إن تداعي الأنفس المثقفة ” أدبيا ” واستزادتها من قُـوتِ القصة ،
من رحيق الرواية ، من نبيذ القصيدة ، بعد ذلك المقالة … ، كان أوجد
تساؤلاتٍ عِدةً تخص الكتابة كحرف ، كلفظ ، وكجُمل عاملةٍ على إجلاء
شخصية المبدع وما يرمي إليه ، وقد ذهبت آراء في حجم سنابل البيادر، كل
حسب أفقها الفكري إلى محاولة إيجاد حل لذاك الإشكال الآخذ في حُسبانه
حالة الكتابة ، ماهيتها ، لمن هي موجهة ؟ وما الدافع إليها ؟ ، ليتجه
ركب الأقلام بعدئذ صوب القراءة كنوعية ، فانتقاء الموائم مما يقع عليه
النظر ، وموقف كما الأخير مُشار إليه في فهارس الانتقاء والفرز الواعي
للكتاب ، دون الوقوع في فخ العناوين الجذابة التـــــي كثيرا ما تكون
ليست ذات شمولية لما تجشّمت حَمْـلَـهُ الألفاظ كأوعية للمعاني ،
والعبارات كمرايا عاكسةٍ ما تفوّهت به شَـفَـتَا قـلَمِ هذا الأديب أو
ذاك !!
لكنا نقف حيارى قد لا نصادف مُرشدا لنا حيال من مضغ الكتاب وابتلعه ،
فلم يستسغ طعم مادة غذائه كما لو أنه مصابٌ ب ” نوبة زُكام ! ” ،
فبات ليله وأضحى نهاره يشكو قـلة الاستيعاب ، مُـسـلطا جام غضبه على
المبدع تارة وطَوْرًا آخرَ تراه غيرَ ذي رضاً عن نفسه ، من كونه سَحب من
رصيد عمره لحظات لم يُحسن إنفاقها أوان القراءة التي أقدم عليها !!
إن آفة قلة الاستيعاب أو عدمه مكتوبة على وصفة داء عدم التركيز ، وهي
بديهة أولى لا مراء فيها ولا لَفَّ ولستُ مُـريدا إعارة جناح من
الاكتراث لذي الظاهرة بوُلوج علم النفس ، الذكاء .. الإدراك .. الذاكرة ،
وما إلى ذلك مما أفاض فيه مُحبو المُجازفة في دهاليز الذات البشرية ،
وفوّضوا أمر المُبتلى به إلى ظواهر وأمور قد لا يجدها قلمي في عُجالته
هذه مناصا كمثابة ، أو مُلتحدا كغاية عُدّتْ في عين البعض من قبيل القول
الفصل ، عدا أنه يُحاول معالجتها ( بعقاقير ) هي في نظر السواد الأعظم
من قراء الأثر الأدبي ــــ حتى النقاد منهم ـــ ليست ذات جاذبية ، ولا
هي بالمعدودة ضمن العِلل التي يتألم من وخزها الملموسُ بعلة عدم الفهم
، المشتكي !!
هذه الأخيرة تتمثل في كيفية القراءة الأدبية للأثر الأدبي ، سواء
تعلق الأمر بقصيد شعري أو مقالة أو قصة ذاتِ منعطفاتٍ من الحالات النفسية
.. حزن ، جهشة بكاء ، صراخ … حالاتٌ تساوي مجتمعة إنسانا ، دَماً ،
لحْماً ، و روحا ،، إنسانا كاملا إن كان الأمر متعلقا بقصيد شعري ، و قد
تُساوي الناس كافةً في قصة أو رواية على اختلاف مستوياتهم وتباين حناجرهم
حين النطق بالألفاظ ، منهم الذي يبدو في صوته الوَجل ، وفيهم من
يتـلعثم بحُكم عقدة لسانٍ أو حالة خوف شديدة أو فرَح ،، حالاتٌ
جَميعُها لا تُبديها بعضُ الأصوات ولا تُـفصح عنها حين القراءة الأدبية
، فلنجنح إذن إلى الكيفية ، كيفيةِ إلقاء ( قراءة ) قصيد شعري مثلاً ،
وها نحن أولاء ـ فَرَضاً ـ وسط نَـفـرٍ من مُتذوقي الكلمة الشاعرية
المُعبرة ، فماذا نحن فاعلون ؟؟ ، هل نأتي على قراءة القصيد قراءةَ
عرضٍ إخباريّ ؟ ، أم تُرانا نأخذ في الحُسبان هذا الآتي ؟؟ :
أولا: القراءة لا تأتي بأُكلها دون الاستعداد النفسي الكامل ، سواء كان
مُريد استمالة الآخرين هو الشاعر ذاتُه ، أو كان شخصٌ غيرُه يحل محلّه
، وإن حدث أن قرأ القصيدَ مجردُ هَاوٍ ، فهو المطالب حينها بتجميع كافة
الطاقة لديه ، حتى يُعايش النصّ الذي هو حياةٌ بربيعها ، بخريفها ،
تبعا لنفسية المبدع المودعة فيها ، يُعايشه مُعايشةً غيرَ منقوصة ،
حتى لا يُسيء إلى الشاعر بعدم استطاعته تشريح نفسيته على طاولة الإلقاء
الجيدِ ، لأن هذا يسيء بدوره إلى المصداقية الشّعرية .
