نزعة “الحزن” في كتابات اﻷدباء الشباب، وترميم الحياة بالشعر

 كتب   الأديب  والناقد  اليمني هشام.شمسان

سؤال “الحزن” هو سؤال الشعر نفسه .فمنذ أن وجد أول كائن بشري على هذه اﻷرض كانت “تيمة” الحزن هي أولى المشاعر التي تسيطر على وجدانه، حين وجد نفسه وحيدا ﻷول مرة في مواجهة مباشرة مع الحياة يتطلع فيها إلى المحيط الخارجي من حوله فيصطدم به ،فيرفع يديه إلى السماء  : رب إني حزين !!.

وحتى يخفف الله عنه هذا الشعور،خلق له امرأة جميلة؛ لتسلي وحدته، وتحمل عنه ومعه  بعض هم القلق الوجودي لمأساة هذا الكون .

وليس الشاعر بمبعد عن هذا الشعور الفطري، الذي يتولد مع اﻹنسان منذ أول صرخة له يرفض من خلالها التوحد بهذا العالم اﻷكذوبة .

لكن ما يميز الشاعر عن غيره من بني اﻹنسان أنه الوحيد الذي حمل على عاتقه عبء محاولة إصلاح وترميم الحياة بالشعر ؛لذلك كانت نزعة الحزن هي “اﻷيقونة” التي يطل منها الشاعر على هذا الوجود الكوني، في محاولة منه لكشف الهزائم، والنقائض، والفواجع، واﻹحساس المأساوي بخيبة الحياة،وعنفوانها .وﻷن الشاعر المعاصر هو جزء من الحياة المعاصرة بكل مولداتها الحسية،والمعنوية، فقد وجد نفسه في صدام معها فعبر -بالشعر- عن ثورته النفسية تجاه كل ما يحس، وينفعل به .

 

■ *مولدات الحزن لدى الشاعر المعاصر ..*

تعد ظاهرة الحزن جزءا من الفلسفة الوجودية للشاعر،بل وجزءا من مأساة الوجود ككل،ومبعث ذلك اﻹحساس كون الشاعر يتطلع-دائما- إلى المثل والقيم العليا والحياة الفضلى، لكنه لا يجدها في واقعه، فينعكس ذلك على شعره؛ إحساسا بالغربة، والفقد، والخيبة، والشكوى،والوحدة،والحيرة،واليأس،والقلق، واﻷحلام،والحنين ،والحسرة..وغيرها من اﻷلفاظ الدليلية للحزن .

وإذا أردنا أن نبحث عن أهم مولدات الحزن لدى الشاعر المعاصر- التي تقع في نطاق بحثه الدؤوب عن القيم الفضلى؛بحثا عن التوازن النفسي بين الداخل الوجداني والنظام الخارجي (الواقع) فلن  تغادر اﻷتي :

□ *الخضوع لسلطان الحب* .

وهذا يدفع الشاعر إلى التوهج العاطفي، واﻹجهاش بالحزن؛ تعبيرا عن الغرام، واﻷشواق، والبعد،والهجر، والحرمان،ومن أمثلته :

“أنسجُ الآهاتِ موالاً حزيناً

أزرع النجماتٍ زهراً في مداكَ

لستُ أدري ما جنى قلبي لذنب

وابتلاني اللهُ في دنيا هواكَ

قابلِ الإحسانَ بالإحسان إني

لا أرى في الكون مخلوقاً سواك”

(يوسف الخالد- العراق ) 

□ *الحنين، والتطلع إلى وطن آمن مستقر :*

وهذه من المولدات الرئيسية للحزن في الشعر المعاصر..

فالوطن هومكان مولد الشاعر،وهو أمه،وأرضه،وسماؤه؛ لذلك كان البعد عنه حزن،والشوق إليه حزن،وانتكاسته حزن،واشتعال الحروب،والفتن فيه حزن، ومن أمثلته  :

“اغتالتِ الحربُ قلبي في صبابتهِ

وطوقَ الحزنُ أحلامي وأعيادي

فكيف أشدو بأيكاتِ الهوى طربًا

وصوتُ نائحةٍ تبكي هوى الحادي؟!

قد عانقَ الروح َمن جورِ الورى ألمٌ بالظلمِ ضاعتْ مع الأوجاعِ أمجادي”

(خالد الشرافي- اليمن )

 

□ التوحد الوجداني،والعزلة النفسية .

وهذا العنصر نجده شائعا أكثر في شعر الشباب خاصة، ويتأتى على هيئة ثورة وجدانية ذات نزعة  استغراقية، تتجلى فيها الانهزامية ،والقلق الوجودي بأوضح معانيه .حتى حين يهرب الشاعر إلى الحب- أحيانا- فإنه لا يجد في هذا الحب الملاذ، والمآل المنشود .

