كتب نجيب كيالي. خاطرة. معتَقَلاتٌ مرئيَّةٌ، وغيرُ مرئيَّة

لآفاق حرة

معتَقَلاتٌ مرئيَّةٌ، وغيرُ مرئيَّة
خاطرة
بقلم. نجيب كيَّالي

اعتاد الأستاذ فَهمي أن يفكّر في أمور الدنيا أكثرَ من غيره، ربما لأنه درسَ الفلسفة، واشتغل بتدريسها، إنه يُسنِد ذراعه إلى حافة الطاولة أو حافة النافذة ويفكّر، يضع يدَهُ على خده ويفكّر، لكنه بعد تقليبُ الصفحات، لا يجد سوى شيءٍ قاتم يزحفُ نحو حياته وحياةِ الناس! وللتعبير عن ذلك يلجأ إلى السخرية، فيرسمُ لكل قبيح صورةً كاريكاتورية!
اليوم صباحاً حين صحت زوجتُه من النوم رأته مُشهِراً سبابتَهُ، وبها يَعُدُّ في الهواء أشياءَ غيرَ مرئيةً!
– ماذا تفعل أيها الرجل الظريف؟!
أجابها بعد ابتسامةٍ موجزة:
– أَعُدُّ المُعتَقلاتِ المنظورةَ وغيرَ المنظورة التي تترصد بكِ، وبي، وبالخَلْق كافة، ولاسيما مَنْ يحيَوْن في بلاد العرب. العربان أعطتهم الدنيا بحبوحةً في هذه المسألة مع إكرامية وحبَّة مِسك!
ابتسمت الزوجة رافعةً حاجبيها وهي تقول:
– معقول! ترى في الهواء معتقلاتٍ وتقوم بعدّها ؟!
– معقول ونصف يا حَرَمَنا المصون. إنها كثيرة، وقد عددتُ حتى الآن واحداً وثمانين معتقلاً، قد يدخل الإنسانُ بعضَها، ويبقى مرعوباً من دخول بعضها الآخر. لن أذكرها لكِ جميعاً، وإنما سأكتفي بالقليل. خذي أمثلة:
* المُعتَقل السياسي، وفي بلادنا اليعربية السعيدة يجرجروننا إليه من أجل كلمة حق أو سؤالٍ صغير يرونه خطيراً أو لأننا لم نصفّق جيداً في عيد الجلوس. المهم تبتلع جدرانُ المعتقل عمراً بأكمله! وتجعل صاحبَهُ إن لم يمت يتوحَّمُ على الموت، كما تتوحَّمُ امرأةٌ حامل على حفنة من التوت أو حبَّاتِ الكرز!
* معتَقل الخوف من حرب ستنشب أو تتجدد، ونشوبُ الحروب في زمننا صار عند الزعماء- يا سلام سلِّم- أهونَ من إشعال سيجارة! الحرب بما فيها من ويلات ومجاعات ومهانة وتعتير، كما نراها الآن هنا وهناك نشعر بأنها عما قريب ستدقُّ أبوابنا! هذه الحرب إذا حدثت- لا سمح الله- بين دولتين نوويتين كالصين وأمريكا، ستجعل العالمَ كلَّه رأساً محلوقاً من الحياة أو شيئاً شبيها بالأماكن الأثرية!
* معتَقل الطائفية الدينية، وقد عاد مرفرفاً براياته في القرن الحادي والعشرين بعد أن تخلصت منه معظم الدول، لكنَّ أوطاناً إسلامية نجح في تحريك عقاربه فيها، وأوطاناً أخرى تخشى وصوله إليها. إنه أمر خطير يسعى لقولبة الإنسان في صورة معينة، وإنكارِ ما عداها، فتجدين الناس يتبادلون الصياح والتكفير، وحماماتِ الدم، ونوافيرَه!
* معتَقل الإعلام الذي يحاصرنا في كل مكان، وينط لنا كالسعدان من كل زاوية بعد أن جرى تهشيم الثقافة وتهميشها بشكل كامل عندنا، وبشكل نسبي في العديد من دول العالم، وتمت صناعةُ ذوقٍ عام يبحث عن التسلية والإبهار لا عن الفكر والحقيقة! لقد جوَّفونا من الداخل، فصرنا كبطيخةٍ فارغة، لم يبقَ فيها سوى قشرتها الخارجية! ثم امتدت أيدٍ خبيثة إلى البطيخة المجوَّفة، فملأتها بالولاء الأعمى أو شبه الأعمى لإحدى فِرَق كرة القدم أو لزعيم سياسي أو لمغنية تهرب الملائكةُ من صوتها أو لبرنامج يغري الناس بالهيستريا كبرنامج: (رامز مجنون رسمي) الذي يُقدَّم بعد الإفطار في شهر رمضان لتسهيل هضم الطعام!
هنا تساءلت الزوجة وقد جاءت بالشاي وصبَّته في كؤوس:
– ألم تنتهِ يا زوجي العزيز من أسماء معتَقلاتك؟! انظر، لقد صار الصباح أصفرَ الوجه من سماع الحديث عنها!
أخذ فهمي رشفةً من كأسه، وقال:
– قلبي يفور ويغلي يا حلوتي، ومحتاجٌ للفضفضة. سأتجاوز الآن عشرات المعتَقلات لأحدِّثك عن المعتَقل الأخير أو الحبة النهائية في عنقود المعتَقلات. إنه ذلك الصندوق الحجري المُكَلْثَم الرائع، القبر الذي سنصل إليه بعد حياةٍ عامرة بالرتابة والقشور، حياةٍ لا طعمَ لها كالخضار البلاستيكية! وبقدومنا سيحتفل أمير الديدان، فيتأهب فوق عرشه، ويأمر بعزف موسيقى عذبة، ثم يهتف:
– جاء طعامٌ دسم. هيَّا إلى الأكل يا شعبيَ الطيّب. تهمني صحتكم.
ابتسمت زوجة فهمي ابتسامةً صغيرة، نهضت، أخذت رأسَ زوجها، وضعتُه على صدرها، وفي مكانٍ ما أطلقَ عصفور أغنيةً حزينة!
*

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!