ثنائية الوجع والأمل في قصيدة ”  يا زارع الآهات ” للشاعرة التونسية نعيمة المديوني

 هاشم خليل عبدالغني – الأردن

     نعيمة المديوني شاعرة تونسية أثرت الفعل الثقافي في الساحة التونسية ، مـن خلال ترأسها لصالون هـمسات أدبـية ، الـذي يُعنى من خـلال أمسياته الشهريـة ، بالشعر بمختلف مدارسة واتـجاهاته .صدر للشاعرة المديوني ديوان ” تراتيل في محراب الذاكرة ” كما صدرت لها مجموعة خواطر بعنوان.. “صرخات أنثى عاشقة..بين الحنين والأنين “.

     للشاعرة المديوني قصيدة وجدانية بعنوان ” يا زارع الآهات ” تضج بالشجـن والوجدان ، رقـــة وعـذوبـة ، تصور فيها مشاعـرها المتباينة تجاه الحبيب، مشاعر القسوة والأمل .. سنقف مع القصيدة وقفة تأملية عميقة لاستجلاء  ابرز معانيها .

   تبدأ الشاعرة قصيدتها بمعاتبة الحبيب ولومه ،عتاباً راقياً وهادئاً مهذباً  عتاباً مؤثراً بكــلمات قــوية، تـمس القـلـب والـروح ، ألـيس العتاب دليل على الحب كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي :

على قدر الهوى يأتي العتاب …. ومن عاتبتُ يَفديه الصِّحاب
أمـا العـتاب فـبالأحبة أخلــَقُ …..والــحـبُّ يـصـلـحُ بـالـعـتاب

 تصف الشاعرة الحبيب بالقسوة ، وأن هذه القسوة أشعلت الأحزان نـارا هـائجة في حياتـها ، وتدل عــلى حجــم المعاناة والخذلان الذي نالته من الحبيب ، تعبيراً عن الألم والوجـع بسبب شـــدة الحـب مما جعــلها تشعر بمشاعــر الجفــاء والحيرة . تخاطب الشاعرة الحبيب قائلة .. لــقد بذرت فــي ارض وجــداني وأحـلامي بهـجرك وقسوتك الآهــات والوجــع والشكوى .. وأنت الأمل والنور الذي يتراءى من بعيد ، يونس الروح ويدفئها ويبعث فيها الاطمئنان .

 وتتابع الشاعــرة .. لأننـي لم أفـهم سر قسـوتك ولــم أدرك كنهـها أتــعرف معنى هــذا ؟ إن كنت تريد أن تـــعرف ، فأبحـث هنا وهناك اسأل من حولك ،ستجـد مشاعري تجيب عليك ! لا تتسرع تمهل، لا تكسر كـل الجـسور بيننا ،ولا تنسى انـه كـان بيننا حـباً جـميلاً ، ولا تدع الغيم يحجب ضوء حبنا  إن حبك رمى بأحلامي وآمالي في بحر التيه ، واستنزف وبغزارة أجمل أيام عمري.
    فمـن أعطـانا قـلبه.. لا يستحق مـنا أن نغــرس فيه سهماً ؟ ! أو نترك له لحـظة تشقيـه ،أنت الأمـان فـي وقـت الخوف ، وأنت الحب الصـادق فـي زمـن الجحـود ،وأنـت الحـب فـي زمن ” لا حب فيه ” وأنت الحبـيب الذي يعشق،الضوء الذي ينير الدنيا لحظة الإشراق .

يا زارع الآهات في عمري

يا نجما أساوره مسبحة روحي

اسأل الأطيار عنّي

تريّث

لا تدس على الجمر

طمس المآقي

تنزف الغيمات لهيب عمري

    تتساءل الشاعــرة بصيغة استنكارية ، بحـرقة وحيرة (أبعد كل هذا الحب والصدق في المشاعر والصدق في القول والفعل ..أقابل بالجحود والنكران ؟ !! ) أين ذهب الحنين والشوق ؟ الذي أجتره وكرره قلبي خفقاً وانفعالا.. مرات ومرات !! .

  وتستمر الشاعرة في تساؤلاتها ، أين المواساة والتعاطف اللحظي مــع جـراحي العـميقة وأوجـاعي الـمؤلمة ؟ مـمن كنت احسبهم مـن المقربين لي ، مـواساة تمدني بالتجــلد وحسن الاحتمال ،  وتتساءل .. هــل لــدي قــوة لاحتمال مــا ألــم بي مـن قـهر وظلم ؟ ثم تضيف الشاعــرة مستسـلمة ، طــالبة مــن أوجـاعها أن تعانقها وتحتضنها برفق وعناية خاصة .

أين منّي حنيني

يجترّ خفقي ؟

أين لغو الأنين

يهديني صبرا على صبري ؟

أين صخور العمر تتوسّد قهري ؟

ضمّيني يا أوجاعي

وتشير الشاعرة إلى أن الخيانة من أسوأ الأمور، التي يتعرض لها المرء في حياته، خاصة إذا قام من تحب بالتخلي عنك بطريقة غير مبررة ، حينها يشعر المرء بالـضياع فـي متاهـات الحياة ، وخـيبة الأمــل والضعــف، وبـصوت داخـلي يشوه حياتـه، فيبدأ البحث عن شفاء لكل هذه الجروح، فلا يجد أمامه إلا الرحيل .

