كتب نجيب كيالي. رصيف الشرود. خاطرة

لآفاق حرة

رصيفُ الشُّرود
خاطرة
نجيب كيَّالي

هناك رصيفٌ صغير مجاور لرأسي أُسمِّيه: رصيفَ الشرود. ربما خرجَ هذا الرصيف من الرأسِ نفسِه.
فوقَ الرصيف المذكور أتمشى
أسير غالباً دونَ غايةٍ محددة
أهربُ من حياةٍ موبوءةٍ بالمتاعب، ومتاعبُها لم تعد محتمَلة.
الأرصفةُ- كما نعرف- لا يتغير حجمها، لكنَّ رصيفي راح يكبر كلَّ يوم، ويستقبل ضيوفاً من الموتى والأحياء، أراهم يسيرون بجانبي أو يتحادثون معي!
من أهم القادمين إلى هناك رفيقةُ العمر التي فارقتَني باكراً إلى ربها. أراها تأتي فوق موجةٍ من نور، لا تتكلم، لا تبتسم كعادتها، لكنها- بعينيها المفعمتين بالحنان- تنظر نحوي، كأنما جاءت لتطمئنَّ عليّ. تمرُّ بسرعة، وتختفي، وبعد اختفائها تترك فوقَ الرصيف سحابةَ عطرٍ، كأنَّ رتلاً من الملائكة مرَّ من هناك!
مع وباء الكورونا الذي نشر الذعر، وحبسَنا في البيوت اتسع رصيفي أكثرَ، فأكثر، كأنه يُقدِّم لي تعويضاً عن الجلوس الطويل في المنزل، رأيتُ فوقه منذ يومين الشاعرَ امرأ القيس، يلاحقُ صاحبتَهُ عُنَيزة، ثمَّ سحبَها نحوه بعنف، ونال منها قبلة، وبعد ذهابها، قال بنبرةٍ نرجسية: لا تمتنعُ عليَّ امرأة. عُنَيرةُ وحتى نساءُ القرن الحادي والعشرين سأصل إليهن، وأخذ يُنشد:
(ويومَ دخلتُ الخِدرَ.. خِدرَ عنيزةٍ/ فقالت: لكَ الويلاتُ إنك مُرجِلي(١)
تقول، وقد مالَ الغَبيط(٢) بنا معاً/ عقرتَ بعيري يا امرأ القيسِ، فانزلِ)
بعد امرئ القيس ظهر الشاعر الفتى طرفةُ بنُ العبد، ومعه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر صاحبُ (الوجوديَّة)(٣)، كان سارتر يقول: كم أنتَ رائعٌ ومُتوقِّدٌ يا طرفة، بذور الوجوديَّة ظهرتْ لديك، وأنا طوَّرتُها. معايشتُك لحروب الجاهلية جعلَتْكَ تشعر بقصر الحياة، كما شعرتُ أنا بذلك مع الحرب العالمية الثانية، اندفع طرفةُ يتغنَّى بأبياته التي أوَّلها:
(ولولا ثلاثٌ هُنَّ من عيشةِ الفتى/ وحقِّكَ لم أحفِلْ متى قامَ عُوَّدي)
الثلاث التي شُغِفَ بها طرفة هي: الخمرةُ، والنساءُ، وإغاثةُ الضعيفِ الملهوف.
أمَّا اليوم فرأيتُ على الرصيف أعظمَ مشهد.. شيئاً مَهيباً بالغَ البهاء! عددٌ من أنبياءِ الديانات السماوية يسيرون بوقار، وتُظلِّلهم غمامة! كانوا يتحدثون بألم عمَّا فعلَهُ الأتباع بدياناتهم حيث تركوا لبابَها، وتشبثوا بالقشور ، صوتُ المحبة فيها كان عالياً، فجعلوه أخفتَ من خافت! ثم توقف الأنبياء فجأةً عن السير، كأنما زادَ لذعُ الحريق في قلوبهم، قالوا معاً وفي عيونهم غضبٌ عارم:
– أفظع ماقام به الأتباع ذلك الأحمر الجاري في العروق استباحوه باسمنا. اللهم إنا نبرأُ إليك.. نبرأ.. نبرأ، فهذا لا يرضينا.
طيورُ حمامٍ بيضٌ حطَّتْ بقربهم على الأرض، فالتقط كلٌّ منهم حمامةً، وهمسَ في أذنها شيئاً، فطارت الحماماتُ كأنها تحمل رسائلَ منهم إلى الناس، ثم انتشر نورٌ مُبهِر على الرصيف، واختفى المشهد برمَّته!
رصيفي هذا يسعدني، ويتعبني، يُدهشني، ويفكر بالنيابة عني! قد يختفي رأسي كلُّه ذاتَ يوم، ويبقى هذا الرصيفُ المجاور له، ولأنني متأكدٌ من حدوث ذلك: أكتبُ منذ الآن: أنا رجل ابتلعه رصيفه!
                   *

(١) مُرجِلي: ستجعلني أسقط على رجليّ.
(٢) الغَبيط: الهودج الذي يحمل المرأة في داخله، وكانوا يضعونه فوق الجِمال.
(١) الوجودية: مذهب فلسفي، يقوم على الحرية وعلى اغتنام الحياة قبل فواتها.
٢٠٢٠/٤/٢٤

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!