أين الماء يا درعة؟ قراءة في نص “حفريات” من كتاب “كيمياء”

بفلم : عبد الهادي موادي – المغرب 

نستلجيا المكان، تلك الصرخات الجوفاء، وذلك الحنين لماض لن يعود، أشجار تنوء وأثار قرون رحلوا من هنا، جبال تتربص بالماضي، وسماء جامدة، عصافير دون أجنحة ودواب في هلع مستمر، ثمة جمال كان هنا، الصبر حقيقة مطلقة، الغربة التشتت وفقدان الهوية، الماء يسوق الناس إلى المقصلة، والرياح حطمت أثار الفزاعة، ذات يوم مرت قاطرة الصحراء تحمل نفائس الذهب، فعادت تحمل أشلاء القوم.

الشقاء، الألم، البكاء والتعاسة، كلها مشاعر ورثناها عن الأرض، مصيرنا على شفى حفر وفرحتنا يعسرها الماء. لم يبقى في الساعة الرملية سوى حبات توشك أن تسقط كلما زاد الزمن من سرعته وكلما ارتفع صهيل الرياح.

تلك المشاعر المحزنة وذلك الغم والكدر هو ما أراد الشاعر أحمد حافظ أن يبرزه في كتابه الشعري “كيمياء”[1] ذلك الذي صدر عن مطبعة المعارف الجديدة بالرباط سنة 1996، غير أنني لست بصدد قراءة الكتاب في مجمله بقدر ما سأتحمل أوزار البحث في نص أثارني وحز في نفسي الواقع الذي يطرح، وهو ذلك الموسوم بــ “حفريات”: ودلالته تحيلنا على علم الآثار والتنقيب على الأشياء النفيسة التي خلفتها الحضارة الإنسانية في الزمن القديم، بهدف استكشافها وإعادتها إلى الوجود عن طريق البعث والإحياء، بعدما طالها النسيان والإهمال؛وبالعودة إلى النص كما يدل عليه عنوانه فهو تجربة شعرية تعبر عن دعوة الشاعر إلى نفض الغبار عن منطقة وادي درعة، تلك المنطقة التي تنتمي إليها مدينة زاكوره والقرى التابعة لها، فهي تنتمي إلى المناطق الصحراوية من المغرب،وتتميز بغناها الفكري والثقافيذلك الذي حولها إلى كنز دفين، فهذه المنطقة طالها النسيان بحيث هجرها السكان ونسيها الباحثون وغطاهاالتراب وأهملها المؤرخون، لذلك استحضر الشاعر علامات دالة على الموت والجمود من خلال استعماله لهذه الألفاظ والعبارات:(أضرحة،صمت أعوام من الإجهاض، سحنة الأموات، المذبوح، منسوف، العطش، قربة جوفاء، الندوب، يلوك اليابس، سراب، منفي، قبر خراب، غارت…)، على الرغم مما تتميز به المنطقة من خصب فكري وغنى ثقافي وجمال طبيعي، فهي رمز لتاريخ المغرب ولحضارته الشامخة كما تدل عليها الألفاظ التالية: (النهر، الحناء، الشيح، الزعتر، الواد …).

إن الشاعر لا يخفي دعوته إلى النبش في ذاكرة الصحراء(تشكا،درعه،الأطلس،زاكوره…)لإعادة كتابة تاريخها الإنساني والحضاري الحافل بالمجد، من أجل تكسير جدار الصمت الذي خيم على تاريخ تلك المنطقة المليئة بالإسرار التي تعبرعنها جبال الأطلس الشامخة والتي تتحدى الزمان بكبريائها و جبروتها.

أشار(عبد الوهاب بن منصور)[2]في كتابه ” حفريات صحراوية “ كما جاء في بعض المواقع الالكترونية التي شغلها هم المنطقة:إن منطقة درعه بالأخص الوادي كان إلى وقت قريب يعيش حياة صخب، وكانت تعيش فيه الحيوانات من شتى الأنواع، وعلى رأسها الغزلان التي أضحت اسما لـ(المحاميد الغزلان)[3]، كما يروي تاريخ المغرب:إن وادي درعه كان ممر للقوافل التجارية التي كانت تمر من إفريقيا في اتجاه السودان، أو في اتجاه بعض النقط الموصلة إلى أوربا؛ وإلى جانب ذلك نجد المنطقة تزخر بموروث ثقافي من قصبات ومن لباس تقليدي وزوايا، على رأسها الزاوية الناصرية التي تعتبر من بين المعالم المشهورة هناك وهي تنتسب إلى المولى(محمد بن الناصر الدرعي)[4].

