نص للتّأمّل القصصي: بقلم. د. ميمون مسلك

لصحيفة آفاق حرة:

 

 

نص للتّأمّل القصصي:

بقلم. د. ميمون مسلك.

 

” يقول تشرشل
ركبت سيارة الأجرة يوما متجها إلى مكتب ال BBC لإجراء مقابلة… وعندما وصلت طلبت من السائق أن ينتظرني أربعين دقيقة إلى أن أعود ! لكن السائق اعتذر وقال لي لا أستطيع حيث علي الذهاب إلى البيت لكي أستمع إلى خطاب ونستون تشرشل … يقول تشرشل: لقد ذهلت، وفرحت من شوق هذا الرجل ليستمع لحديثي !
فأخرجت عشرة جنيهات وأعطيتها له دون أن أفصح له عمن أكون. وعندما رأى المبلغ قال لي : “سأنتظرك ساعات يا سيدي، وليذهب تشرشل إلى الجحيم.! ..”

***
هذا النص لم يُحك عن تشرشل ليكونَ قصة قصيرة جدا. و تشرشل نفسه و هو يحاور سائق سيارة الأجرة لم يكن ينوي ، و لم يخطر بخلده أبدا، ما يوحي بالقصة القصيرة جدا..
و لكن عفوية النص، دون تكثيف لغوي، و بنقص مما ألفناه من خصائص.. جاء بحلية قصصية لافتة.. فحقق بلاغتي: الامتاع و الاقناع.
قد لا يأتي بها الكثيرون من كتاب النّصوص السّديمة ، الموغلة في الغموض، إن لم أقل الابهام…القصة القصيرة جدا عفوية جدا، و لصيقة بحياتنا اليومية، و هكذا ينبغي أن تكون، وليدة العفوية، بدون هندسة لفظية، أو تخطيط، أو تصنع و تكلّف.. تكون كأي لقطة نصادفها فجأة في الشارع، فتترك في أعماقنا أثرا بالغا، بلازمنا ردحا من الزّمن.

في هذا النّص :

1 ــ هناك سارد يروي عن غيره، ما حدت ذات يوم : [يقول تشرشل … ].
2 ــ هناك زمان و مكان [ركبت سيارة الأجرة( يوما ) متجها إلى (مكتب ال BBC) لأجراء مقابلة.. طلبت من السّائق أن ينتظرني (أربعين دقيقة .) ] .
3 ــ هناك شخصية السّارد الأول المحايد، وشخصية السارد الثاني المروي عنه ونسون تشرشل، و شخصية سائق سيارة الأجرة.
4 ــ و هناك مفارقة : [ السّائق إعتذر وقال لي لا أستطيع حيث علي الذهاب إلى البيت لكي أستمع إلى خطاب ونستون تشرشل ] ≠ [سأنتظرك ساعات يا سيدي، وليذهب تشرشل إلى الجحيم ].
5 ــ هناك مفاجأة : سرعة تغيير رأي السّائق بفعل المال.
6 ــ فكرة النّص : مدى قوة المال في تغيير الآراء.
7ــ و هناك خرجة تأمّلية في آراء النّاس بين الثبات و التّحول.
8 ــ أمّا اللّغة و إن لم تكن مكثفة و جاءت كلغة الخبر (un fait divers ) تخلو من القصدية
القصصية..إلا أنّها تركت أثرها البيّن في نسجِ تخييل قصصي يتّسم بالواقعية.
9ــ و النّص في عمومه نوع من الحكي الشّخصي (la narration homodiégétique)

و لقد سبق أن قلت ، إنّ الكثير من النّصوص القصصية غير القَصدية نصادفها في مقالات، و كتابات ابداعية كالقصّة، و الرواية،و الشّعر، و السيرة الذّاتية و الخطب.. جاء بها أصحابها عفو الخاطر ودون وعي فنّي، أو تفكير في فنّ القصّة القصيرة جدا.. و الغريب يكون لها ذلك السّحر المؤثّر، و تلك الجمالية العَفوية الرّائعة ..و هذا إنْ دلّ على شيء، إنّما يدلّ على أنّ القصّة القصيرة جدا ، كانت تعاشر الانسان منذ القديم، لأنّها منه وإليه.

…..

المغرب. مراكش

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!