الفصل الخامش عشر من رواية الغداء الأخير للروائي الأردني توفيق أحمد جاد

أصبح التراجع في حياة دار “أبو الأخوال” كبيراً، والأمور تزداد سوءاً.. حاول عايد جاهداً إلغاء اسم دار “أبو الأخوال“.. لم يستطع، وأخيراً.. استسلم للأمر الواقع وعلى مضض.. إنّه القهر وقلّة الحيلة.. نظر إلى حال والديه وإخوته.. وقف عاجزاً عن فعل أي شيء لهم.. أصبحت حياته في حيرة.. قام بفتح “وَرشة” للنجارة مِنْ الأموال التي جناها ومِنْ تلك الأموال التي كان يجلبها إخوته.. همّه أن يحترمهم الناس وينادونهم باسمهم  كأي إنسان آخر.. أصبح الناس يعيّرونه بوالديه وإخوته.. امتنع كل من يعرف قصّتهم مِنْ أنْ يطلب منه عملاً.. الناس يتناقلون أخباره بتسارع.. تأثر عمله كثيراً.. اضطرَّ لإغلاق “الورشة” وبيعها.

 

  كلّ الأموال التي جمعها محاولاً تغيير الواقع من خلالها.. دراسته وعلمه.. ورَفْع مستواه الاجتماعي.. لم تعينه على تغيير الواقع المرير.. لا بل ازدادت الأمور تعقيداً وسوءاً.. من كثرة تفكيره واهتمامه بالموضوع.. ومن كثرة حزنه على ما وصلت إليه الأمور.. تفاجأ بإصابته بمرض السكري.. هو الآخر بدأ ينهار.. وصل إلى حد اليأس والعجز.. لمْ يُرِدْ الاستسلام.. بقي يحاول.. ويحاول، لكن بلا طائل.. بدأ تفكيره يأخذ منحىً آخر.. وراح يُسائل نفسه:

– ما هو الحل؟ كيف ستكون النتيجة في القادم؟ تقدمت لطلب يد أكثر من فتاة.. كان الرفض السريع ما يواجهني.. أصبحت منبوذا وأهلي داخل مجتمعي.. أصبحنا كالطاعون.. الكل يبتعد عنا، والكل يحاربنا.. ما هو ذنبي وذنب أهلي؟ هل حقاً أن الناس على حق؟ لا.. لا.. هي إرادة الله بخطأ لم يقم والداي باقترافه عن قصد أو علم.. يا الله  يا الله! هذا ما فعله الشتات والتهجير. صراع مرير يسكن بين خلجاته.. تُساوره شكوك بانهيار وشيك.. قال في نفسه: لمْ أعُد أطيق صبراً أو احتمالاً.. لن أعدم وسيلة للحل.. لن أعدم وسيلة للحل.. ما لمْ أكُنْ أتوقّعه هو رضوخ جدّي عمر لإلحاح جدّتي عليه بتركنا والرّحيل بعيداً عن أعيُنِ الناس.. هجرنا مغادراً إلى العقبة، ربّما أُعطيهم العُذرَ فقط بسبب الضُّغوطات التي أصبحوا يواجهونها من الناس.. لمْ يستطيعوا الاحتمال.. ولكن.. لمَنْ تركونا؟ ومن سيقف معنا؟ أحسبهم رمونا للذئاب تنهشنا أحياءً.. المجتمع لا يرحم.. أصبحنا نعيش في دائرة مُغلقة.. لا منفذ لها ولا مفرّ منها..  الوحوش في الأدغال أرحم بنا منَ الناس..!  فيضٌ منَ الذّكريات تواردت على خاطره.. بدأ يَعُبُّها عبّاً من بحر النسيان المظلم.. تساءل في نفسه: هل إذا نَسينا هذا الاسم اللعين “أبو الأخوال” ينساه الناس..؟ ربّما إذا استطعنا نِسيانه، نعيش بسلام وأمان! ولكن.. هل نستطيع دفْنَ تلك الذاكرة اللعينة المسماة بذاكرة النسيان.. ونصحو مِنْ هذا الكابوس، ويأتي المساء ويأخُذَ معه ظِلّ هذا الاسم البغيض…

 

***

 

 

 

ذات مساء شديد الحرارة، من أيّام حزيران الملتهبة، وزفراتٍ حارقة كأنّها تنبعث مِنْ جهنّم.. التقى عبدالله صديقاً له.. يعمل قاضياً في دبي.. هذا الصّديق الأردني المغترب.. لمْ يلتقيه منذ شهور.. تمّ الّلقاء بمحض الصدفة.. وذلك حينما كان عبدالله يتمشّى على شاطئ البحر.. العرقُ يتصبّبُ مِنْ جسمِهِ.. ينساب كخيوط ماء تتسابق على زجاجِ غرفة دافئة في جوّ شديد البرودة.. خياله يدنو ويبتعد.. يفكّر بياسمين، وإذا بالقاضي عادل يُناديه من خلفه.. أدار وجهه للخلف.. شاهد صديقه يبتسم فاتحاُ ذراعيه لاحتضانه.. تعانقا عناقاً حارّاً.. اتّسم حديثهما بالدّفء رغم حرارة الجو العالية ورطوبته المُرتفعة.

