قراءة لقصيدة (كل شيء يذكرني بليلى- للشاعر نضال القاسم). الناقد: د. سلطان الخضور

لصحيفة آفاق حرة:
_______________

قراءة لقصيدة
(كل شيء يذكرني بليلى ~للشاعر نضال القاسم)

الناقد: د. سلطان الخضور

” وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر” وفي الصين تفتقد ليلى, فقد افتقد شاعرنا ليلاه خلال تجواله في رحلة إلى جمهورية الصين الشعبية, فكانت فلسفة انعكاس الصورة على الأشياء, فكل الذي رأى يذكره بليلى, وفي كل الأماكن التي بها حل تكون ليلى, فقد صنع من كل من وكل ما مر به مرآة تعكس صورتها, وقد اشتم رائحة عطرها الفواح – كما قال – من خلال عطور الأخريات من الصينيات, وكلما ابتسمت إحداهن أو ضحكت ضحكة خجولة رأى في ابتسامتها ابتسامة ليلى وفي ضحكتها ضحكتها.
ويبدو أن شعر ليلى أسود فاحم وما أكثر فاحمات الشعر في الصين, وذواتي أهداب, وبناء على هذين المعطيين لن تغيب ليلى عن ذاكرة الشاعر إلا في حالة اللاوعي, عندما يكون في الدرجة السابعة من النوم, فلطالما هناك وعي هناك ليلى.
كل شيء يذكرني بليلى…
روائح عطرها الفواح
حكتها الخجولة
شعرها الفحمي أهدابها القاتلة
وفي المقطع الثاني عاد شاعرنا ليتذكر آسرة القلب, ونزاعة الهوى ليلى, لكنه يزيد عيار الشوق قليلاً لأنه يذكر الأغاني التي أثقلتها التباريح, وما ذكر مفردة التباريح إلا للتعبير عن شدة اللوعة وحرارة الشوق في الهوى, فكأني به شاعر ملوّع مهدود الحيل من ثقل حب ليلى, إنه كعنترة حينما يذكر عبلته والسيوف تقطر من دمه, حيث قال عنترة مخاطباً عبلة “ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي” أيعقل أن يتذكر عنترة عبلة والرماح تغرز في جسده والسيوف تأخذ حقها من دمه. وتعيدنا فلسفة استذكار ليلى حين استحوذت على الذاكرة بقصة عنترة الذي هام بليلى العامرية حد الجنون, فأنشدها قائلاً:
وأيام لا أعدي على الدهر عاديا تذكرت ليلى والسنين الخواليا
وقد عشت دهراً لا أعد اللياليــا أعد الليالي ليلة بعد ليلـــــــــة
أقبل ذا الجـــــدار وذا الجــــدار أمر على الديار ديار ليلـــــــــى
فثلاثة من الشعراء يهيمون بحبيباتهم, اثنان منهم هام كل منهما بليلاه, فشاعرنا كسابقية يستذكر المحبوبة وما حولها, بل وزاد حيث بات كل شيء يعكس صورتها, فهو يتذكر رائحة القهوة ولذتها في مطبخ ليلى, وتناول القهوة مع الحبيب مع معاني المودة والانسجام. ويتذكر ليلى بقرطها الذهبي الجميل وهو يتدلى من شحمتي أذنيها وكأنى بها تتمتع ببعد مهوى القرط , وما أجمل القرط الذهبي حين يتدلى تحت شعر فحمي على رقبة طويلة لحسناء من الحسناوات الجميلات وهي تقف أمام مرآتها لتزيد جمالها جمالاً وقد ارتسمت على شفتها ابتسامة تفوح بالحب. ولم يحصر جمال ليلى شاعرنا بجمال وجهها وشعرها, بل ما زاد الجمال جمالاً هذا الفكر الذي تحمله والذي وصفه الشاعر بالنهضوي, فقد تميزت ليلى بأنها تحملاً فكراً تحاول بثه في عروق حولها مما جعل الشاعر يتعرف على مواطن التفكير لديها ويستنتج أنه فكر نهضوي, ووصف الفكر بالنهضوي إشارة إلى عصرنته واتقاده وانسجامه مع تطورات الزمان ومواكبته للحدث.
