نجيب كيَّالي. مقالة. خوف في عيد الأم

ئآفاق حرة.

 

خوف في عيد الأم
مقالة
نجيب كيالي

بمناسبة عيد الأم أطبع قبلةً على جميع أيادي الأمهات، وأقول لهن: كلَّ عام وأنتن بخير. أُمّ.. أُمّ يا سلام، كلمة فيها عشٌّ لعصافير الحنان، فيها ربيعٌ يفتح ذراعيه.
ولكنْ.. مع فرحي بالمناسبة أنا خائف يا عزيزاتي الأمهات، أو خائفٌ جداً، ففي أكثر بقاع العالم، ولا سيما في أوربا وأمريكا تفوح روائح ثقافةٍ معادية للأسرة، كأنَّ هناك مقصَّاً خفياً يريد التخلصَ من هذا العش الدافئ! كأنَّ ما يجري للطبيعة من تعريةٍ ظالمة لأشجارها يجري مثيلُه للإنسان في المجال الاجتماعي، فَيُراد تعريتُه من أمه، وأبيه، وزوجته، وأطفاله!
يرى علماءُ النفس أنَّ أعظم مشكلة للكائن البشري تكمن في أنه كائنٌ وحيد مرتجف في قرارة وجوده، ووحدته تلك دفعته للاحتماء بالمقدَّس وغيرِه، ولا خلاصَ له بغير الحب، وفي رأيي أنَّ الأسرة المبنية بِلَبِنَاتِ المحبة، هي سفينةُ نجاته، لكنها باتت مهددة!
في البناء الذي أسكنه في إحدى الدول الغربية خمسَ عشرة شقة، أربعٌ منها فيها أُسَر صغيرة، وإحدى عشرة شقة أخرى يعيش فيها رجل منفرد أو امرأة منفردة! قلبي يتوجع من أجلهم، ويسألني: لماذا؟
أبوابُ الشُّقق وأنا أصعد الدرج أراها حزينةً من الخارج، كأنها مطلية بالدمع، من خلف الأبواب قلما تسمع صوت طفل أو طفلة، بينما يتوفر بكثرة عواءُ الكلاب بكل الأنغام التي نعرفها، والتي لا تخطر على بال! بعضها ضخم جداً، وله زمجرة كالأسود! تلك الكلاب أخذت مكانَ الأطفال، وصارت بديلاً للزوج أو الزوجة. أسرة (كلبو بشرية)، كما وصفها أحدهم ساخراً، وأنا لستُ مع السخرية بل مع الرثاء والعطف، والمحبة، ومحاولةِ فَهْم الظاهرة!
أما سببُ خوفي الذي أشرتُ إليه في البداية فهو أن الموجة وصلت إلينا، وبدأت تتغلغل في الأجيال الشابة، بعضُ هؤلاء من الشابات والشبان صار يرى الأسرة دَقَّة قديمة، وحالةً كلاسيكية يعلوها الصدأ..!
وهناك من أخذ يربي الكلاب.. أي قريباً ستختفي من القاموس: كلمات: ماما، بابا، أخي، عمي، عمتي!
الأم التي كانت تَخيط جراحنا لم يعد لها لزوم!
الأب الذي كان يحملنا على ظهره، ويأكل الطعامَ البائت، بينما يدفع نحونا بالطعام الطازج لم يعد له لزوم.
كلمة: روح يا ابني الله يرضى عليك.. الله ينوِّر طريقك لم يعد لها لزوم!
لندع موضوع العجز المادي عن الزواج، هذا شأن آخر.
لندع بعضَ المشاكل التي تظهر أحياناً في حياة الأُسَر، ونكفَّ عن تضخيمها.
نحن هنا أمام عمود من أعمدة الوجود تتجه نحوه المعاول! وخطرُ الانقراض الذي بدأ يدقُّ ناقوسه في هذا البلد أو ذاك نتيجةَ قلةِ الإنجاب جعلَ بعضَ المفكرين في الغرب ينتبهون للقضية، لكنَّ أصواتَهم خافتة وسط موجات الإعلام الصاخبة!
عزيزاتي الأمهات
أعزائي الرجال
نحن مع التقدم، نصفق له، ونبوسُ يده ورجله، ونتعطَّر بروائح شاربه عندما يكون في خدمة الإنسان، لكنَّ المسألة هنا ليست من صاحب السعادة التقدم- كما أرى- لكنها من صاحب العظمة والسطوة والشيطنة عصر الاستهلاك، ومن خلفه قطار العولمة المجنون(١).
تتطاير من حولي أسئلة في الهواء تبحث عن أجوبتها:
إبعادُ الإنسان عن الأسرة والزواج ألن يجعله زَبوناً في سوق البدائل الجنسية كالدمى العجيبة الغريبة، والأدوات الأخرى التي تدر الأرباح على صانعيها الأكارم؟
إبعادُ الإنسان عن الأسرة والزواج ألن يجعله مستهلكاً للأغذية المصنَّعة بدلَ أن يصنع طعامه في بيته؟
إبعادُه عن الأسرة ألن يجعله مندفعاً للبحث عن عزاء مما يضاعف الإقبالَ على بيع السجائر والخمور والمخدرات التي تجري من تحتها ساقيةُ ذهب نحو خزائن المال؟
وأخيراً.. أليس في إبعاده عن الأسرة تضييقٌ لوجوده من (أنا) تتفاعل مع (نحن) إلى (أنا) مدفونة في أناها! أليس في ذلك اجتثاثٌ له وإنباتٌ لإنسانٍ آخرَ في موضعه، يكون هشاً ضعيفاً يتبع بوصلةَ الأسواق والبضائع، وله جِلدٌ لا من خلايا البشر، وإنما من الإعلانات التجارية؟
لنفكر في هذه الأسئلة، وفي غيرها ونحن في بيوتنا التي لم تعد بيوتاً، وإنما نوعاً من المنافي الصغيرة.
*

(١) منذ مطلع الألفية الثالثة هناك تركيز كبير جداً في وسائل الإعلام على كل ما هو جسد أو يتصل به مع تغييب شبه كامل لكل مايتصل بالعقل والروح والعواطف. إنه طغيان التفاهة وانتصارها كما قال آلان دونو في كتابه: نظام التفاهة.

٢٠٢٣/٣/٢٢

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!