 

  لاحظ عادل أنّ عبدالله كثير الشرود.. عديم التّركيز.. مُشتّت الذهن.. غير مُمعِن لأقواله.. سأله عن سبب قلقه وسرَحانه هذا.. تنهّد عبدالله وبدأ يبُثّ شجونه لصديقه.. أخبره بأنّه أصبح أسيراً لحبّ امرأة أردنيّة تعمل بدبي.. هام فيها عشقاً.. طلبها للزواج مرّات عدّة.. الاعتذار هو ما كان يصل إليه دائماً رغم حبها له.. عاجله عادل بالسؤال عن أسباب الاعتذار.. إن كان هناك أسباب معلومة يود ذكرها، جلسوا على الرّمال.. سرد له عبدالله حكايتها من البداية إلى النّهاية.. مداعبا حبّات الرّمل وهما يتحدّثان.. أحسّ عادل بأنّه يعُدُّها.. أحسّ بتلك الذرات بأنها تؤنسه وتشاركه همومه.. نوّه عبدالله إلى أنّ سبب اعتذارها، هو انشغالها بمحاولة ايجاد طريقة قانونيّة لإثبات نسب ولدها، وبأنّها ستبقى بعيدة عن بلدها حتّى تَحُلَّ هذه المسألة الشّائكة، وأضاف بأنّ قلبه يحترق حباً لها، متمنيّاً الزواج منها. انفجر عادل ضاحكاً.. ارتفعت أصوات ضحكاته.. نظر إليه عبدالله باستغراب مُقَطّباً حاجبيه.. استغرب من ضحكات وحركات صديقه الّتي لا موجب لها.. سأل صديقه: ما الذي يُضحكُك.. هل ألقيتُ عليك نُكْتة؟ هام قلبي حبّاً .. فأيقنتُ أنّ النرجس لا ينحني لسواها..

 

  عاد القاضي عادل يقهقه من جديد حتّى تساقط الدّمع من عينيه.. حاول أن يتماسك وهو يُحاول أنْ يُطَمئن صديقه بعد أن رأى أنَّ الغضب بدأ يتملّكه.. وقال:

– هي البِشارة يا عبدالله.. حلّ قضيّتك عندي.. أبْشِر يا رجل.

– عبدالله:  أنقذني إذن.

– عادل: ولكنّ مشكلتك محلولة.. والإجابة عندي.

– عبدالله، بلهفة واندفاع: وكيف؟ الحقنى بها.. لقد شوّقتني كثيراً…

– عادل: لهفتك هذه تُقلقني.. ولكن.. ألم تسمع بفحص يُقال له فحص ال DNA؟

– عبدالله: لا أملك معلومات عن هذا الفحص.

– عادل: منذ بداية خمسينات القرن الماضي بدأت التجارب تُجرى على هذا الفحص، والذي يُثبتُ نسب أيّ شخص سواءً كان حيّاً أم ميتاً، وهو الآن متوفر هنا بالإمارات والأردن وغالبيّة الدُّول العربيّة. عاد للضّحك مرّة أخرى.. هنّأ عبدالله لوجود الحلّ لمشكلته مع ياسمين.

 

  استعجله عبدالله بالمغادرة بعدما انشرحت أساريره وبدت السعادة ترتسم على محيّاه.. أصبح يُهرول مبتعداً عن عادل.. ثُمّ يعود إليه ضاحكاً مُدندناً وكأنّه طفل وجد ضالّته عند والده.. أو كأنّه فراشة تنتقل من زهرة إلى أخرى.. وبدأ يغني: الليلة عيد.. عليّ أنا سعيد…

 

  عاد إلى بيته.. اتّصل بياسمين طالباً لقاءها في اليوم التّالي حيث أنّ الوقت كان متأخراً.. تمنى لو التقاها مِنْ فوره، إلاّ أنّه تماسك وطلب موعداً في اليوم التالي.. مبشّراً بخبر سعيد سيقوم بإخبارها عنه.. أخبرته بأنّها هي أيضاً كانت تريد الاتّصال به لإخباره بخبر سعيد أيضاً.. حاول كلاهما معرفة ما يريده الآخر.. ولكنّهما قاما بالتّأجيل لليوم التّالي عند اللقاء، فرحهما أعادهما طفلين يستعجلان بزوغ فجر جديد، من أجل الفوز بأخبار لا شكّ بأنّها ستُسعدهما.

