القصل الثالث عشر من رواية الغداء الأخير للروائي الأردني توفيق أحمد جاد

 

  الهمّ الأكبر عند ياسمين هو إثبات نسب ولدها.. تعبت في حياتها كثيراً.. مشاكلها تزداد كل يوم، فالبيت عبارة عن غرفة طينيّة متواضعة مع مطبخ صغير وحمام لا يكاد يتّسع لشخص واحد، بسقف صُنعَ من أعواد القصب، أما “الحوش” فكان عبارة عن ساحة رمليّة محاطة بسور طينيّ لا يبتعد كثيراً عن الغرفة، كثيراً ما كانت تجد في هذه الساحة العقارب وأحياناً الأفاعي مما قضّ مضجعها وقلّل من نومها خوفاً وقلقاً على نفسها وولدها.. تصحو بالّليل.. تصطحبُ معها المصباح لتتفقّد “الحوش” من العقارب والأفاعي، وفي ساعات النهار لم يكن يهدأ لها بالاً من كثرة حركة ولدها وتكرار محاولاته للخروج واللعب.. لاحظت بأنّه يفتقد إلى الصحبة واللعب مع الأطفال الآخرين.. قررت الاستقالة.. قدّمت طلباً للعمل في دبي، التي بدأت تُسابق الزمن بتقدّمها وتطوّرها، تمّت الموافقة والانتقال إلى هناك.

 

  دبي مسافة من السفر ومساحة من أمل، لمن عانق الشّوك في جزر نائية، تعيش سعادة لم تجدها مع نسائم بلدها التي هجرتها.. تركتها وحيدة إلّا من طفل يُناغي سواد الليل، فترتسم بسمة واهية على شفاهٍ كحّلها الحجر، لولا كلمات كان ينطقها فالح الصّغير، وبعض حروف يُخربشها بفوضى على أوراق يُبعثرها في أرجاء الغرفة، حتّى أنّ ياسمين أصبحت تناديه بالدكتور فالح، كانت دائماً تُذكّره بأنّه بذكاء والده وحكمته، وأنه لا بدّ وأن يصبح يوماً ما طبيباً كوالده. سنوات ثقيلة وبطيئة مرّت عليها أثقلت كاهلها كثيراً.. أحسّت بأنّ الحياة تقف مكانها بلا حراك.. تستحثّها بالمسير ولكنْ بلا طائل، تُسابق الزمن صبراً لترى ولدها فالح وقد أصبح فتىً يذكّرها بعيني زوجها “الذي تشتاقه كثيراً فلا تجده”  ليعينها على مشاقّ الحياة وصعابها.. تحبس عواطفها وتلجمها شوقاً للدكتور فالح.. تحبسُ دموع شوقها من افتقاده.. صوره بدأتْ تجفُّ في مخيّلتها، إلاّ من ذكريات جميلة لا تستطيع أن تمحوها لحنينها إليه، تخشى أنْ تبوح بمكنوناتها وعواطفها حتّى مع نفسها.. تمنّت لو كانت حجراً لا إحساس فيه ولا عاطفة تُربكُه. تُحاول أنْ تواسي نفسها بالتحدّث مع ولدها.. تروي له حكايات عن حياتها مع والده وكيف فارق الحياة.. كانت تحدّثهُ عن جدّه، وتقول له بأنّ نسبه وعائلته تُشرّف كلّ من ينتمي إليها، وأنّها ستعود بصحبته يوماً ما إلى دياره وأهله، سيعود يوماً إلى أرض السوسنة السوداء، وأرض الزيتون والزعتر.. أرض آبائه وأجداده.