     تـقول الشاعــرة : أمام هـذه القطيـعة أصبح الابتعـاد والهروب مطلبي وغايتي ، لأنني سئمـت ممـا ترتبه وتدبره لي الأيام والأقدار وسئمت أيضاً مـن كثرة البكاء والصياح ، لعـل في الرحــيل مواساة وتخفيف من صوت التوجع ،من آلامي وجراح عواطفي وممن أساء لــي قـولا وفعـلاً … وكما قــال الروائي الـجزائري الكبير ” واسيني الأعـرج “: ( ربما الابتعـادُ قاتلٌ لكنهُ أفضـلُ مــن قربٍ بلا تقدير. خذ بيدي إلى مدينةٍ لا يزورها الفراقُ.شاق هو الفــراق الأبـدي ومع ذلك علينا أن نتدرب على النسيان لنستطيع العيش ) .

أبغي الرّحيل

مللت انتظار أقداري

مللت العويل

ضمّدي جراحا رداؤها أنين

  لم تستلم الشاعرة لضباب التشاؤم والإحباط ، بل رأت من خلاله أمــلاً( حبيباً ) يطـل مـن بعيد ، مــن وراء قضبان سجـن الـماضي ،وسلما تصعد بــواسطته إلى قمة التفاؤل بـقوة ، أملا ينتظر خفية ،التزامــاً وعــهداً يتقــيد به بأمــانة ، فاتـحــاً قــلبه لينبت الرجــاء والأمل والحب الذي انتظره كثيراً.

هذا البدر من بعيد

من وراء القضبان

يختلس موعدا

يبسط كفّيه

ينبت أملا

    تلتمس الشاعرة من ذاتها أن لا تضطرب وترتعش وأن لا ترتعد فرائصها إن تغيرت الأحوال ومرت عليها ظروف صعبة فـالحياة لا تستقيم إلا لأصـحـاب الإرادة القــوية العـامرة بالثقة بالنفس والإيمان .

لا ترتجفي يا أيامي

إن تبعثرت حروفي وتراقصت

أيامي

إن اختفت بين الكثبان

     تتابع الشاعـرة حديثها مع أيامهـا المشبعة بالأمل  فتقول : لا تعذلي شوقي وحرقتي ، إن ضللت وألقيت بنفسي بين أحضان مـن تعـلق قلبي بـه وأحببته حـباً شـديداً .ولا تـلــوميني إن كنـت شـارد الفــكر تائهاً فــي حــدائق سـمـرة  شفتــيه…. وتستكـمل الشـاعرة مناجاتها قائـلـة للأيــام .. خـذي بعــيداً عـني أوجـاعـك وآهاتـك .. حيث لا أكون إنا  .. ولا تكون أحزاني .

لا تلومي لهفتي

إن تاهت بين أحضان العشّاق

إن سبحت في جنان اللّمى

سرّحي آهاتك بعيدا..

بعيدا..

حيث لا أنا ولا أحزاني

       في المقطع الأخير من القصيدة تتحدث الشاعرة عن الإشباع العاطفي و حاجة الكائن البشري للحب ، خوفاً من الوحدة ولحاجته العميقة للاحتماء بالآخر ( الحبيب ) فالحب كما يؤكد علماء النفس ( حـاجة نـفسية تحتاج إلى إشبـاع بـاستمرار، فـالإنـسان بطبيعته مخلوق اجتماعي ) .

تقول الشاعرة :عطري يا أماني…. بالطيب والفرح والسعادة أيامي القادمة ، فقـد جـاء الحبيب ليشبع جوع مشاعري العاطفية ، بالحب والرعاية و الحنان ، فـقد قـيل أن (الجوع للحب كالجوع للخبز ).        تَضيف الشاعرة أن الحبيب ( الأمل ) ،جعل أيامها مليئة بالرضا والثقة ،فـهو ملهم لكل مـا هــو جمـيل فــي حياتها ، فالأيام الجميلة تقترب أكـثر وأكـثر، فترسم أجـمل لوحـة لبداية حية تتنفس،” طيبة وعـطاء وإيثارا وتفهـماً واهتماما ” فالبدايات الجميلة يحميها حسن الظن ،ويحرسها النقاء .

عبّقيها بالزّغاريد

قد جاء نجمي

يروي جوع قلبي

يراقص سحر الأيّام

يرسم عذب البدايات

يتبين لنا مما تقدم أن النص يسير وفق فضاءين هـما .. أولاً: الشكوى من  قسوة الحبيب وجحوده ، و وثانياً: الأمل بحثاً عن رجل يغرس بـذور المحبة ، بحثا عن محب عطوف يشع بلسماً وحناناً .

يغلب على النص طابع السهولة والعمق والشفافية الشعرية ،نص فيه رقة وإحساس ودلالات وجدانية عميقة …. كل الود والمــحبة للشاعرة الإنسانة نعيمه مديوني  ، مـع تمنياتي لها بدوام الكـتابة الجميلة المتميزة .

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!