 

  أفاقا مِنْ نومهما يستحثّان الوقت على المضي بسرعة.. القلق تناوب عليهما.. لحظات الانتظار العصيبة تقتلهما.. ارتباك ياسمين جعلها تُقصّر في إظهار أناقتها وتزيُّنها.. قبل وقت الظهيرة بقليل.. التقيا في أحد المقاهي.. الابتسامات ترتسم على وجهيهما.. فالح الصّغير يقفز مسروراً لأنّه سيلتقي بعبدالله.. جلسوا إلى طاولة تقع في زاوية المقهى.. لم يكُن هناك أناس بقربهم.. بادرته ياسمين وعلى عجل بسؤاله عن أخباره المُفْرِحة وعن البشرى التي يحملها.. أصرّ أن تكون هي البادئة.. دعته للاحتفال في مساء ذلك اليوم بمناسبة يوم ميلاد صغيرها فالح الذي أكمل عامه التّاسع.. استحثّته على الاستعجال بإبلاغها ما لديه من أخبار سعيدة.. شوق كبير يشدها لسماع ما يُغبِطُها.. الفرح غادرها منذ وفاة د. فالح.. إلّا من نسمات انبساط خفيفة، تمرّ عليها مروراً سريعاً فلا هي تُكمل فرحها ولا هي تترك أثراً في حياتها.

 

  سَعِدَ عبدالله بهذا الخبر.. قام عن كرسيّه.. قبّل فالح وهنّأهما بهذه المناسبة.. قام بدعوتهما لعمل احتفال يحضره ثلاثتهم في المساء، وعد فالح بهديّة قيّمة.

 

  شكرته ياسمين.. طلبت منه اخبارها بما لديه وبلهفة.. سرد لها ما دار بينه وبين صديقه عادل الذي لم يلتقيه منذ مُدّة.. يبدو أنّ الله ساقه لحلّ مشكلتهما.. ذكر لها  كيف أنّ فحص الDNA  سيحُلُّ مشكلة إثبات نسب فالح الصغير، ومشكلة موافقتها على الزواج منه.. رفعت بصرها إلى سقف المقهى.. هناك لمبة خَفَتَ ضوؤها، نظرت إليها.. عادت بذاكرتها إلى سنين طويلة مضت، وحديث والديها عن فلسطين.. تذكّرت يوم السادس من حزيران عام 1967م وسقوط فلسطين بأيدي اليهود، وهو نفس التّاريخ الذي وُلِدَ فيه فالح، كما أنّه اليوم الذي انتظرَتْهُ سنين طويلة لإيجاد الحلّ لمشكلة إثبات نسب فالح، وفي يوم الاحتفال بيوم ميلاده.. لم يُخرجها من لحظات سرحانها هذه سوى حضور النادل يسألهم عمّا يودّون شربه، لمْ تُجِب النادل.. أشاحت ببصرها إلى عبدالله وأخبرته بأنّها ستقوم بالسّفر إلى الأردن بأسرع وقت ممكن لرفْع قضيّة لإثبات نسب ولدها فالح، هذه القضيّة التي أقضّت مضاجعها لسنين طالت، وأضافت: أقسم يا عبدالله أنني نسيت مسألة ال DNA  رغم أنني أعرف به وقرأت عنه منذ سنوات مضت، لكنّها إرادة الله.. على أيّة حال، ها هو فالح يعود ويولد مرتين وفي نفس التاريخ.. سبحان الله..!

 

  عادت إلى الأردن لاقتناص هذه الفرصة الوحيدة لإثبات نسب ولدها، حال خروجها من المطار، ذهبت إلى صديقتها رشيدة، هناك تفاجأت بما رأت، كان عايد يتواجد بالبيت، قدمت نفسها له على أنها خالته ياسمين، وأن من يرافقها هو ولدها فالح، رحَّب بها.. حينما دخلت.. رأت صالح مستلقٍ على فراشه.. سلّمت عليه.. رفع بصره إليها.. برقت عيناه المُطْفأتان من التّعب.. الجافتان من السّهر.. لم يُكلّمها.. عاد ينظر إلى الأرض.. أخذها عايد لغرفة أمّه.. سلّمت عليها.. بادرتها رشيدة بالشتائم والسُّباب.. أجلسها عايد بعيداً عن أمّه.. طلب منها المكوث عندهم بعد أن شرح لها باختصار ما حصل معهم.. لكنّها أصرّت على المغادرة.. وعدته بالعودة يوماً ما.. أعلمته بأنّها عادت لأمر هام وعاجل.. وعند انتهائه ستقوم بزيارتهم للاطمئنان عليهم.

