إن القائل بجدوى تـثـــقــيف العقــل الآدمي وإعطائه رخصة الجَوَلانِ في أمصار التجارب والبقاع ، كالقائل بلزومية التــنفس لدى الكـــــــائن الحي ، فتوقف هذه العملية ــ شـهـيـقـِـها وزفــــيـرها ــ يعني أن هذا الـــفـَـاقِــدَ لهذه الآليـــة قد قضى ، وغياهب اللـّحد له أجْدى وأســـتـــر !
كذاك عينــُه ما قد يحدث للذي استحل لنفسه أن تنهل من معين المعرفة المِعطاء ، مُؤْثرا حياة ( الرّهبان ) في صومعة ، معتزلاً الأنام من شُحّ في سريرته ، أو من بذرة تكبّر باتت تترعرع في حنايا قريحته .
إنهم عصرئذ كُــثُر أولائك الذين لا يُعيرون أيَّ اكتراث لمن لم يُسعفهمُ الدهر بلَــفْــتَـــةٍ ، كي يتّخذوا من جبال الثقافة بيوتا تـقِــيهم هجير اللائمة بالنّهار ، وحِبالاً تشدّ وَثاقهم إذا جَنّ الليل !! ، فترى البعض من المثقفين ــ سامحتهمُ الحروفُ والجُمل ــ ، تراهم ينظرون إليهم بعيْنٍ بها زرابي مبثوثة من الازدراء ، عَيْنٍ كما لو أنها خُلقت لتضع الموازين القِسْطَ ، لكن في غير موضعها ، فراحت دون إعمالٍ للضمير الناقد تُصعر الخدّ لهم في غير ما خجل ولا حياء ، عِوض أن تقف وقفةَ تأمل وفحص ، وكذا تشريح لهذا العالم القائمِ بذاته !!؟ .
فلطالما كانت هذه الكائنات غير المثقفة مصدر إلهامِ ومَحجَّ قَصْدِ العديد من العالِمين بفن السباحة في محيطات العقل البشري ، وعلى عرض بِحار التجارب الإنسانية ذاتِ الطَّـوْل ،، جاسوا خلال ديار ذوي الأمـــــيّة والجهالة ، فما سئموا يوما أو تشاءموا ، بل أمعنوا النظر ، وتأكدوا كم هو مُثقل للمُتون ومُضْنٍ للنفوس هذا الـــدّاء ! ، وكم هي بليغة تلك الحكـــمة القائلة أن ” الإنـسان عــــــدوُّ ما يجهل ” !! .
إنهم الظانون بالواقع مصدرِ إلهامهم الظن الحسن ، وكثيرٌ منهم القصّاصون والرّوائيون ، والمُحللون لكل شاردةِ فِكرٍ أوْ واردة ، لكل ظاهرة تقع قُبالة أعينهم المُقارنة بين الأمس واليوم ، بين الحاضر ولاحق الحِقب الزمانية ، فكان انشغالهم بهذا كُلِّــه ينـمّ عن أنهم لم يصنعوا كَيْدَ ساحر ، ولم يُقْدِمُوا على فِعال كتلك ، مُحاباةً لأحد أو جرياً وراء تكسّب أو مدح ، بل كان ذلك منهم ترجمة حَرفية لما وَقَرَ في قلوبهم واستيقنت جدواه أنفُسهم ، فهم المؤمنون بالإنسان كإنسان ، وقد تذكـــر ــ أخي القاريء ــ مقولة الحكيم الآخذ في اعتباره جميع أصناف البشر حين فاجأنا بقوله : ” خذوا الحكمة من أفواه المجانين ” ،، لا سبيل إلى الــــــتعجب هنا ، فهو دليل على أن هذا المثقف البصير ، لم يشأ لنفسه أن تحُط من قيمة هذا المجنون أو ذاك ، أو اعــــتباره على هامش الواقع ثــقـافـيـا !!!.
