قلوبنا ذواكرنا – بقلم جمعة الفاخري

 

 

قلوبُنَا_ذواكرُنَا

بقلم – جمعة الفاخري. ليبيا/أجدابيا

 

دونَ وعيٍ منا تقودُنا قلوبُنا إلى الأماكنِ التي نحبُّها، فتَخبرُ لنا كلَّ الدُّروبِ إليها، تعبرُ بنا كلَّ الطُّرقِ المؤدِّيةِ نحوَها، ذواكرُ القلوبِ أقوى من ذواكرِ العقولِ، فالقلوبُ لا تتزمهرُ، ولا تنسى ولا تهرمُ ولا تشيخُ..
كم مرَّةٍ قادتني خُطا قلبي إلى بيتيَ القديمِ؛ أمضي إليهِ أتبعُهُ دونَ إدراكٍ مني، فلا أنتبهُ إلَّا وقلبي يقفُ بي أمامَهُ، إذ تعانقني التفاصيلُ الحميمةُ، وتتراءَى لي الصُّورُ الآسِرَةُ، والوُجُوهُ المستبشرَةُ، والجيرَانُ الطيِّبونَ، وتندلعُ الذكرياتُ وتستيقظُ القصصُ والقصائدُ، وتتثاءَبُ إلى روحي رائحةُ المكانِ.. وتتواثبُ أشذاءُ الزمانِ، تعانقني النَّوافِذُ المكتظََّةُ بي، والأبوابُ المُعتادَةُ على نقرَاتِ يدي..
أصواتُ الصِّغَارِ وضحكُهم وغناؤُهم وشِجَارُهم، هرجُهم ومرجُهم، أصواتُ ارتطامِ كرتهم بالجدرانِ وأبوابِ السيَّاراتِ.. مشاكساتهم وشيطاناتهم، عراكهم البريء الذي ينتهي بعدَ محضِ دمعةٍ كذوبٍ، بعدَ محضِ شتمةٍ بريئةٍ، إثرَ تربيتةٍ مُرْضِيَةٍ، أو كلمةٍ مُهدِّئةٍ، أو قرصَةِ أذنٍ لخصمٍ حبيبٍ حميمٍ.

يحفُّني صَوتُ آذانِ مسجدِنا الأثيرِ.. أتذكَّرُ الخطواتِ المباركةَ التي كانت تسحبُني إليهِ، والأدعيةَ الطَّيِّبةَ التي تصحبُني نحوَهُ.. القرآنَ الذي يعلو داخلَهُ.. تسابيحَ المُصلِّينَ وأذكارَهم وصلواتِهم..
ابتساماتِهم، وتسليماتِهم الحميمةَ عقبَ كلِّ صلاةٍ، أسئلتَهم ومزاحَهمُ البريءَ..
وحينَ أفرغُ من عناقي لكلِّ هذا التاريخِ.. لكلِّ هذهِ الحياةِ الزاخرة بالحياةٍ، للحيِّ والأحياءِ، بكلِّ هذا الحُبِّ الباذخِ..
يُنبِّهُني قلبي إلى انتهاءِ الزيارةِ المنعشةِ، المدهشةِ.. المحييةِ للقلبِ والرُّوحِ، الموقظةِ للطُّفولةِ، المُحفِّزَةِ على الحيَاةِ بالحيَاةِ،
إنه فقط أرادَ أن يسعدَني بهم، بهذا الخطإِ الحميمِ العظيمِ، بهذا الخطإِ المقصودِ جدًّا، والمَحمودِ جدًّا، أرادَ ألَّا يجعلَني أنسى، ألَّا أنسى أيَّ شيءٍ كانَ من تكويني وإن كانَ ذكرُهُ يكويني..
القلوبُ تبصرُ أبدًا مساقطَها، تتحسَّسُ دومًا بأعينٍ شديدةِ البَصَرِ، صاحيةِ البصيرةِ مرمى عشقِها، ومراتعَ صباها، ومرابعَ صبواتِها وصهَلاتها وصولاتها وجولاتها، وغمراتها ومغامراتها..
إنها تتوضأ بماء الذكرى، تغتسلُ بمواشيرِ العشقِ العفويِّ الآسرِ، تتشذَّى بعبقِ الأمسِ، وتتعطَّرُ بعبيرِ الجمالِ، وأريجِ الفطرةِ..
إنهُ جلالُ الأمكنةِ، وجمالُ التِّحنانِ المستديمِ إليها، وسطوةُ العشقِ المؤبَّدِ لها،
قداسةُ الأمكنةِ تسطو بحسبِ حُبِّ القلوبِ لها.. إنها تحملُ قداسةَ محبَّةٍ لا تتقادمُ بالمغادرَةِ الوهمِ، ولا تنتهي بالبعادِ الكذوبِ، ولا تنطفئُ بالغيابِ المؤقتِ؛ فالحنينُ إليها نارٌ لا تهدأُ ولا تنطفئُ، والاشتياقُ لها نهرٌ لا يتوقَّفُ.. والانسياقُ نحوَها بحرٌ لا يسكنُ.. والتِّحنانُ لها أغنيةٌ لا تصمتُ.. والخطواتُ تجاهَها لا تَملُّ الانطلاقَ مادامت ذواكرُ القلوبِ نوابضَ بحبِّها، هواتفَ بعشقِها، تجرُّ الأرواحَ نحوَها كلَّ نبضةٍ.. كلَّ خفقةٍ.. كلَّ طرفةِ عينٍ ..
ما كانَ للقلوبِ رخصُ قيادةٍ لا تنتهي صلاحيَّتُها، ورحلاتُ قيادةٍ لا تتوقَّفُ.. !

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!