 

  حزنت ياسمين حزناً شديداً لما أصاب صديقتها رشيدة، بعد حديث  عايد وباختصار عن كل ما حصل معهم والحال الذي وصلوا إليه، وأنه يعاني معاناة شديدة ومؤلمة من وضع أهله ووضعه وخاصةً مع الناس الذين أصبحوا لا يتقبلونهم ولا ينادونهم الّا بدار “أبو الأخوال”، تذكّرت د. فالح وبداياتها معه، وكيف أنّ رشيدة وصالح كانا هما السبب بتعرُّفها عليه.. تساءلت في قرارة نفسها عن ابتلائها وصديقتها.. تنهدّت  بحرقة ومرارة وغادرت.

 

  استأجرت ياسمين شقة مفروشة في منطقة بعيدة عن دار أبي عايد لحين شراء شقة أخرى.

 

  في صبيحة اليوم التالي.. ذهبت إلى أحد المحامين المشهورين.. وكّلته برفع قضية في المحكمة تطلب فيها إثبات نسب ولدها فالح لأبيه الدكتور فالح.

 

  قبلت المحكمة دعوتها.. بعد عدة جلسات طلبت المحكمة من الطب الشرعي بإجراء هذا الفحص.. جاءت النتيجة إلى المحكمة.. صدر الحُكْمُ بوجود جدّ الطفل بصحة نسب الولد لأبيه.. أكّدت المحكمة على شرعيّة فالح، كما أكّدت على جميع حقوقه في النسب والإرث.

 

  في اليوم التالي ذهبت ياسمين لزيارة صديقتها رشيدة.. جلست معها وهي مكبّلة بسلاسل الحديد.. عايد ينظر  إلى أمه بحسرة وألم لما حصل معها.. حاول اصطناع البسمة حينما كانت ياسمين تخاطب والدته.. تصرّ على مناداتها برشيدة.. هي الصديقة التي أحبتها.. الصديقة التي رافقتها في بداية مسيرتها.. وهي  مَنْ كانت سبباً في زواجها من د. فالح.. حدّثتها متناسية أنّها في غير وعيها.. روت لها كلّ ما حصل معها خلال غيابها في الإمارات.. تبثُّ لها همومها والمصاعب التي واجهتها، من لحظة مغادرتها إلى حين عودتها.. لمْ تنقطع عن البكاء خلال حديثها.. هل كانت تبكي نفسها، أم أنها تبكي صديقتها..؟، فلسطين تحاول مقاطعتها بين الحين والآخر.. تشتمها وتحاول ضربها.. تفهّمت ياسمين ما حلّ بصديقتها وحبيبتها.. وعدت عايد أن تعاود زيارتهم بعد أسبوع.. تمّ تحديد موعد الزيارة.. على أنْ يكون بعد صلاة العصر إن شاء الله.

 

  أُثلج صدر عايد بزيارة ياسمين لهم.. هي الوحيدة التي تحاول أنْ تقف إلى جانبهم.. وهي التي تفهّمت ما حصل معهم.. أخيراً جاء منْ لا يُناديهم بدار “أبو الأخوال”، إلاّ أنّ الأفكار بدأت تتناوب في رأسه، فهو تارة يرى في ياسمين الخالة والصديقة المقرّبة  من أمّه، وتارة أخرى يراها كباقي أهل الحارة، عندما توجّهُ حديثها إليه، تُخاطبه فتقول: أمّ.. أمّ.. ولا تكملّها، فتتراجع وتقول له: رشيدة.. وكأنّها لا تعترف بأنّها أمُّه التي أنجبته ،وهي التي ربّته، هل فقد صلته بها كأمّ؟ هل أصبح بلا أمّ ولا أب؟ ما هو مدى ارتباطه وصلته بوالديه؟ تشابكت الأسئلة في رأسه واختلطت.. أصبح يعجز عن التّفكير.. احساس أخذه بعيداً ليرى أنّ علاقته بوالديه مؤقتةٌ كعلاقة الحيوانات بوالديها.. تنتهي باشتداد عودها أو بمجرد إنجابها أو وضعها كبيوض تتكفل بها الطبيعة.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!