وكتب (جورج سليمان)[5] واصفا وادي درعه في جريانه قائلا: ” تنتشر مياهه الصافية والغزيرة على مسافة تتراوح مابين 300 كلم مربع حسب مجرى الوادي، وليس من النادر رؤية تلك القصور المبنية على مقربة منه والتي يهددها منسوب المياه لعدة أيام”. فهذه بعض الأشياء التي يريد أن يبحث عنها الشاعر،لأنه يلح على ضرورة البحث عن ماء درعه، الذي هو في الحقيقة بحث عن ينبوع حياة المنطقة وبحث عن سر من أسرار وجودها وكينونتها، واستمرارية وجودها الحضاري والتاريخي، فالماء رمز للخصب وللحياة، ومن ثم جاء تساؤل الشاعر عن الماء دليلا عن رغبته في إعادة الاعتبار للمكان بإخراجه من حالة القحط والجفاف الثقافيوالحضاري إلى حالة الخصوبة الحضارية، التي تعتبر مسؤولية البحث عنها موكولة إلى المؤرخين والباحثين ووزارة الثقافة والسياحة، وكل من يهمه أمر تلك المنطقة من المغرب العتيد، وربماهاته الدعوة هي نفسها التي دعا إليها شيخ السلفيّين المغاربة المرحوم “المختار السوسي”من أجل نفض الغبار عن التراث المغربي الذي كساه وطاله النسيان.

…ثلاث نقط في أول السطر هكذا بدأ نص الشاعر، المسكوت عنه ومشهد المشي في زمن لا حدود له بين أضرحة المغرب المرعب أو ما يسمى في أبجديات الفكر الكولونيالي بـ(المغرب غير النافع).

…وَأَمْشِي بَيْن أَضْرِحَة

لأَعْبُرَصَمْتَ أَعْوَامٍ مِنَ الإجْهَاضِ مِلحِيَّهْ

وَحِيدا يَقرع الأَجْراسَ في تيْهَ المنى ظلي

وَفَوْقَ الرَّأْسِ كُوفِيَّهْ

دَلِيلِي سَحْنَةُ الأمْوَاتِ عَافَتْهَا شَرَايِينِي وَقَلْبِي سَيّدُ

المَيْدَانِ يَا لَلْوَهْمِ فِي عَيْنِي مَتَى يَا غَابَة الَّصفْصَافِ

تَنْهَدُّ الطَّوَاوِيسُ؟

وَيُمْسِي المُلْتَقَى نَهْراً مِنَ الأنْهَار مُمْتَدّاً إِلَى كُثْبَانِ آهَاتٍ

الذات الشاعرة تسعى لإعادة الحياة إلى أضرحة، لذلك ستتحول من زمن الصمت إلى زمن الإجهاض، بل زمن العبور إلى الملتقى ذلك الذي تطمح إليه، غابة صفصاف، طواويس وأنهار تروي كتبان آهات القوم، والدليل في المكان سحنة، هكذا وصفت الذات ما رأته عندما استعصى عليها تمييز مكونات المكان.

غليان الطبيعة، الفجع، أصوات مذبوحة، أشجار وحيوانات تنوء، صخور نائمة، الأرض تلوك الأرض، ونذوب تتالاها نذوب، العصافير لا تخلّف عصافير، الأبقار لم يعد لها وجود، الرمال تزحف على كلّ شيء، الزواحف تظل في جحورها شتاء وفي الصيف تتربص بين القبور، السماء بدل أن تسقط مطرا تسقط الأحجار الثمينة، فيخرج الأموات ليلا ونهارا زرافات يحفرون الجبال والكدى والحقول والأراضي البور بحثا عن أحجار الشهب، البرد الشديد يسبب الارتجاف الكثير، والحرارة المفرطة تقتل كل حبة قمح تطفّ على سطح الأرض، لكن القلب الصافي واليد القانعة يوصلان الأصحاب إلى جنة الصبر، كذلك الكد والعمل بالنية كلها أشياء تعشعش هناك. يقول الشاعر:

جَنَيْتِ الثَّمْرَ حِرْبَاءً

سَكَبْتِ الجَمْرَ فِي الأحْشَاءِ

حُشْتِ الصَّمْتَ وَ النِّسْيَانَ

لَمْلَمْتِ الوَدَى الأكْبَرْ    

فَكَيْفَ يَجُوعُ أَطْفَال ٌ                                    

وَكَيْفَ تَضِيعُ أَجْيَالٌ                                     

وَكَيْفَ تُزَيَّفُ الأفْكَارْ؟                                    

وَكَيْفَ النَّخْلُ يَا صَحْرَاءُ فِي العَرْصَاتِ

كَالأجْدَاثِ  مَنْخُورَهْ؟   

وَكَيْفَوَكَيْفَ؟مَنْ يَدْرِي لِمَاذَا النَّهْرُ مُرْتَدٌّ                  

يَلُوكُ الصَّمْتَ بَيْنَ الشَّطّ وَ الشَّطّ؟

رياح الشرق أضحت (تجني، تسكب، تلملم، تحش) لأن مشروع الشاعر هو بث الحياة في المكونات التي تتراء أمامه، لذلك أعطى لنفسه كل الصلاحيات للسموّ بالمنطقة، إذ في استعارته تلك الأفعال ونسبتها إلى الرياح محاولة بعث المكان من جديد، كما أنه وقوف على الحالة التي خلفتها تلك الرياح العقيمة التي توسوس للأشياء والأمكنة.

النخل كالأجداث، الأفكار تزيف، الأجيال ضاعت، والأطفال جاعت،لم يبقى سوى الصمت محدق مرتد على جنبات الوادي، ونهر سرابي وذلك الأطلس المنسوف المليء بالأسرار. يقول الشاعر:

كَأَنَّالنَّهْرَ يَا “دَرْعَهْ”

                          سَرَابٌ                    

قِرْبَةٌ جَوْفَاءْ

وهذا الأطلس المنسوفُ

في قاموسه الأسرارُ  

بين تشبيهات واستعارات ومجازات ورمزيات ومفارقات ونداءات واستفهامات…يحاول الشاعر أن يبث في نصه قلقه الكائن وقلقه الممكن، وأحاسيسه مستعينا بروح الواقع والخيال معبرا عن المحيط الذي ينتمي إليه في الأصل. يقول:

فَقولِي يَا رِمَالَ الوَاحَةِ العَطْشَى         

لِمَاذَا النَّهْرُ مِنْ زَمَنٍ                  

يَلُوكُ الصَّمْتَ بَيْنَ الشَّطّ وَالشَّطّ؟ 

خَذَلْتِ شَرَارَةَ الأحْلاَمِ                   

خُنْتِ الله،يَا تَيهَ الّذي أَقْعَى               

إِلَى أَيْقُونَةِ الوُكَنَاتِ مَخْصِيّاً

وَهَذَا النَّخْلُ مَنْفِيٌّ وَلاَ يَدْرِي بِأَّنَّ المَاءَ فِي الإعْصَارِ                      

أَيْنَالمَاءُ يَا “دَرْعَهْ” ؟                      

بين الدخول والخروج، سجن الماء لا يزال يردد أين المزيد، والأمهات تغسلن ملابس أولادهن بدموع حارقة. الحلم ليلا والصباح خذلان الحلم، أقوام كانوا هنا فجرفهم منسوب المياه إلى الضفة الأخرى فلم يجدوا أنفسهم، فقط، باقات أحاسيس وعلائق المكان الأول مثل: الانشطار، التشظي، التكسر علائق ظلت تطاردهم من مكان لآخر.

في النهاية فهذا النص هو صرخة إنسانية حزينة تعلن فزع الشاعر اللهيف في تصوير أحاسيسه وخوفه على مستقبل الصحراء، وبحث في جمالياتها وكينونتها، لذلك تبدو ثقافة الشاعر حاضرة وواضحة، فهو يستعين بما يعرفه من أحداث الزمان عندما يصور الواقع الذي كانت عليه منطقة “وادي درعة”، ليضرب مثلا لتقلب الأيام وفواجع الدهر، من خلال رصده للحالة التي أمست عليها جهة درعة تافيلالت، خاصة المناطق المحيطة بمدينة زاكوره، إذ راهن على الرمزيات التاريخية، التي تتطلب العودة إلى الماضي في تشكيل الصورة الشعرية، بتطويعها وإسقاطها على الحاضر وشحنها بتلويناته النفسية لتظل صرخته صامدة وطافية تنتظر الماء.

[1]– أحمد محمد حافظ، كيمياء، مطبعة المعارف الجديدة-الرباط 1996.

[2]– ‘عبد الوهاب بن منصور’ مِؤرخ سابق للمملكة المغربية كتب حول واد درعه في كتابه ‘حفريات صحراوية’.

[3]– واحة المحاميدالغزلان، بلدة صغيرة في جنوب المغرب، تابعة لإقليمزاكوره إداريا، في جهة درعة تافيلالت.

[4]– الشيخ سيدي محمد بن ناصر: يعتبرمن كبار علماء المغرب ملما بالفقه والتفسير والحديث والأصول واللغة والسير والكلام والتصوف والحساب والفرائض.

[5]– جنرال فرنسي،أتى إلى المغرب في فترة الاستعمار.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!