المصور. بقلم. سمر الزعبي. الأردنّ

لصحيفة آفاق حرة

 

سألني الأستاذ محمد الصمادي ذاتَ مرّة: لمَ لا تكتبين عن المصوّر؟ شرَدتُ قليلًا، ولا أعرفُ ماذا أجبته بالضّبطِ وقتَها، وأظنّ أنّه لم يكُنْ بجعبتي أيّ شيءٍ عن المصوّر. رغمَ أنّ التصويرَ هوايةٌ قديمة- لم أطوّرها، لكنها تقفز أحيانًا عندَ غيمةٍ هاربة، أو في تجمّع لم نرَ به الأصدقاءَ منذ فترة، وشغفٌ في زمنٍ آخرَ قد ذابَ بينهما، لكنّ المصوّرَ عاشَ معي منذُ تلك اللحظةِ حتى جاءَ هذا النّص، وقد كتبته أثناءَ تدريبات ورشة محترف الكتابة، بإشراف الأستاذة سميحة خريس:
أدوار

 

المصور

 

بقلم. سمر الزعبي . الأردنّ

في زقاقٍ أهملتْه المدينة، يتمشّى ببطء، وقد عَكَفَ شعره الطّويل -نسبيًّا- تحت طاقيّة تقي بشرته حنطيّة اللّون وعينَيه الضّيّقتَين السّوداوَين أشعّةَ الشّمس، وشدَّ حزامَه حول بطنٍ ضامرٍ يعلوه قميصٌ أبيضُ مكويٌّ بعناية.
يختبئ خلفَ البراميل ويصوّر ثلاثةً قد حشروا واحداً وأطاحوا به ركلاً، أو فتًى ينبش حاوية النّفايات بحثاً عمّا يؤكَل، وربّما فتحتِ الـ(كاميرا) عينَها على متسوِّلةٍ صغيرة، بوجه مغبرّ، وشعر منكوش وملابس متَّسخة، وومضتْ.
لا يستهويه مكانٌ محدَّد. ينطلقُ -عندما يكتفي من التّصوير في الزّقاق- إلى وسط البلد، أو إلى متنزّهٍ حرجيّ. قد يستوقفه أيّ مشهد فور عودته من أمسيّة ثقافيّة أو مؤتمَر شارك فيه، كغصنَي شجرةٍ ضخمة التقيا عندَ رأسيهما والقمرُ مستقِرٌّ بينهما، فتلتقي العينان، وترمش إحداهما.
يتنقّل بين أحواض التّحميض، ويُعِدُّ الصّوَر، لترسم -حين تستقيم في الأُطُر- مشوارَها بنفْسها، فتتململ، تهزّ زوايا الأُطُر وتشقُّ نفسَها على امتداد أضلاعه، ثمّ تستحيلُ كائناتٍ تتنفّس، تمارس حياتَها في غيابه كيفما اتّفق، وحينما يعود مساءً تَهْرَعُ إلى الأُطُر.
ذات يومٍ اعتصموا، ورفعوا شعاراتٍ تنادي بالحرّيّة، ولم يختبئوا -عندما دخل المصوِّر بيتَه- كالمعتاد، فدهمه المشهد فورَ دخوله، وارتاب. ظنّ أنّه أخطأ العنوان، لكنّه سرعان ما تنبّه إلى المفتاح الذي ما زال في قبضته، وأدرك.
تجوّل بينهم، يعرفهم جيّدًا ويعرفونَه، ويؤدّون له تحيّة تقدير. كيف له أن يشكّ في نفسه أو في ما تراه عيناه! هذا ليس حلمًا، يطرق الحدّاد الحديدَ أمامَه، ويصمّ أذنيه. يلملم عامل النظافة ما يلقونه من قذارة. ينشر النّجّار قطع أثاث البيت، ويعيد صناعتها رفقةَ المنجِّد. وتقوم الممرِّضة بعملها! هل يشكّك في ما يسمعه الآن؟ «ألف، بااء، تااء.. سين، صاد، لغة الضّاد»، ما زالت المعلِّمة التي صوّرها الأسبوعَ الفائت تلقّن الدّرسَ نفْسه، ما زالت ترتدي الزّيّ نفْسه، وهذا اللّوح نفسه، والأدراج نفْسها!