  هذا ما رواه محدّثي أبو مشعل في جلسة طالت قليلاً.. نظر إلي محدّثي بعيون زائغة ومتعبة وقال: أبو ساجد والد سجى كان يضعني بتفاصيل ما يجري هناك أوّلاً بأوّل ولكنّه لم يكن يحتفظ بمعلوماته، فقد كان يخبرني بها دفعة واحدة يا ولدي. فهمت من كلامه بأنّه علي أن أغادر، وأنْ أستقي منه باقي الأحداث على مهلٍ، ونلتقي مرّة أخرى لاستكمال الحديث، استأذنت وغادرت وعيني ترنو إلى اللقاء التالي، وعد أنْ نلتقي بأقرب وقت ممكن.

  حياة رشيدة وصالح تسير على خير ما يرام، السعادة عنوان                                                                                                                    لحياتهما، عايد الصغير كما الماء للبستان، رحيق الزهر في حياتهما، هو الحلم الجميل الذي سعيا إليه، زرع الجمال في قلبيهما، شمسٌ بزغت في سمائهما، أشرق نورها فأضاءت سواد ليلهما، قدّما له أفضل ما يمكنهما، جاء الحمل الثاني.. رزقها الله بولد جميل آخر، أسمياه عوّاد، زادت سعادتهما بعد أنْ مَنَّ الله عليهما بزهرة أخرى، تفتَّحت في بستانهما، ولكنّ الحياة بدأت تأخذ منحىً آخر في صعوبتها ومسؤولياتها، هناك الوظيفة وطفلان والبيت، المصاريف تزداد والمسؤوليات تتعاظم، بدأ الحِمْلُ يَثْقُلُ، لكنّ السعادة التي كانوا يعيشونها، خففت كثيراً من وطأة الحياة عليهما. جلس صالح يفكّر في طفليْه ومسؤولياتهما، قاده التفكير إلى الماضي، عاد به إلى أيّام طفولته الصّعبة، ولادة أخته من أبيه محطة فارقة في حياته، هلّت ساعات فرح وانبساط، بعد عامٍ من ولادتها، أراد والده أن يصحبه معه إلى المدينة، أصرّ عليه أن تُرافقهما أخته الصغيرة، قاما بتصويرها عند رجل يضع كاميرته في السوق، تلك الكاميرا التي كانت على شكل صندوق يرتفع على أربعة قوائم.. يتصل بها من الخلف كيس أسود.. يقوم المصور بوضع رأسه في داخل ذلك الكيس حتى يتمكن مِنْ تحديد موقع وحجم الصورة، ثمّ يقوم بالضغط على كبسة تتصل بسلك موصول بالكاميرا، فيتمّ التصوير، أحبّ صالح تلك الصورة، كثيراً ما كان يلاعبها بصورتها، بات اليوم يفتقدهما معاً، يشتاق لهما، ولكنْهما ترافقتا وغادرتاه إلى غير رجعة. تم افتتاح حضانة في الحيّ، قامت رشيده بإرسال أطفالها إليها، قررا أن يتريثا بالإنجاب لبضع سنين.. تفاجأت رشيدة ذات يوم بأنها تحمل طفلاً جديداً، رغم عدم رغبتها في الإنجاب في هذا الوقت، إلا أنهما سعدا بهذا الحمل الجديد.. أنجبت رشيدة الذّكر الثالث أسموه عودة، زهرة أخرى تُضاف إلى حديقتهما الجميلة، يشبه إخوته إلى حدٍ كبير.. امتازوا جميعاً بأنهم أخذوا من صفات جمال أمهم.. استمرت السعادة في حياتهم لا بَلْ ازدادت مع وجود الأبناء الثلاثة.. أدخلوا الأولاد ليتعلموا في رياض الأطفال، كلّما كبُر واحدٌ منهم، أرسلوه إلى المدرسة، أمّا عودة فكان أقلّ ذكاء من إخوته.. رغباته  في الدراسة كانت ضعيفة.

