موجات من الفوبيا ” محاولة لفك شفرات الواقع قراءة : أشرف قاسم / مصر

كيف يستطيع الكائن أن يعيش في هذا الكون وهو محاصر بموجات متتابعة من الرهاب الشديد ؟ لعل هذا التساؤل هو أُسُّ تجربة كمال أبو النور في ديوانه الأول – الذي تأخر الشاعر في إصداره طويلًا – الذي طالعنا به مؤخرًا تحت عنوان ” موجات من الفوبيا ” . يرصد خلال نصوص ديوانه حالات شتى من الرهاب الشديد من الحياة بشكل عام ، ومن تلك الصراعات التي يذهب الإنسانُ ضحية لها دون ثمن ، ومن الإحباط الذي يسيطر علينا عند فشل مغامرتنا الأولى ، فنستسلم للفشل ونظل نندب حظنا العاثر دون أن نفكر كيف نحول هذا الفشل إلى نجاح : أن تسقط أسنانُك مِن أول لطمةٍ للظلام يعني أنك هَشٌّ ولا تستحق أنْ تنتمي إلى هذه الغابة جريمتُنا التي صنعناها ببهجة ص5 من خلال هذه اللغة البعيدة عن الغموض والإيغال في الإبهام ، ومن خلال هذا الخيال الموحي والرمز الدَّال ، يستطيع كمال أبو النور أن يصنع علاقات جديدة بين اللغة بخصوصيتها وتكثيفها ، والصورة الشعرية المتوهجة بتعدد مستوياتها الجمالية ، دون الجنوح إلى الإغراب والتعتيم ، وها هو يرصد فوبيا ” المؤامرة ” : أنْ تُخرجَ المنازلُ رقابها كالإوز للثرثرة طوال الوقت عن نظرية المؤامرة الكونية فلأنها مسكونة بالأرواح البيلوجية وهي طاهية ماهرة لبراميل الصحراء ص 6 يستعين الشاعر في رصده لتلك الموجات أيضًا باستدعاء الماضي بذكرياته وصهر تلك الذكريات في أتون نصوصه ليتسع فضاء النص وتتشابك رؤاه بهاجس الذكريات المتقدة في القلب ، لتنتج بالنهاية ملمحًا جديدًا من ملامح تلك الفوبيا : في زاوية منسية أجلس مع معشوقاتي الدجاجات التي تحتفظ بأنفاس أمي تزورني كلما أشتاق لزفيرها ص 20 ترتكز نصوص الديوان – كما هو واضح – على عدد من الشفرات الدالة التي تفتح أفق المتلقي على التأويل والتفسير لما تحمله تلك الشفرات ، دون الدخول في متاهات ، للوقوف على موقف الشاعر من تجربتي الحياة والموت – حقيقة ومجازًا – ، ورصد تجربة الفقد وآثارها ، وتجربة الغربة والضياع كموجة من موجات الفوبيا التي يرصدها في نصوص الديوان : رحل أبي بكل وداعته وترك بجواري حيوانات تستعذب سلخَ جسدها ص 25 كما أن تلك الإشارات الوامضة مثل ” صورة الأب ، الأم ، الحديقة .. وغيرها ” ، التي يرسلها كمال أبو النور عبْر نصوصه ليست إشارات مجانية يكون مصيرها النسيان ، أو هي ليست من بنية النص لتمر على المتلقي دون التفات ، بل إنها تشكل متنًا داخل المتن برمزيتها وسرديتها ، دون الوقوع في فخاخ المباشرة : أمي لم تمُتْ أطعمت جسدَها لصديقتها الأرض أصبحت الأشجارُ أكثر عطاءً وسرَّبت ابتسامتها على أولادي ص147 ولذا نلاحظ أن مفردات الوحشة والفقد هي أهم مرجعيات النص الشعري لدى الشاعر في هذا الديوان ، ومن خلال هذه المفردات – لفظًا أحيانًا ومعنىً أحيانًا أخرى – تتشكل رؤاه وتتبلور صوره الشعرية التي تحمل أدق تفاصيل الحياة ، واستحضار أبعاد هذه المعاني في النص الشعري يدل دلالة واضحة على هذا الصراع الدائر في نفس الشاعر بين الواقع بجبروته والمأمول بمثاليته ، من خلال تجلياته المختلفة في النص : أدق على أبواب الحجرات كل مساء متوهمًا أن أحدًا مِن أولادي ينام بلا ملاءة أقف أمام صوركم أنادي كل بنتٍ باسمها لميس ، كنزي ، رتاج واللهِ أحبكم ثم أتهاوى على الأرض وأنصهر في دموعي ص111 لا يلح كمال أبو النور في نصوصه كثيرًا على الصورة الشعرية ، رهانه غالبًا على اللغة الطازجة وبكارة الطرح ، الذي يضيف إلى النص أبعادًا معرفية أخرى بعيدة عن الاعتيادية والنمطية : كنتِ تظنين بأن هذا هو الفارس على الحصان الأبيض لكنَّ الأغصانَ مكسورة يا سيدتي تعود آخر الليل محملة بالخيبة ص77 استطاع كمال أبو النور عبر نصوص هذا الديوان أن يمنح المتلقي جرعاتٍ مكثفة من المتعة والجمال وأن يجعل من ديوانه الأول لبنة مهمة في مسيرة قصيدة النثر العربية .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!