وتبلغ الدقة منتهاها عند الشاعر, حين يفعل الصوت فعله فيه, فلم ينسى عذوبة نداء ليلى حين تناديه, فقد اختار أن يصف صوتها بالغزير ليذكرنا بالمطر حين يهطل بغزارة ليكون أكثر قدرة على العطاء, وهكذا ليلى تبث طاقات من الفرح في المكان إن هي تكلمت.
وتكتمل الصورة حين يرسم لنا الشاعر ليلى وهي تلبس ثوبها الداكن الفضفاض, ليؤسس لنا لرابط جديد ما بين الثوب الفضفاض والفكر النهضوي الذي سبق ذكره, فكأني بليلى تميل إلى الحرية وتكره الضيق والتضييق حتى بلباسها فترتدي الفضفاض منه لتبقى مرتاحة, أما الداكن من الألوان الذي ترتديه ليلى ففيه إشارة على جديتها ونضجها وخبرتها في الحياة وبعدها عما يشير إلى دنو في الفكر أو اللامبالاة, هي بالتالي فلسفة استخدام المفردة لتعطي كثافة في المعنى وفلسفة الربط بين المفردات, لينزاح المعنى باتجاه الجدية.
وتبرز فلسفة تكثيف المعنى في كلمة معنّى – بتشديد النون – حين جعل منها وصفاً لقلب ليلى فقال:” قلبها المعنى” ليشير إلى أمرين الأول هو معرفته التامة بليلى فمن يستطيع وصف قلب شخص ما, لا شك أن لديه خبرة تراكمية به, مكنته من الحكم على القلب لا على اللسان مثلاً, أما الأمر الثاني ففيه رسالة للمتلقي أن الخبرة وقساوة الظروف والمعاناة والألم والوجع هي التي شكلت شخصية ليلى, ففكرها النهضوي وثوبها الفضفاض كانا نتيجة لمعاناة تمتزج بالجدية.
وتكتمل الصورة حين تكون النتيجة, فقد خرجت الصورة بقامة هيفاء ناحلة, وقد كان الشاعر ذكياُ حين وصف ليلاه بالناحلة فهو لا يريد التعبير عن ضعف الجسد بل يريد التعبير عن رقة الجسد وجماله, فلذلك لم يستخدم كلمة جسم أو جسد بل استخدم كلمة قامة ليخرج بالتالي إلى وصف يتسق مع ما سبق حيث قال “قامتها ناحلة”.
كل شيء يذكرني بليلى…
الأغاني التي أثقلتها التباريح
رائحة البن في مطبخ البيت
أقراطها البراقة الصفراء
مرآتها المستديرة
ثغرها المبتسم
فكرها النهضوي
نداءاتها
صوتها الغزير في حجم الفرح
ثوبها الداكن الفضفاض
قلبها المعنى وقامتها الناحلة
وينتقل القاسم إلى فلسفة المزج ما بين جمال ليلى وجمال كل الأشياء التي يراها, فهو يرى الأشياء جميلة لأنها أخذت صفة من صفات ليلى, فها هو يتذكرها حين يرى رذاذ الماء لينسجم مع القصيدة التي سبقت هذه القصيدة, حين وصف نزول المطر بأنه ينزل رويداً رويداً وعلى شكل قطرات لأن الرذاذ يكون أيضا على شكل قطرات, وقد استخدم كلمة رذاذ ليدل على الرقة والهدوء والوضوح. ولعل ذكر أنفاس الورود ينسجم مع الحركي من المعنى حيث البطء فيها, فالورد حين يتنفس يكون في حالة التجلي فيبدأ بالتفتح شيئاً فشيئأ, فهو هنا يريد هذه الحركة البطيئة من الورود لتوائم حركة الرذاذ, وكل هذه الرقة فيما ذكر تذكره بليلى, أما قامتها فقد اختار أن يشبهها بالشجر, فالشجر متجذر شامخ ثابت, والشجر مورق معطاء, والشجر فيه جمال الاخضرار وحنية الظل, إضافة لكونه ملجأً حين تشتد حرقة الشمس.