 

  مضافة المختار الحاج محمود عامرة برجالات الحيّ يومياً من أهالي المنطقة والنازحين، كما أنّ أمّ محمد “زوجة الحاج محمود” لديها غرفة واسعة تستضيف بها بعض نساء الحي.. يتسامر الجميع.. يتبادلون أطراف الحديث عن فلسطين وعن النكبة والنكسة.. وما جرى للناس من شتات وهوان، كما أنّهم يديمون ذِكر الأشخاص وتفرّقهم في عدة أماكن ودول.. آملين أن يتم ذِكر شخصٍ يعرفه أحدهم ليوصلوا المعلومة لأهله، فالشتات اتّسعت دائرته حتّى تفرّق الناس ولم يعُد الكثير منهم يعلمُ شيئاً عن أقربائهم وبعض أهليهم.

 

  ذات فرح وسرور، كانوا يتحلّقون حول قالب من الكيك، أعدّته رشيدة خصّيصاّ ليوم ميلاد عايد، غمرتهم السعادة.. غنّوا له مجتمعين:

سنة حلوة يا جميل.. سنة حلوة يا عايد

سنة حلوة يا عايد..  سنة حلوة للجميع

 

  قاموا بتقطيع قالب الكيك.. أكلوا منه جميعاً.. فرحوا وتبادلوا النُّكت.. الابتسامات والضحكات يرتفع صوتها في البيت.. أحسَّ صالح بانقباض شديد في صدره.. بدأ يشكو من الألم.. طلبوا منه أن يأخذوه إلى المستشفى، لكنّه رفض ذلك، انقلب جوّهم كَدَراً.. وساد الصمت، بعد قليل بدأ صالح يتعافى ويشعر بارتياح قليل.. ذهب الأولاد للنوم.. وبقيت رشيدة تجلس مع صالح.. تنظر إليه بقلق… كسرت حاجز الصمت، وسألته: كيف أنت الآن يا صالح؟

– صالح: الحمد لله بدأتُ أتحسّن.. ما يُنغّصُ عليَّ هو رؤيا سيّئة رأيتها بالأمس، لا أحبّذ ذكرها.. مِنَ السُّنّة أنْ لا نذكرُ الأحلام والرّؤى المُزعجة.

– رشيدة: أنا أُفضّلُ أن تذهب إلى المستشفى.

– صالح: لا داعي.. بدأتُ أرتاح.

– رشيدة: ولكن..

– صالح: بعد قليل سأكون على ما يرام.

  عاد الصمت يُطبقُ على المكان من جديد.. قامت رشيدة بغلي إبريق من مشروب (الزهورات)، وقدّمتهُ لصالح لعلّه يرتاح قليلاً، شربوا.. ثم ذهبت رشيدة إلى غرفتها.. وقفت أمام خزانتها.. كان هناك صندوقٌ صغيرٌ، فيه بعض من مقتنياتها الخاصّة، بدأت تقلّبها الواحدة تلو الأخرى.

 

  في قعر الصندوق.. تلك الصورة التي اعتادت أن تُخرجها وتنظر إليها في فرحها وحزنها، أمسكتها.. نظرت إليها مليّاً.. بدأ شريط الذكريات السعيدة يمرّ في مخيلتها بسرعة كبيرة.. ذكريات دراستها وتعرُّفها على صالح، وزواجها منه، ابتسمت لصورتها.. أخذتها وذهبت بها إلى صالح للمرة الأولى في حياتها.

 

  في الأثناء.. أخذت صالح سِنةٌ منَ النوم.. رأى تلك الكلاب والوحوش تهاجمه وتشدّه مِنْ كُمّه.. تسحبه لتلقي به في جُبٍّ مظلمٍ وعميق.. انتفض مِنْ نومه فزعاً.. لا يستطيع التقاط أنفاسه.. تناول كأس ماءٍ كان بجواره.. شرب منه فهدأتْ روحه قليلاً.. جلس يشرد في هذا الحلم الذي سوّد حياته منذ زمن بعيد دون أنْ ينتهي.. يلازمه ولا يغيب عنه إلا فترات قصيرة. حضرت رشيدة وقالت له: مساء السعادة يا حبيبي.

– صالح: مساء الهنا والرضا من الله.

– رشيدة: لدي مفاجأة لك.