وهذا يعود برأيي إلى إحساس الشاعر الشاب بعدم التوازن النفسي؛ بسبب نظرته للحياة نظرة غموض وجهل بالمصير ؛لذلك تسيطر عليه حالات الاستغراق الوجداني؛ الناتج عن المبالغة بالشعور العاطفي الحاد بعدمية، وأكذوبة الحياة،مما يولد توحدا،وعزلة ناجمين عن عجز النفس في تكيفها روحيا، وعقليا مع النظام الخارجي للحياة، ونحو هذا الاتجاه الشعري نجده أكثر بروزا في كتابات الشعر الحر، وشعر التفعيلة،والخواطرالشعرية (الشعر الصوري ).،ومن أمثلته :

” لأسبابٍ أجهلُها

أمضي نحو حفرة

أنفض غبرةَ نَفَسي بشهقةٍ

وأمضي

أخلعُ نعلَ الحياةِ بصمتٍ

وأمضي

لا صرخةَ أولى كبدءٍ

لا اعتراض أو تذمّر”

( بسمة أمير- سوريا )

 

ومن أمثلته أيضا :

“حُفَاة فِي دُرُوبِ الرُّوحِ

يسكنناِ الشَّقَاءِ وَ وِشَاح الْهَزِيمَة

سَقَطَتْ خَارِطَة الْجَسَدِ سَهْواً

تَعَطَّلَتْ لُغَة الأَعْضَاء

وَغَفَا سِرُّ الإِشَارَة

لَمْ يَعُدْ لِلْمَكَانِ رَائِحَة”

(بتصرف)

(حسنة أولهاشمي -المغرب)

 

□ ومن مولدات الحزن لدى الشاعر الحديث، الحصار المدني :

حيث يتولد لدى الشاعر إحساس أنه أمام عالم ظالم لايحقق له العدالة،ولاالكفاية من الحقوق اﻹنسانية،وحرية الرأي، وأن هذا العالم تتحكم به المصالح المادية وحدها،ولا مكان للقيم واﻷخلاق اﻹنسانية والدينية فيه؛ فيلجأ الشاعر إلى اﻹنكفاء الذاتي؛ تعبيرا عن ضيقه بالمدينة والتمدن،ومن أمثلته  :

“أيها المارة

لاترفعوا رؤوسكم

هذه المدينة لا فحولة فيها “

(حواء فاعور -سوريا)

 

ومن اﻷمثلة أيضا :

“كيف يعود هذا الرأس مثقلاً

كل ليل

والمدينة لم تعد تملك حانة واحدة ؟

ربما لم يعد هذا مهماً

السُكر أصلاً

بكاء أطلقه العنب حين داسته أقدام حافية

لنساء حسناوات” .

(محمد الخفاجي .العراق) .

 

■ وخلاصة القول : إن نزعة الحزن في الشعر قديمةٌ قدم الشاعر نفسه،وربما قد تتشابه في كثير من مولداتها،ولكن بمقادير تحددها نمطية الحياة وتعقيداتها وتشابكها وتناقضاتها المتفاوتة بين زمن وآخر.

فنحن كما نجدها، لدى امرئ القيس  :

“وليل كموج البحر أرخى سدوله

علي بأنواع الهموم ليبتلي .

نجدها-أيضا- لدى المتنبي في :

“صحب الناس قبلنا ذا الزمانا

وعناهم من أمرهم ما عنانا

وتولو بغصة كلهم منه

وإن سر بعضهم أحيانا” .

كما نجدها لدى الشابي، وإبراهيم ناجي،ونازك الملائكة،والسياب

،والبياتي،وصلاح عبدالصبور  :

حزن طويل كالطريق

من الجحيم/ إلى الجحيم .

كاللص في جوف المدينة” .

 

كما نجدها-كذلك- لدى الزبيري والموشكي،وعبد العزيز المقالح  :

بين الحزن الراكع

والموت الواقف

اختار الموت ..

ومن شعراء التسعينات في اليمن نجد هذه النزعة  متمثلة لدى الكثير، كما في شعر : هدى أبلان،ونبيلة الزبير،وابتسام المتوكل،وأحمد ضيف الله العواضي، وعلوان الجيلاني، ومحمد القعود،وجميل مفرح، وغيرهم.ومن اﻷمثلة :

حط في شباكنا حلم أخير

نقر زجاج البائسين

عربد في زوايا حزنهم وأحالهم فرحاً، وأغنية، وماء .

حدثهم عن زمن سيأتي

حاملاً لذة الميلاد ..لا ميلاد..

قد حط في شباكنا وجع أخير

( هدى أبلان – اليمن )

ونفس السيماء أيضا في شعر الشباب من أدباء القرن الواحد والعشرين في اليمن ،وبقية البلدان العربية عامة،ومثلنا لبعضها في سياقات استشهادية سابقة .

 

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!