وعاد ليصف الملامح بالعذوبة ليقول أن ملامح الموصوف كملامح الوصف, فعذوبة الملامح في رذاذ الماء وأنفاس الورود وقامة الشجر كعذوبة ملامح ليلى وحتى سيرها هو سير الهوينا, وما الوقار وخفة الظل والتواضع إلا صفات من صفات سير الهوينا, والمطّلع على الشعر الجاهلي لا بد له أن يتذكر أبيات مأمون بن قيس بن جندل الوائلي في الغزل, الذي لقب بالأعشى لأنه كان ضرير البصر لكنه كان قوي البصيرة حيث قال:
غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينا كما يمشي الوحي الوجل
كأن مشيتها من بيت جارتــــــها مر الســـــحابة, لا بريث ولا عجـــــــــل
وحين تتجلى الذاكرة يتعدل المزاج وتتضح الرؤيا, فالورود الذي ذكرت في هذا المقطع تتفتح هي أيضاً في لحظات التجلي, وحين يتجلى الشاعر يأتي بأفضل ما لديه, وهنا تأتي صورة ليلى في لحظات من التجلي فتنفلت والانفلات هو الخروج بلا رغبة وبلا تخطيط مع محاولة الابقاء عليها, وما الأماني إلا من التمني وما التمني إلا إشارة إلى الرغبة , فمن يتمنى شيئاً يريد أن يحصل عليه, فتخرج أسئلة لا بد منها ولا بد من الحصول على إجابات لها, فالأماني كثيرة لكنها محبوسة يخشى الشاعر عليها من الانفلات لأنها تحمل كثيراً من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات.
كل شيء يذكرني بليلى
رذاذ الماء
أنفاس الورود
الشجر
تلك الملامح ذات العذوبة
سير الهوينى
التجلي
إنفلات الأماني
الإجابات و الأسئلة
أما فقرته الرابعة فقد خصصها للحديث عن المكان الذي فيه تقيم ليلى, حتى الطريق المؤدي إلى منزلها يتذكره ويذكره بتفاصيله, حيث وصف بينها بالمنزوي في إشارة إلى السكنى بعيداً عن الأماكن الشعبية التي تكون في العادة مكتظة في البيوت, ولم تكن كلمة السفوح عبثية حيث الميل العام للأردنيين للسكن على سفوح الجبال حيث الاستقرار والهدوء والبعد عن الاصوات وضجيج المدن, وكأني بليلى تقيم على سفح جبل كتلك الجبال المحيطة بالعاصمة “عمان”, مما زاد في الإعجاب بالمكان الذي تقيم فيه.
ويمعن الشاعر في وصف تفاصيل البيت, ما يعطي إشارة أن البيت مألوف لديه, ولم تكن معرفة التفاصيل نتيجة زيارة أو اثنتين, بل كانت نتيجة زيارات متكررة ما جعل التفاصيل تستوطن الذاكرة وتقيم فيها وتكون جاهزة لتلبية النداء حين السعي لاستحضارها, فوصف جدران البيت باللون الأبيض ليقول أن بيت ليلى كان مميز, يرى عن بعد لولا الظل الذي حجب عنه الرؤيا وجعله خلف الأشجار الباسقة التي تحيط به والتي ساهمت هي الاخرى في اعطائه صفة الانزواء, وما يؤكد ما ذهبنا إليه هو صوت زقزقات العصافير التي لم تكن عابرة بل دائمة التواجد لوجود الأشجار كما ذكرنا.
وكأن بيت ليلى في مكان مرتفع, له شرفة مطلة على ما حولها, واستخدام الصغيرة فيه دلالة على قلة عدد الساكنين, أو على الأقل المستخدمين, وعلى الشرفة المطلة يحلو احتساء القهوة مع الحبيب, ويحلوا السهر في الليالي المقمرة, ولم تكن الشرفة تخلو من الأصص المخصصة لزراعة الورود التي تزين الشرفة وتسهم في إضفاء روح الجمال على المكان, ويتذكر أثاث بيت ليلى المهلهل, وليس هناك إلا مدلول واحد لتتسق صفة الأثاث المهلهل وهو الرغبة بالإشارة لقدمه, ومن الناس من يفخرون بالقديم من الأشياء.
