يونس علي الحمداني يرتدي قناع المتنبي

إيزيس كوبيا. ص / العراق

     أتجه الشاعر العربي المعاصر للعديد من التقنيات الادبية التي أدخلت شكلا من أشكال التغيير في طريقة تعبيره عن أفكاره واراءه ومعتقداته، وأحدى أهم هذه التقنيات تقنية القناع فمفهوم القناع في اللغة: (ما تغطي به المرأة رأسها، تقنّع: تغشى بثوب، والقناع اقناع واقنعة)(1).

إن مصطلح القناع مسرحي أساسا لم يدخل عالم الشعر إلا في مطلع هذا القرن ليؤدي وظيفة جديدة تختلف نسبيا عن الوظيفة التي كان يؤديها في مجال المسرح. والقناع في صيغته الادبية  كان على يد الشعراء الإنجليز ولا سيما الشاعر (بن جونسون) الذي كتب اعمالا مسرحية تنتمي الى ما يطلق عليه (الاقنعة) من خلال مسرحية (السواد المقنعة) عام 1605 والتي تقف في مقدمة أعماله في هذا المجال.

أما الإشارة الاولى للقناع كأسلوب تعبيري في الادب العربي الحديث فقد كانت إشارة دلالية جاءت مكتوبة على غلاف مجموعة الشاعر( ادونيس) الشعرية الموسومة ( أغاني مهيار الدمشقي)، أما عند ظهور كتاب (تجربتي الشعرية) للشاعر عبد الوهاب البياتي أصبح القناع مصطلحا اسلوبيا يشير إلى الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه متجردا من ذاتيته إذ إن الشاعر يعمد الى خلق وجود مستقل عن ذاته وبذلك يبتعد عن حدود الغنائية والرومانسية التي تردى أكثر الشعر العربي فيها(2).

لكن محمد الكندي يفترض أن قصيدة (المسيح بعد الصلب) للسياب أولى القصائد التي تم فيها توظيف القناع بشكل ناضج وفاعل في الشعر العربي الحديث(3)، في حين أن اغلب المصادر تشير أن البياتي رائد القناع سواء من حيث تجديد مصطلحه الدقيق أو من حيث استخدامه في شعره، وتقنية القناع تمنح الشاعر مجالا للتعبير ليفصح عن افكاره، على نحو فني يبعد القصيدة عن المباشرة والسطحية من جهة وينأى بالشاعر عن أن يكون عرضة للأذى والملاحقة من جهة أخرى(4).

وفي قصيدته (رؤيا من رؤى المتنبي/ مجموعة مغارة الكنز وسر الاربعين قصيدة) الصادرة عن كتاب بلا حدود 2015 استدعى الشاعر يونس علي الحمداني شخصية المتنبي ومما لا يدع مجالا للشك أن المتنبي شخصية ثرية حافلة تشير في الذهن إلى معاني القوة والحكمة والكبرياء وتتفق تماما مع دلالة السياق المعبرة عن هذه المعاني، حيث استفاد الشاعر من حالة الترحال التي عاشها المتنبي وصوّر مشاهد من حياته لا سيما موقفه مع كافور الاخشيدي بصورة واضحة صادمة مرصعة بقوة الكلمات المنتقاة بدقة، في بداية القصيدة:

ثمة عبدٌ مخصي

يديرُ كؤوسَ الضياعِ للمريدين

وخمرَ اللهو ..

حيث إن المتنبي لا يعيش حياة ذهبية مملؤة بالعطاء كما كان عند سيف الدولة رمز المجد والكرم في عصره، بل يعيش عند كافور الاخشيدي رمز المماطلة الذي يكيل له الوعود دون أن يعطيه الولاية التي كان يطمح لها والتي كان قد وعده بها الأخير، ولا يسمح له بالخروج ومغادرة البلاط وكأنه مكبل عنده بقيود غير مرئية، ولنا أن نتخيل شاعرية المتنبي مرتهنه ضمن ممتلكات كافور الشخصية مثل آلة تكيل له المديح قصيدا.

