الفصل الثاني من رواية ( الغداء الأخير ) للروائي الأردني توفيق أحمد جاد

قليلة مضت بصعابها ومعاناتها، بعدها قُمت بالسفر إلى عمان من أجل إتمام دراستي، هناك، التقيت بأحد أصدقاء والدي.. دار بيننا حديث حول الشتات وما جرى للكثير من العائلات والقصص الّتي أصبحت تتكشّف وتطفو على السطح لتُبرِزُ الكثير من المعاناة والأحداث، فقال: بدأت الحياة تستقرّ في عمّان، والقدس لمْ تَغِبْ عنْ ذاكرتهم، ما زال أكثر الناس يعيش في المخيّمات.. بعضهم استطاع أنْ يعمل في مشاريع حكوميّة وأخرى خاصّة، كما التحق الطلبة في مدارس حكوميّة وخاصّة وأخرى تَتْبَعُ لوكالة الغوث الدّوليّة، وأضاف:

سنوات صعاب مرّتْ على صالح.. استطاع أنْ يُنهي خلالها دراسته في الجامعة الأردنية.. تمّ تعيينه في إحدى الوزارات، كان يطمح لحياة أفضل، فالتّعليم هو الطّريق لاستعادة فلسطين، والقضاء على الجهل، هو الطّريق إلى الحريّة والحياة الأفضل.

 

  كثيراً ما كان صالح يجلس صامتاً.. مفكراً بما مرَّ منْ أيامٍ صعبةٍ عليه وعلى عائلته.. تمرّ في ذاكرته سنوات طفولته ومعاناته، بعدما تُوفيت والدته وهو ما يزال طفلاً يافعاً، وكيف أنّ والده كان يتعب كثيراً في تربيته، ممّا اضطرّه أن يبدأ بمحاولة صنع بعض الأنواع البسيطة من الطّعام، علّه يقوم بمساعدة والده الذي كان يكدّ للحصول على دنانير قليلة.. يخرج في الصّباح الباكر إلى عمله، ليعود متأخراً في المساء، متعباً.. فيبدأ بصنع الطّعام لهما.. تفكيره يعود به إلى تلك الطّفولة البائسة، وحرمانه من أن يعيشها كأبناء جيله، حمل همّ والده المُتعَبْ، وهمّ أخيه الصغير.. لم يكن يجد مُتّسعاً من الوقت كي يلعب مع أولاد حارته، هذا العَجِيّ الذي كان يتعطّش لحنان الأمّ المفقود، والطفولة البائسة، إلى أن تزوّج والده من امرأة تكبُرُه بعدّة سنوات، كانت له أمّاً رؤوماً.. تُغدق عليه وعلى أخيه الصغير ماجد حبّاً وحناناً، إلاّ أنّ هذا الحبّ والحنان، بدأ يخبو ضوؤه حينما بدأ يظهر حملها.. رزقها الله بولد جميل الخِلقة، عاش ذلك الطّفل أربعة شهور، ثمّ توفّاه الله، حزنت كثيراً على ولدها.. بدأت تُحسّن من معاملتها لصالح.. لَمْ يَدُم هذا الرّبيع طويلاُ.. عادت لتحمل من جديد.. أنجبت طفلة كأنّها البدر عند اكتماله.. أحبّها صالح كثيراً.. يُحِسُّ بسعادة غامرة حين يلاعبها.. يحملها على كتفيه.. مُمْسكاً بها بيد، وماجد بيده الأخرى.. يخرجان  فيها بين الأزقّة في حارتهم.. تملأه السعادة والفرح. تنقلب البسمة التي ترتسم على شفتيه، حينما يبدأ بالتّفكيرِ بأخته الطفلة التي أضاعوها عام النّكسة، كما هي عادته عند تذكُّر أخته، يحتضن ماجد..  يقوم بالمسح على شعره.. يتيه في خياله.. يرسمها جوهرة تتلألأ.. يقترب لالتقاطها فلا يجدها..  يحاول إحياء آماله بعودتها كما يحاول كلّ فلسطيني أنْ يُبقي آماله بالعودة.

 

  اعتاد أن ينزل إلى أحد المطاعم القريبة من عمله في الوزارة لتناول طعام إفطاره،  يجلس على طاولته وحيداً.. يتناول طعامه بهدوء..  يرتشف كأساً من الشاي ثم يعود إلى عمله.

