مدارات القلق عند الشاعر عبدالرحيم جداية./ بقلم/ محمد فتحي المقداد

في العام ١٩٤٨ نشر الكاتب الأمريكي (ديل كارنيجي) كتابه الشهير (دع القلق وابدأ الحياة)، وفيه تصوّراته الكثيرة والعديدة لحالات وقصص القلق، وهو محاولة ودعوة لنبذ القلق، ومعالجة اسبابه ونتائجه.
وكما هو معلوم أصبح القلق ظاهرة عامة لدى كافّة المجتمعات الإنسانيّة.
فالقلق من عقبات الحياة ومصاعبها، والمستقبل غير الواضح، وسيطرة الماديّة على منحيات وتفاصيل حياة البشر صغيرها وكبيرة.
كلّ ذلك كان على حساب الخواء الرّوحيّ، وانحسار القيم الإيمانيّة على الصعيد العالميّ.
*

الشّاعر والناقد عبدالرحيم جداية، أصدر ديوانه الأخير (قلق أنا)، وللقارئ المتتبّع تبرير ذلك لشاعر ومثقّف بحجم عبدالرحيم ، ومن الممكن تصنيف قلقه تحت يافطة القلق الإبداعيّ.
ومثل عبدالرحيم الدّؤوب المجتهد القائم على أوراقه وأقلامه وكتبه، وأدواته اللّازمة لصنعته الشعريّة. قابضًا على ناصيتها بإحكام خبيرٍ مُتمكّنٍ.
وقد تنوّعت أداءاته الشعريّة الفصيحة ما بين العموديّ والتفعيلة والنثر، عندما طرق أبواب بحورها جميعًا، لم يترك حتّى شواردها الغامضة غير المطروقة منها.
*

ديوان (قلق أنا) عنوان مأخوذ من عنوان قصيدة احتلّت الصدارة، توقّفتُ كثيرًا أمام العنوان. وربّما تحفّظتُ إزاءه بشيء من التوجّس متسائلًا:
– كيف لشاعر أن يفصح عن مكنون مخزونه الهائل من القلق؟.
أعتقد وبلا تردّد: أنّ الشاعر مرآة عاكسة لمحيطه الغارق في متاهات من قلق العيش الصّعب، وقضايا الوجود واللّاوجود، ومقارعة التحدّيات اليوميّة، اعتبارًا من الأسرة الدائرة الأولى للمجتمع.. وانطلاقًا إلى أبناء العشيرة، والقبيلة، والأمة.
أجزم أنُ: (عبدالرحيم جداية) قلق بهموم كبيرة أرّقته ليل نهار. كثيرًا ما استبدّت بفراشِه حتى جعلته يُجافيه.
*
وبالعودة للقصيدة (قلق أنا):
– (ستقول سنبلة الحقول لأختها: قلق هو).
لم يكتف بقلقه الذاتي، وكأني بامرئ القيس عندما (وقف واستوقف.. وبكى واستبكى)، وهنا حديث سنابل الخير، وهي تشير إلى قلق الشاعر الطافح كما الحقول بسنابلها.
– (وتقول ثمّ سحابةٌ لسحابةٍ مرتْ من هنا: قد كان يرتجف الخريف على يديْه، قلق يُساورني عليه).
وهذا المقطع نفس سابقه، ولكنه أضاف فكرة ارتجاف خريف المحيط بالشاعر وهز في قمة عطائه الإبداعيّ.
– (حتى اليمامة غادرت أغصانه، مذ كان يسكنه الأرق).
وهذا جاء جواب كلمة الخريف فيما سبق. وإذا تساءلنا: ولماذا تغادر اليمامة أغصانه؟
– (قلق يساورني، وأشكّ أن الثلج أبيض، وأشك أن الليل أسود).
ذات الشاعر تحكي كلماته قلقه وشكوكه في المُسلّمات غير القابلة للتأويل أبدًا، الشكّ الناتج عن حالات القلق.
– (وأشكّ في قلقي؛ إذا ناجيتني).
المناجاة تغلب عليها صبغة الكلام الداخلي في النفس.. والمناجاة تكون لله في جوف اللّيل الآخر.. وللحبيبة.. وللوجود.. والشاعر هنا يشكّ بقلق إذا ناجته حبيبته.
-( ويمدّني صمتي بموّال أسيرْ، وأمدّه كذبًا؛ فيقول لي: قلق بساور قلبك المحتلّ يا ولدي).
الصمت المتفكر الواعي حالة أخرى للشاعر، يستنطقها.. ويستنطق دواخله بخيالات هلامية قلقة.
– (وما عرف الغرق، ماكان يغريني القلق).
ليأتي الجواب بوضوح في نهاية القصيدة (قلق أنا) في خاتمة بديعة الصنع:
– (هل كلن يغريني الوصول إلى مفاتن وجهها.. كي أستريح على بقايا قلبها؟).
– (فالخوف سلطانٌ وقلبي دربها، لكنّ بعض مخاوفي.. غلبتها).
القصيدة العنوان (قلق أنا) أبدعت في تنوير القارئ، ولفت انتباهه لبواطن النفس الإنسانية، وما يعتريها من خوف وقلق وهواجس وشكوك ويأس وإحباط. وهو الجانب المظلم من أي شخص، ولا يحب البوح به. إلا الشاعر عبدالرحيم.. لإعطائنا درسًا في علم النفس، وهي خلاصة خبرته ودراساته المعمقة في مجالات كثيرة.
– (وأعدتُ جمع المستحيل؛ لأحترق..!!).
وهاهو يعود ليخبرنا بما كان يعتمل في نفسه احتراقًا على واقعنا الذي لا يسرّ إلّا عدوّ.
القصيدة ذات النّمط القصصيّ السرديّ، على شكل ومضات وشذرات، مميّزَة بحوارياتها ذات المونولوجات الداخليّة.. وديالوجاتها الخارجيّة.. حرفيّتها التقنيّة عالية.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!