفوا حرفي المثقل بالأحزان//ويقصفوا حدود الوهم//بالصوت والسوط//أو بقنبلة دخان).
(أنا الذي بغيمك المُترف//أستظل من لهيب شمسك الحيرى)، ويتابع توجهه للآخر: (يا صديقي على عتبات القصر قد ألتقيك//فنستلّ حوارينا ونعود) و يطلب منه كذلك: (واحمل على جسدك المُثقل//وهمًا على وهم//وحمل همًا على همّ)، ويحثه عند العجز، فإذا لم تستطع ثقل الحمولة، وبلهجة الأمر القاطع لإيجاد مساحة ثغرة للخروج من المأزق: (ارحل// علك تعثر على الظل// وتتقي حرّ الكلام//ولهيب اللسان).
ولم تتوقف الطلبات من الآخر “الصديق” أيضًا بصيغة الأمر لأن الظروف لا تحتمل: (يا صديقي// اسكن هناك//في منطقة الرماد//وقل عاش الصمت في العروق) وكأن هناك فيه المتسع لحرية الكلام داخل النفس (المونولوجات)، (وقل عاش الرفض في الحلوق).
وبعد الاطمئنان على الصديق حينما استقر خارج دائرة الشك والخوف، جنح الشاعر إلى تبرير لهجته الآمر لصديقه: (يا صديقي//لن تكون رسولًا في زمن القهر// فالصمت والبوح سيّان// إن تفرح أو تترح سيّان// إن تبكي أو تضحك سيّان//استرح ودع عنك الآن) وبعد اطمئنانه بأمان صديقه. يعود لحاله: (دعني أنتظر على رمال الشطآن//علّ الريح تهبّ). ولم يترك مجالًا لكل ما حصل ذ، فكان تبرير (قد تمطر حروفي): (لأقيم من جديد//على شاطئ الأحزان//على ذكرى الخامس من حزيران). ففي المكاشفة لقضية نكسة حزيران 1967، لتكتمل مأساة وطن ابتدأ مشكلته بالنكبة، وما تبعها من ويلات.
بعد الهزيمة يأتي استخلاص العبرة والدرس وسبل الرد والنهوض من جديد: (أنا الأشياء//أنا من يعشق النهار). (أنا الغيم يا سيدي.. أنا الغيم//يمطر في الحلق شوكًا//ويمطر حكمة في المساء). ويلفت نظر الآخر لقضيته: (يا صديقي أنا من حمل الشمس بيد//ويدي الأخرى تصلبت//بهشيم الآهات)، و(ولم أصلب يا سيدي// لم أصلب//نهصتُ من بين الركام//واقتفيتُ أثر المجد//فزق التلال)، و(أنا الحق يا سيدي.. أنا الحق//أنا من يجيد الرتق//بعد لقاء الكفين)، و(نفضت الغبار عن مراياي// وأشعلتُ شعلة الخير فيّ//رأيتني// أقيم شراع الحق بالحق//رأيتُ جمجمتي بعيني// تتفتح على مستقبل آت)، وبإشارته للمخاطر والمعوقات: (لكن أسافين العابثين//دقت بخاصرتي). وفي نهاية النص رسوخ قضية: (ولا يوقظ الحق إلا الحق)، وسيغمض عينيه ويغضي عن الحق من كان في عيينيه حَوَل.

الأنا والآخر:
وبتتبع بسيط للأنا والآخر من خلال الألفاظ والكلمات في القصيدة، وذلك على سبيل المثال، لتأكيد أهمية الخطاب الحامل برسالته للآخر، وهو الأمر القصدي المُراد من الشاعر بتأكيده، لايصال صوته ورسالته.
*الأنا: (حروفي. أستله. تعاجلني. تعالجني. تلاعجني. تجافيني. قلبي. أسكن. تسكنني. معناي. حرفي. أستظل. أنام. أعيش. أقفز. أعبر. أداعب. أقطف. لأقيم. نهضت. اقتفيت. غسلت. غسلته). هذه الصيغة الفعلية من الأنا بين الماضي والحاضر، أما ال(أنا) بصيغة المتكلم ااذي يوجهه خطابه للآخر ورد في معظم ثنايا القصيدة، ومرة جاء للتأكيد على الذات المتكلمة عن نفسها وعن الآخر، والموجودة في قلب الحدث، ومرة وقد وردت على شكل الدرس الخطابي: (أتعرف كيف يُلاك الصدقُ) و(أتعرف من يستوي النيّئ من لحم البشر) و(أتعرف من يركب اليابسة) و(أتعرف من يلوك الكلام)، بهذه الصيغة تظهر انعكاس مهنة المعلم والأستاذ عند “سلطان الخضور” على قصيدته بوضوح تامّ.
الخاتمة:
بعد هذه الجولة القصيرة في رحاب قصيدة “قد تمطر حروفي”، ذات الرمزيّة الوطنية بعمق معانيها، ودلالاتها الواضحة مرة والتأويلية أخرى. وتتساوق بتعالقاتها في مآلاتها الأدبية مع نوع أدبي جديد ألا وهو “القصة الشاعرة”، وهو ما تذهب إليه القصيدة في مشوار طويل يبعده القصصي، وهو ما يعدّ مأثرة القصيدة الجمالية، وبذلك تكتسب قضية البُعد الثالث، مبتعدة على إشكالية اللوحة المُسطحة.