– صالح: تفضلي.. فاجئيني.. وهل ينقصني.

– رشيدة: لا تخف فالمفاجأة جميلة.

– صالح: حسناً.. هاتِها.. رُغْمَ أنني لا أرى ما هو أجمل منك.

– رشيدة: لدي صورة منذ طفولتي.. أنت لم ترها من قبل.

– صالح: أعطني إياها لأراها.

– رشيدة: أخاف أن تُصدَم حين ترى كم  كنت جميلة في طفولتي.. ومن شدّة جمالي أحتفظ بها ولم أعرضها على أيّ شخص.. خوفاً من العين والحسد. – وضحكت بغنج ودلال-.

– صالح: لا عليكِ.. لن تكوني أجمل من اليوم.. فأنت أجمل نساء الأرض.

– رشيدة: بما أنني هكذا بنظرك.. فلا أمانع من أن أُريكَ الصورة…

– صالح: هاتها.. تشوَّقتُ لرؤيتها.

 

  ناولته الصورة.. ابتسم للوهلة الأولى حين نظر إليها، ولكن سرعان ما بدأت ملامحه تتغير، قطّب جبينه.. بدأت تظهر على وجهه علامات الاستغراب والدهشة.. صمت وهو ينظر إلى الصورة، يبدو أن أمراً ما صدمه فيها، مرّ شريط الذّكريات في مخيّلته كلمح البصر، وتذكّر تلك الصورة التي لم تُفارق حياته يوماً.. صورة أخته الصغيرة التي رافقته ووالده يوماً إلى المدينة فقاما بتصويرها، طالما أحبّ تلك الصورة، كان كثيراً ما يحملها ويُطيل النظر إليها.. يبتسمُ لها وكأنّها أخته هي التي تقفُ أمامه.. قلب الصورة إلى الأسفل بهدوء غير معهود.. ثم سألها بعد أن تقارب حاجباه، وبدأت شفتاه ترتجفان: لمن هذه الصورة يا رشيدة؟

– رشيدة: جميلة أليس كذلك؟

– صالح: بعصبية متشنّجة تحرّكت شفتاه: قلتُ لك لمن هذه الصورة؟ هيا أجيبيني بسرعة.

– رشيدة: على رسلك يا رجل.. ما بك؟

– صالح: قلت لمن هذه الصورة؟ أجيبي بسرعة.

– رشيدة: ما بها؟ ما الذي أثار حفيظتك لهذه الدرجة؟

– صالح: رجاء أخبريني يا عزيزتي.

– رشيدة: هذه صورتي وأنا طفلة.. ما بها؟

– صالح: ماذا تقولين؟.

– رشيدة: ما بك يا رجل.. أدهشني موقفك المفاجئ، و ما الذي أوصلك إلى هذه النوبة الغاضبة؟.

حَيْرة وقلق.. والشك يراوده. ربما يكون مخطئاً، يا الله كم أتمنى أن أكون مخطئاً في هذه اللحظة.. هل أنتظر الصباح لعل الليل أسدل على الحقيقة؟ وهل يكشفها النهار؟ حيرة وقلق.. شك.. شك.. شك.. الوقت يقتلني.. لا أستطيع الانتظار على رصيف الشك، و الحقيقة تبدو أنوارها تجلي ظلمات روحي وهي تعيدني سنوات للوراء.

– صالح: ارتدي ملابسك، سنذهب إلى دار عمي الآن.

– رشيدة: الآن؟ أرى أن الوقت متأخر جدًّا.

– صالح:  أوافقك أن الوقت متأخر، بالمقابل فالانتظار يسحقني.

– رشيدة: أخبرني.. ما بك؟

– صالح: هيّا أرجوك إلبسي بسرعة ولا تتأخري، فالأفكار تتصارع في ذهني  لا أستطيع ترتيبها، كي أخبرك بما أثارني، ستكونين أمام الأمر مباشرة.