هؤلاء ، هم الذين يبكي فــقدهم الحِبر وتلطم الخدّ َ يوم هَجرهم الأوراقُ والصحف ، لكن مما يُزهد المرء في أرض الثقافة أن يرى بعين الملاحظة تلك الوقفة المُشار إليها بأصبع الاتهام ، وقفة التعالي لدى البعض من مُثــقــفــينا ، الذين كانت بهم خَصاصة في يوم مّا إلى شحن عقولهم مما كانوا يتلقونه من ذات العلوم ، وهم يرتادون دورَ التحصيل العلمي ، بدءا بالمرحلة التحضيرية وانتهاء بشهادة جامعية مُعترفٍ بها كمُستوىً دراسي ، لا كمستوىً ثقافي !! ، لأنه لا معيار للثقافة ولا مقياس للعقل البشري ، وكثير منا مخطئ حين الإيمان بالشهادة بأنها الحاصرة لشتّى الطاقات المعلوماتية لدى الشخص ، بالأخص في زمـــن كالذي نعيش ! ، مُتناسين الذين أثبتوا تفوّقهم في الرهان الثقافي ، فما كان ذلك منهم إلا دليل ما بعده نظير على عُقم الشهادة عن الإنجاب ــ إلاّ مَنْ رَحِمَ ربّـُك ــ ومــــن هـــؤلاء ، الأستاذ الـــقويّ الشـــكيمة ، عـــباس محمود العقاد الذي كاد يُقيم الدنيا ويُقعدها بشهادة إبتدائية في ( التلغراف ) لا غير !! أصبح الكثير يهابُ جانبه ، والبعضُ يشهد يمينا على أنه ــ العقاد ــ واحدٌ من عباقرة العصر والسلسلةُ قد تأخذ في الطّــــول إذا ما جــــنحنا إلى عَدِّ أشبــــاه هذا الفذ ، ليس في سَاحِ الأدب فحسب ، بل في العلوم التجريبية ذاتِها أيضا !
فهـُـــُم لا يُمـــكن وضعـُـــهم تحت الســـقف على أنــــهم شـــواذ حـــتّى لا يُـــقاس عليهم ، فالـــدنيا كما قِيل ، تتكون من الأمــــوات أكثر مما تتـــكون من الأحياء !! والثــقافة إنتاج وتَركة إنسانية لا تقف في وجهها الحدود الإقليمية ، وما من شيء أثــقــل في ميزان الدنيا إلاّ هي !! .
لكن بعض المنتسبين لهذا الاسم لا يُحاولون في أغلب الأحيان الاعتراف بكل هذا ، وكأنهم هم وحدهم الذين هجرت الحروف والتجاربُ إلى رحابهم فانقضّوا عليها ! .
لذا كان حريا بكل ذي شهادة في الحقل الدراسي أن يُـــثبت جدارة مواقـــفه مع جِـــداريات الشخصية الثقافية المُجتـــمعية الـــتي يــحيا في كَــنَــفِـــها ، مثلما كان منه ذلك في الأشهر المعلومات من التحصيل العلمي ، يوم أعاد تجديد عجلات قلمه ودواليب فِكره ، يوم جنى بعضا مما زرع وأبقى على البقية لمواقفه وحسن بلائه ، المواقفِ المتخللة لأوقات دراسته وإجازاته ، إلى أن يحوز الحُسنى في دار الإنسانية ، فنِعْم المواقف مواقـــفــه ، ونِعم عــقــبى الدّار يومـــها داره .
فالتطاول الثقافي والبُخل المعرفي عاملان يُبعدان الإنسان عن أن يؤدي ما عليه في وسطه الاجتماعي ذي التطور المستمر ، وإذن فالتقويم الفكري وتزكيةُ المواقفِ بمواقفَ أكثر جدية ، لَهُمَا الدافع لمن كان له قلب ، حتّى يقوم بدوره التثقيفي من مُشاركة في محو الأمية ، إلى تفانٍ في إعطاء الإنسان قيمته النقية من كل شائبة ، فذَوَبَانُ المثقف في شرايين مجتمعه ، والتصاقه بأحشاء آمال شعبه و آلامه ، فاتصالـُه بأترابه من المثقــفين وغيرهم ، يعني في أبسط الدّلالات ، أن قطار الركب الثقافي بإنسانية مواقفه ماضٍ في صِراطه ، والكل فيه ينشد الصدارة ، متّكيءٌ على أريكة الطمأنينة ، تحت أيْـكِ الثقافة الدائم الاخضرار