وفي إشارة الشاعر الى (يديرُ كؤوس الضياع) للدلالة على التسويق والمماطلة وترسيخ بؤس الشاعر، والمتمعن في النص ( عبدٌ مخصي ) يلمح تناصا مع قول المتنبي ( من علم الأسود المخصي مكرمة .. أقومه البيض أم اباؤه الصيد). والمفارقة التي اهتبلها الشاعر في ان (عبد مخصي) هو نفسه الملك كافور وأن (المريدين) هم الجالسون في بلاطه الباحثين عن السلطة والمال والقوة ومنهم (المتنبي) نفسه، فكأنت ثنائية ال(عبد، ملك) تعني يمنيهم ولا يعطيهم ويسكرهم ويدنيهم. وفي قول شاعرنا على لسان المتنبي:

وأعبرُ أنا قنطرة تُهز خلفي

وأمامي طقسٌ مشحونٌ بالضبابِ

وأشباح سقوطي حافر على حافر

أنا والمجهولُ كفرسي رهان

كل الى الزحام

فإذا التفت أحدُنا

لا يلتفت إلا الى أمام ..

وعى شاعرنا معنى مفردة القنطرة وعيا لغويا، فضلا عن المعنى المعنوي البعيد لأنها تعني (جسر متقوس مبني فوق النهر يعبر عليه)(5) لما لها من دلاله على القلق والفصل بين مرحلتين، صوبين، حياتين، لأنها تمثل مفترق طرق في حياة المتنبي، بالإضافة الى أنه استخدم العديد من الصور مثل( القنطرة، طقس مشحون بالضباب، أنا والمجهول كفرسي رهان) ليشير الى مستقبل مجهول بعد خروجه من بلاط كافور الاخشيدي مطاردا بعد أن ذمه في قصيدة مشهورة (عيد بأية حال عدت يا عيد..). وبهذه الصور واللغة المكثفة كان شاعرنا يقوي عنصر الترميز للمتلقي الواعي، ونرى أن الشخصية المتقنع بها (المتنبي) لبّت لغة الشاعر في تصوير كبرياء العظماء، كما في قوله:

فاذا التفت أحدنا

لا يلتفت إلا إلى أمام

في إشارة واضحة إلى كبرياء واعتزاز المتنبي بنفسه ويوضح هذه الدالة في مقطع آخر:

لتبقى الكلماتُ متأهبة

على شفرةِ سيف

قبل أفولِ شمسِ الدم

يشير الشاعر الى أن (المتنبي) شاعر القوة حيث اتخذها فلسفة ـ أي القوة ـ في كل ناحية من نواحي حياته وقوافيه، حتى قبل أن يتخذها (نيتشه) فيلسوف القوة الأشهر، وظل المتنبي عبر حياته الشخصية الحافلة بمشاهد القلق وبكل اشتغالاته الشعرية ينزح عن الضعف والرخاوة ويذمهما، وكلماته وصوره الشعرية كلها عنفوان وصدام وكِبر وسيوف ومعمعة ودم، أنه شاعر القوة الاعظم. وفي قوله:

لا أسيرُ إلى التافه والمخفي

أنا المتنبي ..

( وأن شئت يا طرقي فكوني

أذى أو نجاة أو هلاكا)

أنه التداخل ولتقنع في (أنا المتنبي) حيث وفق شاعرنا باستدعاء بيت شعري مشهور للمتنبي يلائم الغرض الذي يرمي اليه فكأنه جزء من قصيدة الشاعر المعاصرة ولا سيما أن التراث الادبي الشعري خصوصا جزء من الكيان الادبي للشاعر، لتترسخ تلك المشاهد المبهرة المتداخلة أزاهيرا من كلمات تشي بالكثير.  وفي المقطع الاخير:

سيدتي

كُفي عن الاسئلة

وسأكف عن الصمت !