  ارتدت ملابسها على عجلٍ، وصالح يتحرّك في المنزل جيئة وذهابا في حَيْرة وقلق.. يفرك يديه بعصبيّة وارتباك.. امتقع وجهه حتى شحب واسودّ.. غادرا مسرعَين.. كانت ترتعد ولا تقوى على المسير من شدّة قلقها من غموض صالح، وعدم الإفصاح عن الموضوع.. تمنّتْ لو أعلمَها بما يجول في خلده..  ربّما أراحها.. وربمّا زادها همّاً. وصلا إلى بيت والدها عمر، قرع الباب والجرس معاً بشدّة.. أملاً بأن ينقذه عمر مِنْ تلك الوساوس والشكوك.. وعيناه لا تفارقان الصورة، رغم أنّ النّور القادم من الشارع كان خافتاّ. ألمٌ شديدٌ في صدره.. ارتبط بما يقع تحت ناظريه وبين يديه. هرع عمر إلى الباب مذعوراً، والحشرجة في صوته.. نادى بصوت عال: من.. من هناك؟

– صالح: أنا يا عمي.. افتح الباب بسرعة.

– عمر: ما بك؟ لقد أمَتَّني ذعراً.. تفضلوا.. ادخُلوا.. ما شأنكم في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ عسى الأمر خيرًا!

– صالح:  دعني ألتقط أنفاسي أوّلًا.. أشعر بجفاف حلقي وكأنني منذ شهر لك أشرب الماء. أنفاسه تعلو وتهبط، وقعت عينه على كأس ماء على الطربيزة، تناوله وارتشف ما فيه على عجل، جلس.. أخذ نفسًا عميقًا، وتابع: عمي…عمي… تجفّ الكلمات متقطعة لا تكاد تخرج من فمه.

– عمر: على رسلك يا ولدي.. تريَّث قليلاً.

– صالح: عمي.. آآآآه يا عمي.

– عمر: هل تشاجرتم يا ولدي؟ أخبرني.. ماذا حلَّ بكم؟

– صالح:  لا.. لا يا عمي.. ليتنا تشاجرنا، لكنا حللنا المشكلة دون المجيء في مثل هذه الساعة، وأزعجناكم وأقلقنا راحتكم.

– عمر: إذاً فالأمر جلل.. أخبرني بما حصل يا ولدي.

– صالح:  أكثر مما تتوقع.. يا ويلي يا ويلي أكادُ أُجنّ!

– عمر: أنت ترعبني.. هيا تكلم.

– صالح، مدّ يده واستخرج صورة قديمة بالأسود و الأبيض بحجم الكفّ من جيبة قميصه، وناولها لعمّه عمر، مستفسرًا عن حقيقتها: لمن هذه الصورة يا عمي؟

– عمر: “ناظراً إلى الصورة باندهاش شديد”.. هذه صورة رشيدة ابنتي يا ولدي.

– صالح:  أأنت متأكّد  يا عمّاه؟ ليتك قلت غير هذا! أرجو أن تعيد النّظر فيها ليكون حكمك قاطعًا أنها تعود لرشيدة.

– عمر: هذه صورة ابنتي رشيدة يا ولدي.. متأكد كما أنني متأكد أنّك صالح صهري وتجلس بشحمك و لحمك أمامي، لكن أخبرني ما بها؟.

– صالح: و أنا متأكّد مائة بالمائة أن الطفلة التي في الصورة ليست رشيدة على الإطلاق، نارٌ تحرق قلبي.. وضيق يُطبق على صدري.. أشعر أن الجلطة ستضربني هذه اللحظة ولن أنجو منها.

 

  صمت عمر قليلاً.. طأطأ رأسه مفكراً.. شهق بحرقة ظاهرة.. نظر إلى الصورة مرة أخرى.. مرّت بمخيلته صورًا شتّى من أيام خلت بفلسطين وما جرى آنذاك.. أيام الشتات والغربة.. ذكريات التهجير و التشريد، والقتل و الموت و الدمار الذي حصل.