ثم ينتقل إلى الحديث عن أبواب البيت فيصفها بالمؤصدة, وأية أبواب غير مؤصدة هذه الأيام؟ لا سيما إذا كانت أبواب بيت منزوٍ, تحيط به الأشجار.
وما يؤكد ما ذهبنا إليه عند الحديث عن صفة الأثاث المهلهل أن ذلك لم يكن نتيجة فقر أو فاقة, مقاعد الاسفنج والخيزران التي لا يقتنيها في العادة إلا الأغنياء. وقد استخدم الشاعر المفردتين ليشير إلى الراحة والثراء, بالإضافة إلى رغبته في إضفاء بعض التفاصيل ليوحي للمتلقي بالاطلاع والمعرفة.
ثم ينتقل الشاعر إلى استخدام فلسفة الألفة والقرب باستخدام الألوان, حيث يتذكر ويذكر ملاءة السرير -إي غطاءه – بالإضافة لذكرة للون الوسائد التي وصفها بالزرقاء, ومن المعروف أن للون الأزرق دلالاته التي لا يدركها الكثيرون, حيث يوحي بالإثارة والطاقة ويساهم في تهدئة الأعصاب والجنوح إلى الهدوء والسكينة, وهو لون ملهم يوحي بسعة الخيال ويجعل العقل متأملاً يشطح في فضاءات الخيال, ثم يضيف إلى هذا الجو الستائر التي هي من مكونات البيت التي استقرت في الذاكرة.
ثم ينتقل إلى الحديث عن شباك غرفة ليلى بكلمة موحية أن الزيارات لم تكن في النهار, بل كانت تتم ليلاً وقد قصد استخدام كلمة المضيء ليشير لذلك, وبعدها يذكر قطة ليلى الأثيرة, والأثير في اللغة هي مصدر صناعي بمعنى حالة من الخفة والنشاط والشفافيّة والنقاوة, أما الأزهار الذابلة التي أنهى بها هذه الفقرة وعندما تذبل الأزهار لا تقوى على النمو, والذبول في العادة يعود إلى الإهمال, وما الإهمال إلا لسبب طارئ, من الممكن أن نرده إلى حالة من الحزن, أو الانشغال بأمور أكثر أهمية , أو عدم وجود متسع من الوقت, مما يجعل الأزهار ليست أولوية.
المهم في الأمر في هذه الفقرة هي فلسفة اللجوء إلى ذكر التفاصيل لمنزل ليلى, وفي ذلك إشارة واضحة على القرب والألفة والمحبة مقترنة بالآهات والحسرات التي تنتج عن التذكر ليلى وبيتها الذي صار متلازمة ذهنية صعبة الإنفكاك عن العقل الباطني للشاعر.
كل شيء يذكرني بليلى…
الطريق المؤدي إلى بيتها المنزوي في السفوح
جدرانه البيض خلف الظل والزقزقات
شرفته الصغيرة والأصص
أثاثه المهلهل
أبوابه الموصدة
مقاعد الاسفنج والخيزران
كلاءة السرير والوسائد الزرقاء والستائر
شباك غرفتها المضيء
قطتها الأثيرة
أزهارها الذابلة
وبعد الوقوف الذهني على بيت ليلى المرسومة تفاصيله بدقة في ذاكرة الشاعر, نجده مسكون بليلاه, كما سكنت قيس بن الملوح ليلاه, حتى حببا إلى اسم ليلى وجعلاني أعمل ذاكرتي لأبحث لي عن ليلى تخصني, وما ذلك إلا لتأثير الاسم وصاحب الاسم على من يعشقه, ويترجم القاسم سكناه بليلى في جعل كل ما يراه في الصين يذكره بها, حتى بت أشك أن ليلى من ساكنات إحدى المناطق الجميلة هناك, فالبراري وهي جمع برية والصقيع والتلال, وما بين المفردات هذه من مسافات زمنية ومكانية هو دلالة أكيدة على دوام حالة التذكر ورؤية ليلى ترتسم ملامحها في كل منها.