 

  لا يترك فرصة للحديث عن أحداث عام 1967م، وعن الشّتات الذي حلّ بأهله، ومَن يعرفهم مِن النّازحين.. يروي لعلي صديقه وزميله في العمل، والذي كان يستمع له بشغف وكأنّه يشاركه أحاسيسه وحزنه فيشدّ مِن عضده ويحاول أن يخفّف عنه هذه المعاناة، ويذكّره بوالده الذي جرح وهو يدافع عن القدس الشريف حتّى أصيب إصابة بليغة أدّت إلى بتْر يده اليمنى ليعود إلى بلدته في الكرك، والانتقال بعدها بسنوات قليلة إلى العاصمة عمّان، وما كانت تَذكُرُه له والدته عن يوم ولادته بالقدس، حيث أنّ جارهم أبو أحمد وزوجته أخذاها وقت ولادتها إلى المستشفى،  وذلك في يوم دوام زوجها في وحدته العسكريّة.. أنجبت طفلاً ذكراً.. كان والده لا يزال في عمله، ولا يعلم شيئاً عن ولادة زوجته، وعندما أخرجوها من المستشفى قام أبو أحمد بتسمية المولود بعلي.

 

  ذات يوم.. وبينما صالح يتناول طعام إفطاره، رفع بصره قليلاً.. رأى على الطّاولة المقابلة له، فتاة تسترقُ النّظر إليه على استحياء،  لفت نظره جمال ورِقّةَ هذه الفتاة بابتسامتها الخجولة المرتسمة على محَيّاها.. أطرق حياءً.. لكنّه ما لبث أن عاود النظر إليها.. لمْ يستطع تجاهل هذا الوجه الملائكي وتلك الابتسامة الرقيقة.. شدّته إليها.. أرسلَ لها ابتسامة لطيفة.. بادلته  الابتسامة.. وغضّت  منْ بصرها.. تابعت تناول طعام إفطارها ببطءٍ شديد ورِقّة ظاهرة، وكأنّها ترسم لوحة فنيّة لفتاة فاتنة، ليتمتّع ويسعد بمراقبتها.

 

  شرد صالح بخياله في جمالها الأخّاذ.. غاب في فكره حالماً بمن يرى.. استفاق منْ شروده.. وإذا بها تُغادر المطعم.. حاول اللّحاق بها، ولكنّه تسمّر في  مكانه.. يمنعه الحياء.. كانت تمشي الهوينى.. رآها تنطلق كسهم ينطلق مُسرعاً ليغرز في قلب قتيله.

 

  كمْ لامَ نفسه على شروده هذا،  وتساءل: “ما الذي جرى معي؟ لمَ لَمْ أتابعها، وأحاول أن أتعرّف إليها؟ إنّها ملاكٌ بهيئة إنسان.. يا إلهي ! كم أنا غبيّ !”.

 

عادَ إلى عمله في الوزارة، لا يعي ما يراه في طريقه،  جُلُّ تفكيره بمن سلبت منه الّلبّ وغابت. أنهى دوامه في ذلك اليوم وهو يشعر بانقباض شديد في صدره، هل هي تلك الحورية أم هو شيء آخر؟ اختلط عليه الأمر.. جلس للغداء مع أهله سارحاً شارداً، ممّا لفت نظر والديه له، فسألته زوجة أبيه- التي اعتاد أن يناديها أمّي-:

– ما بك يا ولدي؟

– صالح: ها.. ها..

– الأم: ما بك يا ولدي!

– صالح: لا شيء يا أمّي،  فقط أُحسُّ بأنّ صدري مقبوض…

– الأم: دعنا نأخذك إلى المستشفى إذن.

– صالح: لا يا أمّي،  فأنا بعد قليل سأكون بخير إنْ شاء الله.

– الأم: أستحلفك بالله يا ولدي، لا تزدْ في همّي.. يكفيني ما بي.. يكفيني السّكري.. يكفيني نصف السّاق المبتورة هذه…

– صالح: أمانة يا والدتي الحبيبة.. لا تُزعجي نفسك.. قطعوا لك نصف ساقك من السّكري، والآن نزيد همومك.. يكفينا ما أصابك أيّتها الحبيبة.

– الأم: إذن.. ابتسم قليلاً، وتناول طعام الغداء.

– صالح: حاضر يا روحي.. “بس لا تزعلي”.

 

  في صبيحة اليوم التّالي.. بزغت الشمس ترسل خيوط أشعّتها الدافئة بحنان ورقّة.. لتزيد من جمال ذاك الصباح.. ولتحسّن من مزاج صالح، لكنّ ذلك الانقباض لا يفارقه.. وبقي ضاغطاً على صدره.. كان إحساسه بالسّعادة ممزوجاً بالقلق.. زقزقة العصافير في الطريق توحي برسائل.. هل أرادت العصافير أنْ تُبْلِغُهُ بأمرٍ ما؟

 

  هو إحساس ليس إلّا.. في الشارع.. يتحرّك النّاسُ  منطلقين إلى أعمالهم.. يوم عاديّ بكلّ ما يحتويه.. الكلّ منطلق كعادته.. إلّا مِنْ  صالح.. فهو في هذا الصباح يحملُ متناقضاتٍ كثيرة في صدره.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!