 

  مرّ الشريط في خياله بثوانٍ معدودة، هذه الصورة فجّرت كلّ الغضب المكبوت والمتجمّد في القلب.. المترسّب كالدم الفاسد في العروق و الشرايين.. تجددت الآهات على فم عمر، وهو يأخذ نفسًا عميقًا، وكأنه يريد استعادة توازنه، هَولُ الهزّة المفاجئة هزّت أعماقه، وارتجفت أعضاؤه بحركة ظاهرة، قام من فوره لتناول علبة الدخان من الغرفة الأخرى، عاد وهو يكفكف دموعه، جلس مقابل صالح وهو يشيح بوجهه عنه، وأشعل سيجارته، ولم ينبس بكلمة واحدة، بفارغ الصبر صالح متلهّف لأن يستمع من عمّه شيئًا ما، وعيونه تتركز على وجهه، والأفكار تتلاطم في ذهنه كالأمواج العاتية، وعمر يكابد عناء الصمت الحزين، والنزوح يتداخل في رأسه من عام 1948م ليربطه بعام 1967م.. ذكريات القتل.. والألم.. والتهجير.. والضياع.. الذي ألمّ بالناس.. شريط الفَقْد والتفسّخ بالعائلات.. لم يحمل في جعبته إلّا الفواجع والآلام.. يحمل القتل والرصاص الصهيوني.. شريط التّدمير للمنازل والمؤسسات.. يتلوّن ما بين الأسود والأحمر.. أطفال ونساء رآهم يقتلون أمام عينيه.. ذكريات قتل جماعي.. مذابح لم يعهدها التاريخ من قبل.. شريط لا يحمل في جعبته سوى الموت والدمار، رفع رأسه.. تنهّد بحرقة.. جال بنظره على من يقف ومن يجلس.. كلهم صامتين قلقين.. يتساءلون في قرارة أنفسهم: ماذا هناك؟ يبدو وكأنّه أمرٌ جلل.. الكل ينتظر تلك اللحظة التي سيتكلم بها عمر.. تمنّتْ رشيدة لو أنّها عادت طفلة.. إلى يوم تصويرها هذه الصورة.

 

  قاطع صالح شرود عمه، محاولًا إيقاظ الصمت المطبق على الجميع، صرخ عالياً:

– عمّي بالله عليك.. تكلّم.. بسرعة.. أرجوك.. هيّا.. صمتك يقتلني!

– عمر: على رسلك يا ولدي.. سأتكلم بكلّ ما أعرف الآن.. وها هي عمّتك ستشهد على كلّ ما سأقول، فقط أرجوك أن تلتزم الهدوء، كي أستطيع توضيح الأمر.

 

  الغرفة تضيق بأنفاسهم، و تحتدم حرارتها بهم.. التوتّر بادٍ على الوجوه.. متحفّزين كأنّما على رؤوسهم الطير، الاستغراب  والذُّهول يرسمان الكآبة وكأنها غبرة ترهق وجوههم، ساورهم الخوف.. كانوا ينتظرون بشوق شديد لسماع ما سيقوله عمر.

غرابة الموضوع أثارت التساؤلات والتكهنات لدى الحضور: ما هو الموضوع؟.

ومن هذه المرأة؟.

  رشيدة، امتقع لونها وأذهب مسحة الوضاءة من وجهها.. هواجس الريبة تنهشها وقد أحالتها جثّة محطمة.. تبدو كالذّبيحة التي تنتظر سكّين الجزّار.. هم يعرفون بأنها رشيدة.. لكنّ الحقيقة عند عمر وزوجته وجيهة.