وقد كان استخدام كلمة بروق في مكانه حيث أتبع بالهشيم, فإذا كانت البروق هي أول ما يكسو الأرض من النبات فإن الهشيم هو يابسه, وقد جاءت كلمة الهشيم لتعزز اعتقادنا أن المعني في البروق ليس جمع البرق, وهنا أيضا تبرز فلسفة استخدام الفرق الزمني في التعبير عن دوام التذكر والحضور, فما بين نبات النبات والانتقال إلى مرحلة الهشيم فترة فصل من فصول السنة وذلك للتأكيد على تسلسل الحدث وعدم غيابه ولو لفترة من الوقت, وما يعزز هذا الرأي ذكر موج البحر في الليل, والمد والجزر, وهذه متوالية زمنية أخرى فما دام هناك موج, لا بد هناك مد وجزر ولا بد هناك تذكر لليلى.
وجاءت مسميات في الصين الشعبية لتشهد على ابتلاء الذاكرة بدوام التذكر وملازمة الذكرى, ففندق الصداقة الذي ذكره الشاعر, يبدو لي أن مسماه عربي حتى ولو كلن في الصين, وساحة التحرير وما أكثر المسميات التي تتعلق بهذه المفردة في عالمنا العربي والتي لا تعطي المعنى المراد, أما في الصين الشعبية فقد أعلن ماو تسي تونج من هذه الساحة أو ما تسمى ببوابة تيانآنمن عام 1949عن تأسيس الحكومة المركزية للجمهورية ومنها بدأ النضال ضد الاقطاع والفقر والسير بخطى ثابتة نحو التقدم, كما تشير المراجع والتي تشير أيضاً أن مسمى “بي تشانغ” الذي ذكره الشاعر هو مطعم” بي إف تشانغز” الذي يقدم المأكولات الصينية المحضرة على الطريقة الامريكية, بأسلوب الشيف” فيليب تشيانغ” بالإضافة إلى معبد ” تشونغ شينغ” وهو من اثار الثقافة البوذية في ولاية دالي في مقاطعة يونان وواحد من مناطق الجذب السياحي على المستوى الوطني,
ولم يأتي ذكر” تشونتشينج” عبثاً, فقد أسهم بدوره في التذكير بليلى, وتشونغتشينغ هي أكبر مجمع تجاري وصناعي في جنوب غرب الصين, وتعتبر همزة الوصل بين العديد من الطرق البرية والنهرية على المجرى الأعلى لنهر اليانغستي, عدا عن كونها مركزاً لصناعة السيارات والآليات والحديد والصلب وغيرها من الصناعات.
ثم ينتقل إلى ذكر يي خو يوان, وعائلة يوان من السلالات العريقة التي حكمت الصين, ثم يذكر الشاعر هاي ديان, بقوله حي ديان, وديان مدينة صينية يقطنها 3281000 نسمة, ويختم الشاعر ذكر المعالم الصينية بذكر سور الصين العظيم كأطول سور في العالم, هذا السور الذي بناه الصينيون ليحميهم من الغزو الخارجي, ويحتوي السور كما تشير المراجع أبراج للحراسة والمنارة, بالإضافة للجسور والسلالم, ويبلغ طوله 21196.18كم, ويبدو أن صورة ليلى ترتسم على كل مسافاته.
وإذا كانت كل هذه المعالم بجمالها وسحرها واكتظاها ومساحاتها وإرثها التاريخي, وهي الأماكن التي لا يمكن أن تغيب عن ذاكرة الشاعر أو أي زائر للصين تذكره بليلى, فإن هذا يعني أن ليلى يمكن رؤيتها في كل بقعة من بقاع هذه المساحات وهذه المسافات, ونستطيع التأكيد أن اقتران اسم ليلى بكل هذه المعالم فيه تخليد أبدي لذكراها, لأن هذه الأماكن باقية ما بقي الوجود.
وبعد ذلك يتذكر الشاعر قوس الشمس والأزهار في إشارة إلى قوس قزح, هذا القوس الذي يظهر مع ظهور الشمس في فصل الشتاء, والذي يطل بجماله على الأزهار الفواحة والمذهلة, ليسهم بدوره والأزهار في التذكير بليلى التي سكنت الشاعر كما سكنت صورتها في كل ما يقع تحت ناظريه.