عمان. الأردن
17/ 10/ 2023

_____________

القصيدة موضوع الدراسة:

قد تمطر حروفي

شعر. د. سلطان الخضور

قد تمطر حروفي وعدًاً
‏‎أستلّه من بين الجفون
‏‎وقد تعاجلني مساء
‏‎بدموع حيرى
‏‎أو تعالجني عند الفجر
بابتسامة صفراء
‏‎أو تلاعجني صبحًاً
‏‎أو عند المساء
‏‎لا تعرف متى تجافيني
‏‎أو تهدهد قلبي المجروح
‏‎بنار الحنين
***
‏‎أنا الذي أسكنُ همس الشّعر
وتسكنني القوافي
‏‎قرب الشّطآن
‏‎تلاحق معناي وساوس الحرّاس
‏‎يبحثون عن زلّة
‏‎خرجت دون قصد
‏‎قصمت حدود الوهم
‏‎أو هفوة حملتها الرّيح
‏‎على غير المعنى
‏‎وإلى غير الزّمان
‏‎ليقذفوا حرفي المثقل بالأحزان
ويقصفوا حدود الوهم
‏‎بالصّوت والسّوط
‏‎أو بقنبلة من دخان
***
‏‎أنا الذي بغيمك المترف
‏‎أستظل من لهيب شمسك الحيرى
‏‎وأنام ليلي على كتفي
‏‎والجفن ينتظر همسك الدافئ
يبيت الليل
خلف حاجز الوهم
بلا سقوف
وبلا جدران
***
‏‎يا صديقي
‏‎قد ألتقيك على عتبات القصر
فنستل حوارينا ونعود
‏‎فنقّل فؤادك ما شئت من الهم
واحمل على جسدك المثقل
وهمًا على وهم
‏‎وهمًّا على هم
‏‎أو أرحل
علّك تعثر على الظل
وتتّقي حرارة الكلام
‏‎ولهيب اللسان
***
‏‎يا صديقي
‏‎اسكن هناك … هناك
‏‎في منطقة الرّماد
‏‎وقل عاش الصّمت في العروق
وعاش الرّفض في الحلوق

****
‏‎يا صديقي
لن تكون رسولًاً في زمن القهر
فالصّمت والبوح سيّان
‏‎إن تفرح أو تترح سيّان
‏‎إن تبكي أو تضحك سيّان
‏‎دع عنك الآن واسترح
‏‎استرح أنت الآن
‏‎ودعني انتظر
‏‎على رمال الشّطآن
‏‎دعني انتظر
‏‎علّ الريح تهب
‏‎وتأخذني كما الرّيح
‏‎إلى قارب يقذفني
‏‎فتلفظني موجات البحر
على الرّمل
تقذفني
‏‎وأعود لشاطئ النّسيان
***
‏‎أنا الرّيح يا صديقي
‏‎أنا الرّيح
‏‎أعيش تارة هنا
وتارة هناك
‏‎أقفز فوق الأشياء
‏‎أقفز فوق الشّوك
‏‎وفوق الشّوق
‏‎وأعبر كل الأشواك
‏‎أداعب وجه البرتقال
‏‎ورائحة الليمون
‏‎وأقطف من زهر اللوز
وأعود محمّلاً برائحة البرتقال
‏‎لأقيم من جديد
على شاطئ الأحزان
على ذكرى الخامس من حزيران

***
أنا كلّ الأشياء
أنا اللّيل
أنا من يعشق النّهار
أنا الذي سرقوا فرحته
عند الفجر
وجلدوه بسوط الكلمات
أنا الغيم يا سيّدي
أنا الغيم
يمطر شوكًا في الحلق
ويمطر حكمة المساء
***
يا صديقي
أنا من حمل الشّمس بيد
ويدي الأخرى تصلّبت
بهشيم الآهات
***
لم أصلب يا سيدي
لم أصلب
نهضت من بين الرّكام
واقتفيت أثر المجد
فوق التّلال
***
ها هم
تعلّموا السّحر
ولم يتقنوا رمي الحبال
ألقيت بعصاي
فانتصبت تبحث
عن الظل
عن اللّيل
عن الحبال
عصاي انتصبت
فشقّت الغيم وأمطرت
غسلْتُ وجهي
غسلْتُهُ بمداد الغيم طهرًاً
وتوضّأت بحبات المطر
وألقيت بنفسي بعيدًاً
أبحث عن خيمة تظلّلني
من سياط الكلمات.
***
يا سيّدي الحق
أتعرف كيف يلاك الصّدق؟
أتعرف من يستهوي النيء
من لحم البشر؟
أتعرف من يّركب اليابسة
ويحيل الحفرة بركة ماء؟
أتعرف من يزرع البحر
ويسقي زرعه من الدّمع؟
أتعرف من يلوك الكلمات؟
***
أنا الحقّ يا سيدي
أنا الحق
أنا من يجيد الرّتق
بعد لقاء الكفين
يخرج صوت
لا أحبّ ذاك الصّوت
ولا أحبّ ذاك السّوط
سوط الكلام
وصوت الكفّين يلتقيان
فيرفعان سوطًا مجدولًاً
لجلد الحق بلا حق
لن أنبش الماضي
ولن أوقظ الذّكريات
***
نفضتّ الغبار عن مراياي
وألهبت شعلة الخير فيَّ
رأيتني
أقيم شراع الحقّ بالحق
رأيت جمجمتي بعيني
تتفتح على مستقبل آت
لكن أسافين العابثين
دقّت في خاصرتَي
ولا يوقظ الحقّ إلا الحق
وسيغمض عينيه عن الحق
من كان في عينيه حول
أو يمضغ الدّفلى
ويبتلع شوك الرّبيع على عجل.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!