 

  وجيهة أمّ رشيدة تنظر إلى ابنتها المُتبنّاة بألم وحسرة، وهي تذرف دموعًا ممزوجة بالدم.. هي تعلم الحقيقة المخفية، ربّما العاصفة الطارئة ستكشفها،  ولكن يبدو أنّ هناك أمراً عظيماً لا تعلمه.. تنتظر مستغربة أيضاً ومندهشة من صالح. لتكن رشيدة كائنة من كانت.. ما الذي يفيدني؟ ما الذي أوصله إلى حالةٍ تصلُ حدّ الجنون؟ إنّه في حالة هستيريّة.. هل جُنَّ الرجل؟

 

  قطع عمر ما هم فيه، وقال: صلّوا على رسول الله محمد.. ففي عام 1967م عندما قام الصهاينة بالاعتداء علينا في فلسطين.. اعتقدنا أنه سيصيبنا ما أصابنا عام 1948م، وأن اليهود سيقومون بتقتيلنا وذبحنا.. لقد قاموا بمذابح عديدة هناك.. فرّ العديد من العائلات إلى الجبال كي يبتعدوا عن جيوشهم ودباباتهم.. عندما علمنا بأنّهم قاموا باحتلال بلدنا.. قرّرنا الهجرة إلى شرق الأردن.. هذا هو حالنا.. هجرة تتلوها هجرة.. ننتظر العودة.. لكن.. بدلاً من العودة، يعود التّهجير والشتات مرّة أخرى في الجبال، لم نستسلم لضرباتهم ومدافعهم وطياراتهم، خلال سيرنا باتجاه الشرق، من قرية قريبة من قرية (ذنّابة) قضاء طولكرم.. وقعت بالقرب منّا قذيفة مدفع.. انتشرت شظاياها في المنطقة.. كنّا نسير أنا وزوجتي وابنتي رشيدة.. شظيّة أصابت طفلتي فقتَلَتها..  هذه الطفلة التي لم يتجاوز عمرها السنتين تقريباً، قدرُ الله كان أقوى منّا جميعاً، لقد أصيبت رشيدة بشظية في رأسها أدّت إلى استشهادها على الفور، قمتُ بدفنها بالقرب من قرية (بيت ليد)، تحت شجرة كينا وارفة بظلالها، علّنا نعود يوماً ما ونقرأ الفاتحة على قبرها.

 

  ما إنْ فرغتُ من دفنها هناك، حتّى رأيت طفلة تكاد تكون بعمرها، كانت هذه الطفلة تسير وتبكي بكاءً متقطّعاً، تقدّمت إليها.. مسحت دمعةً كانت تنساب لتبلّل خدّين ورديّين، وكأنّني أمسح بأصابعي على وجه رشيدة. احتضنتها.. قبَّلتُها.. ومسحتُ بكفّي على رأسها، فوضعَتْ رأسها على ذراعي مناغية .. بابا.. بابا.. وكأنّها تقتنص منّي كلّ ما أملك من عطف وأبوّة منحتُهُ لرشيدة من قبل، وأمنحه لهذه الطّفلة التي ناديتها دون شعور: “رشيدة.. حبيبتي.. اهدأي فأنت في حُضنٍ آمنٍ”، بدأتُ أسألها عن اسمها وعن أهلها، سؤالي هذا كان عبثيّاً، فالّتي بعمر رشيدة لا تملك أن تُجيب على أسئلتي، عندها طلبتُ من وجيهه أنْ تحملها وتحاول أنْ تُؤنسها، لكنّ وجيهة رأت في عينيها الباكيتين شبهاً من عينيّ رشيدة رحمها الله. ارتمت الطّفلة على صدر وجيهة، فألقمتها ثديها، وأرضعتها حتّى ارتوت وغفت.

 

  هذه الطفلة لا تحمل معها أيّ شيء، سوى أنها تحمل في يدها هذه الصورة، التي تتمسّك بها وكأنّها لغز حائر على شفاه العابرين. نعم.. هذه هي الصورة.. لا زلت أذكرها جيداً، كأنّ الزمن يتقارب الآن لأراه في لحظة، وتعود ذاكرتي لأستذكرها، وبالطّبع الصورة كانت تخصّها. طفلة بهذا العمر لم يقنعها شيء إلا صورتها، يا الله..! طفلة بعمر البراعم الصّغيرة وتحمل صورتها؟!  لقد كانت تتمسك بها وكأنّها قطعة من جسدها، عندها قلتُ لوجيهة: “لنأخذها معنا فإنْ سأل عنها أحد رددناها لهم، وإلا سنقوم بتربيتها بدل ابنتنا رشيدة”.