الولد الذي ضُرِب في ذلك المساء يلعب الآنَ «الشّدّة» مع مَن آذوه. يجلس الحاكم على عرشه، ويتحلّق الوزراء حوله، و.. و..، كلٌّ في شأن.
ظهرت الرّاقصة والمطربُ خلْفَها؛ تركوا أشغالهم، وتجمّعوا، حتّى إنّ المصوِّر نسي أمرَه من الصّدمة، وجلس أرضًا جانب الأريكة.
اجتاحوا يوميّاته؛ صغيرَها، وكبيرَها، توسّل إليهم أن يتركوه، فلم يعد في مقدوره أن يمارسَ نشاطاتِه، أقلّها أن يردَّ على مكالَمةٍ هاتفيّة بلا إزعاج؛ حدادة، نجارة، سباكة، شعارات ومظاهَرات، خطب جمعة، شعر على منصّة. صار يخشى أن يصوِّر الجديد، ولم يندم على التقاط صورةٍ كما ندم على التقاط تلك التي يظهر فيها متصارعون، إذ غادروا الحلبة، وباتوا عصابةً يفرضون قوّتهم على الموجودين.
حاول أن يدبّر خطّة، صوَّر بحرًا هائجًا، وعلّق الصّورةَ على الجدار، ثمّ غادر مسرِعًا على أمل أن يعود ويجده قد أغرقهم جميعًا، لكنّه فوجئ برؤيته مستقِرًّا، وكانوا يسبَحون، ويتشمّسون، ويلطّخون -حين يخرجون من الماء- الأرضيّة بالرّمل، فيتّسخُ الأثاثُ كلُّه.
فكّر: محالٌ أن تقاوِمَ مدينةً وحدك، لا بدَّ من نظام.
صوَّر رجال شرطة، مَحكَمةً وبنكاً، ثمّ عماراتٍ بلا سكّان، مزارعَ وغابات.
صارت المتسوِّلة الصّغيرة تمدّ يدها له كلّما دخل البيت، وتنتظره عند الباب، فيعطيها بضعة قروش، ويسأل نفسه مستغرِبًا: «أين تذهب بها؟ لماذا لا ترتدي الملابسَ الجديدة التي اشتريتها لها؟ لماذا تهرب من المدرسة؟ لمَ لا تتعلّم من أحدهم مهنةً لتقتات منها؟». اعتادَ على رؤيتها كما اعتاد على رؤيتهم جميعًا، يمرّ بهم، يتفقّدُ احتياجاتِهم، حتّى صاروا عالـَمَه الخفيّ.
ولـمّا توفّاه الله حنّطوه، وألبَسوه زِيّ إله الشّمس «رع حوراختي»، ثمّ أجلسوه على عرش الحاكم، وجعلوا مِرفقَه على مُتّكَأ، وذراعَه الأخرى ممدودةً تستقرُّ على ركبته المثنيّة برجْلٍ منصوبةٍ على هيئة رقم ثمانية. وكان خلفه حائطٌ مرصوص بصور مؤطَّرة، إلى يمينه الفتياتُ بزيٍّ فرعونيّ، وإلى شماله رجالٌ يحملون السّيف، وبالقرب منه فتية يرفعون مراوحَ ورَقيّة، حوله الأماكن والمناظر الطّبيعيّة، وأمامه المخلوقات التي صوّرها تسجد له.
اعترض خطيب الجمعة على حرمة ما يرتكبون، فذبحوه قربانًا للآلهة. سجدوا، ارتفعوا، ثمّ سجدوا مرةً أخرى، وكانت المتسوّلة الصّغيرة خلفَهم، تلتقط بواسطة الـ«كاميرا»خاصّته صورةً شاملةً للمشهد، فازت بالمركز الأوّل في مسابقةٍ لفنّ التّصوير.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!