ثانيا : إعطاء اللفظ حقه من النطق ، مع الأخذ في الاعتبار عملية
المخافتة والمجاهرة باللفظ تَمَـشِّـياًّ مع تَموّجَاتِ الحالة النفسية
للمبدع ، وهذا له أكثرُ من مفعول في أرض الأذن الموسيقية والوجدان الصاغي
.
ثالثا :اللفظ صوت قد يُعبّر عن الحزن حين التلفظ ، لذا كان لزاما على
القاريء أن يرسم على قـسَمَاتِه علاماتِ انقباضٍ دالّةٍ على الحال ، لأن
هذا منصوص عليه في التعامل الحقِّ مع الجوّ المُكـفهرّ أو المُعتدل
للقصيد ، على استطالة مدة الإلقاء .
رابعا :ضرورة احترام علامات الوقْف ، من فاصلةٍ ، فاستفهام ، فتعجّبٍ ،
وما إليها ، علما أن الأسلوب الإنشائي المُترجم بتلويحات اليديْن وحركة
الرأس فَحَيَوِيَّةِ الجسم ذي الحُجّة الدامغة على ما يحدث داخل النفس ،
له أثره على الرائي المُتلــقي .
خامسا : على القاريء المتأكد من مراقبة الغير لما يقول ألا يُغادر
أجواء القصيد لمُجرد إحرازه باقة من التصفيقات المُشجعة ، وإن توقّف
فلا يُستبعَدُ أن يتغيّر صوته ، خاصة حين التلفظ بما حَوَتِ القصيدةُ من
جَيِّدِ اللــفظ المُعبر ، ونفيسِ البُعد المُراد .
هذا ما ارتأيتُه ـ أخي القاريء ـ حين إلقاء الأثر الأدبي على مسمع الغير
، والشيء عينُه وجب أن يُتّبع حين الخلوة المفردة إلى قراءة أثر أدبي
ماّ ، فالقراءة الأدبية بهذه المثابة لا شك واجدةٌ العقل والأحشاءَ معا
توّاقةً إلى المزيد من سِحرها الذي هو من سِحر اللغة ذاتِـه ، وبالتالي
فمساهمةُ القراءة الأدبية في نسبة الفهم ، تُعدّ معتبرةً وذاتَ فائدة ،
لذا كان على عشاق قراءة الأثر الفني الأدبي أن يُحسنوا كيفية القراءة ،
أن يقرأوا بتأنٍّ ، فكم من شخصٍ نطق فاكتُشف أنه شاعر أو قاصٌ أو هاوٍ
، وكم من ذي دراية في حقل الأدب أبدى فلم يُوفّق ، لكونه لم يُعْطِ
الصَّوْتَ أدنى قيمة ، فكان أن حلّ الوبالُ على اللفظ ، وكان المأتمُ في
بيت الأذن الموسيقية ، الأذن المُتلهفة لالتقاط أحلى وأمتع نوتاتِ
النغم ، لتوصله إلى دخيلتها ، على أنه المصداقيةُ لدى هذا أو ذاك في
عالم الشعر أو المقالة أو القصة… .