كل شيء يذكرني بليلى
البراري
الصقيع
التلال البروق الهشيم
موج البحر في الليل والمد والجزر
” فندق الصداقة”
“ساحة التحرير”
يي تشانغ
تشونغ شينغ يي خو يوان
حي ديان سور الصين
قوس الشمس والأزهار
فواحة ومذهلة
ويعود الشاعر لتعداد الأشياء والأماكن, فيذكر الثلج والسوق القديم وذكرياته فيه, والسوق القديم من المعالم المهمة في كثير من البلدان, لكن بحيرة البجع كحالة خاصة فهي كما تشير غادة الحلايقة تحت عنوان سيمفونية بحيرة البجع “بأنها إحدى روائع الموسيقى للموسيقار الروسي الشهير تشايكوفسكي التي كتبها عام الف وثمانمائة وسبعة وثمانين, والتي تضم كسارة البندق والأمير النائم والأميرة النائمة” وهي من أعذب السيمفونيات خاصة عندما ترافقها رقصات الباليه.
ولا يخلو الأمر من الإشارة إلى إشارة المرور, وإشارات المرور منتشرة في كل مدن العالم على الأقل الرئيسية منها, حتى نهر العقيق وهو نهر في المدينة المنورة بنيت عليه القصور وأقيمت حوله المزارع منذ العهدين الأموي والعباسي, يسهم هو الآخر في إشعال الذاكرة لتبقى ليلى تتربع على جنباتها, وليس بزوغ الفجر وخيوط الضياء أو البيوت التي بنيت من القصب أو الحصون القديمة والياسمين بمعزل عما يذكر بليلى.
ويعود القاسم في نهايات القصيدة إلى الصين بأقمارها ومعابدها وحصى السيول والشتاء والكستناء والخيل وهي تصهل في الحقول لتعطي جواً من التفاؤل والأمل بتحقيق الحلم, لعل ليلى تكون كمصباح علاء الدين فتظهر أمامه لتقول” شبيك لبيك أنا بين يديك” كما ورد في الروايات العربية القديمة.
ويأتي الشاعر مستغرباً متعجباً من هذا الذي يجري, فهل يعقل أن يستطيع طيف ليلى ملازمته حيثما حل, ويبدو أن أنهاء القصيدة بمخاطبتها بضمير الغائب حيث قال” كل شيء يذكرني بها” فيه إشارة إلى الرغبة في أخذ قسط من الراحة ومحاولة إيجاد فجوة زمنية لا تكون ليلى فيها حاضرة, لأنها خلقت حالة من المعاناة التي لا انفكاك عنها, فلذك كان الختام “والقلب يهتف ما أصعب الانتظار” وحقيقة الانتظار صعب, فكيف إذا كان انتظار حبيب؟
كل شيء يذكرني بليلى…
الثلج والسوق القديم والذكريات
بحيرة البجع
إشارة المرور والشوارع
نهر العقيق خيوط الضياء
بيوت القصب
الحصون القديمة والياسمين
أقمار بكين
أروقة المعابد والحصى والكستناء
روائح السيول والشتاء
والخيل تملأ الحقول بالصهيل
ريانة متفائلة.
فيا للعجب!
كل شيء يذكرني بها.. والقلب يهتف :
ما أصعب الانتظار
وبعد هذا الذي كان, وبعد هذا التجوال الزماني والمكاني في قصيدة” كل شيء يذكرني بليلى” أجيز لنفسي أمرين, أولهما, أن الحق الشاعر نضال القاسم بقيس ليلى وأطلق عليه” نضال ليلى”. والثاني أنني أمسيت أتمنى لو أن لي ليلاي أسكنها وتسكنني كما سكنت كل منهما ليلاه, فقد شعرت وأنا أقرأ القصيدة بالتفاعل مع الكلم حتى التجلي, ما جعل القصيدة توحي بصدق المشاعر وعمقها, على الرغم مما سببته بل وخلفته من معاناة, لكن الذي تأكدت منه وأنا أستعرضها أن هناك تناسب طردي ما بين قساوة المعاناة وشدتها وما بيم جمالياتها ولذتها, فتمنيت لو أني اعاني وأعاني وأبات عليلاً شوقاً إلى ليلاي, فترتفع حرارتي وأهذي وأقول شعراً بها ويكتب النقاد عني وليقول الناس ما يقولون, ولتكن النتيجة كيفما تكون

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!