فالنهار الآن في بلادي

كالليل فقط لتأمل الجذلان

وذكراي ستحرث أرض القمر

يلوح لنا صوت الشاعر الخاص ونشعر بتغير نبرته بوضوح من خلال استخدام المتضادات في الخطاب الشعري حيث اضفى على صوته مسحة من الغموض والإبهام ف (سيدتي) من تكون في عصر المتنبي؟ أم هي في عصر شاعرنا. وطبعا أرض القمر مكان ينسجم والمجد الذي يريده حيث القمر لا يخرج ويبهر بالنهار والشاعر (المتنبي) لم يتعود السير في النهارات المشرقة الصافية كون (الخيل والليل والبيداء تعرقني والسيف والرمح والقرطاس والقلم) وهذه الإشارات والتنويهات تحسب للشاعر الحديث كاتفاقات عرف كيف يقتصها ودلالات تشير الى كثير من محطات صبى المتني، وهنا يرمز الشاعر (المتنبي أو يونس علي) فلقد اتحدا في بوتقة واحدة وقناع مبهر بحيث لم يعد الفرق بينهما هنا مميزا، وربما ينوه الشاعر الى حادث قديم ( ادعاء النبوة) لكن المتنبي سيغسله بأبيات الشعر ويتلذذ بقصائد تفوقت على القصيد المتعارف عليه، قصائد( ستحرث أرض القمر) وتزرع اسمه ساطعا منيرا .

أنا المدنسُ بالماضي

سأغسله بنشوةٍ مجنونة

مجبولة من عرقِ التنبؤ المخفي

وختاما نتحسس الاستعانة بتقنية القناع من بداية القصيدة حتى نهايتها، فقد شكل الشاعر القناع وفق رغبته دون الوقوع تحت تأثير أو ضغط خصوصية وقوة شخصية المتقنع به (المتنبي)  وفي رأيي ان الشاعر الذي ينظم قصيدة القناع مطلع ومثقف بالضرورة فهو يطوف ويتجول في التراث والتاريخ والاساطير للبحث عن شخصية أو موقف يحمل رؤاه، وأن هذه القصيدة قد تجاوزت عصرين عصر الشاعر وعصر الشخصية المستعادة المستدعاة.

 

القصيدة/ رؤيا من رؤى المتنبي(6)

ثمة عبدٌ مخصي

يديرُ كؤوسَ الضياع للمريدين

وخمرَ اللهو ..

واعبرُ أنا قنطرة تُهز خلقي

وأمامي طقسٌ مشحونٌ بالضباب

واشباحُ سقوطي حافر على حافر

أنا والمجهولُ كفرسي رهان

كل إلى الزحام

فإذا التفت أحدُنا

لا يلتفتُ إلا إلى أمام ..

ساعةٌ أحدّد وقتها في دمي

أصحو فيها أتبختر

أستلُ شعرة مِن عجينِ الذكريات..

ولتبقى الكلماتُ متأهبة

على شفرةِ سيف

قبل أفولِ شمسِ الدمْ ..

ترنُ الساعةُ

وأصحو من صحوٍ مُخدر

لا أسيرُ الى التافهِ والمخفي

أنا المتنبي ..

(وأن شئتِ يا طرقي فكوني

أذى أو نجاة أو هلاكا)

أنا المدنسُ بالماضي

سأغسله بنشوةٍ مجنونة

مجبولة من عرقِ التنبؤ المخفي..

كم سيفٌ ضاع بعجيج الغُبار

وسيف الدولةِ سيف لا غُبار

سيدتي..

كُفي عن الأسئلة

وسأكفُ عن الصمت!

النهارُ الآن في بلادي

كالليل فقط لتأمل الجذلان

وذكرياي ستحرثُ أرضَ القمر

وهو تبغٌ والنجومُ خمر العاشقِ الولهان

 

الهوامش :

1ـ المنجد في اللغة والادب والعلوم ـ لويس معلوف ـ بيروت ـ المطبعة الكاثوليكية ـ ط 19

2ـ القناع وتقنياته في الشعر العربي ـ اعداد وسن علي كاصد ـ مايو 2016

3ـ قصيدة القناع في الشعر العربي ـ اطروحة ضياء الثامري ـ ص 11، 12

4ـ القناع وقناع الامام الحسين عليه السلام في شعر عبد الوهاب البياتي ـ بهرام اماني جاكلي ـ رقية سفري 1390 هـ

5ـ معجم المعاني الجامع حرف قاف

6ـ مغارة الكنز وسر الاربعين قصيدة ـ مجموعة شعرية ـ يونس علي الحمداني ـ كتاب بلا حدود ـ 2015

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!