 

لم نعرف هل كانت هذه الطفلة من طولكرم.. ذنابة.. نورشمس.. اكتابا.. شويكة.. ارتاح.. بلعا أو أيّة قرية أخرى…

أخذناها وسرنا في الطّريق.. كنت أسأل كلّ من ألتقيه عنها، لكنْ.. لم يتعرّف إليها أحد، كنّا نسألها عن اسمها فتلتزم الصمت وتعود للبكاء، أصبحنا نناديها برشيدة، تستجيب لاسمها الجديد وتتجاوب معه، حتّى أصبحت هي تقول عن نفسها بأنّها رشيدة.. بقينا سنوات نعلن عنها لكلّ من نعرفه، حتّى أنني اتصلتُ مع برنامج “سلاماً وتحية” لكنْ.. بلا جدوى.

 

  بقينا هكذا إلى أنْ بلغتْ سنّ السابعة، عندها قمتُ بتسجيلها في المدرسة بموجب شهادة الميلاد التّي تخصّ ابنتي المرحومة رشيدة، استمرّت في حياتها معنا على أنها رشيدة.. قلت حينها بأنّ الله أخذ منّا ابنتنا ورزقنا بابنة بدلاً منها.

 

  أمّا بالنسبة لهذه الصورة، فأنا لم أتوقع أن تكون صامدة على قيد الحياة كل هذه الفترة، إمّا فُقدت أو تلِفَت، ومنذ زمن طويل.. نسيتُ أمرها ولم أعرها الانتباه الكافي.. لم أتوقع بأن يأتي يوم ونكون في مثل هذه الساعة وهذا الموقف وتكون لغزًا جديدا ينضاف إلى حياتنا المليئة بألغاز الأحزان وآلام فَقْدِ الأوطان، في الواقع أنني لم أرها منذ ذلك اليوم إلّا الآن، ولم يخطر ببالي السؤال عنها، هذا كلّ ما لديّ يا ولدي، ولكنني لا أعرف ما هو السر في هذا الموضوع؟ وما الذي أوصلك إلى هذه الحالة الهستيرية؟

– صالح: السِّـــ…

 

  لمْ يكملها صالح وخرَّ مغشياً عليه.. بدأوا يتراكضون لجلب الماء ورشّه على وجهه.. أحضروا “الكولونياء” وبللوا قطعة قطن صغيرة مسحوا بها جبينه، ووضعوها على أنفه كي ينتعش ويصحو من غيبوبته. فعلاً.. أفاق وهو يشعر بإعياء شديد.. عدم تركيز.. حالة هستيرية.. يصيح بأعلى الصّوت بين الحين والآخر: “فلسطيـــن.. فلسطيــــن “.. ثم يصاب بالوجوم ويصمت.

 

  هنا.. أدرك عمّه عمر بأنّه يجب عليه أنْ يستخدم حكمته كرجل كبير في السنّ، وبأنّ الأمر كبير ويستحق الاهتمام، ولا بدَّ له من تدارك الأمر والسيطرة عليه، عندها بادره بسؤاله عن فلسطين.

– قائلاً له: يا ولدي.. فلسطين ضاعت.. اغتصبها اليهود واستولوا عليها.. أنت بماذا.. ونحن بماذا.. ما بها فلسطين؟

لكن صالح كان يردُّ بالصراخ “فلسطيــن.. فلسطيـــن”.

– عمر: يا ولدي أرجوك أنْ توضّح الأمر لي، ما لنا وفلسطين الآن.. أرحنا يا ولدي…

– صالح: عمي.. هذه الصورة ليست لرشيدة.

– عمر: إذن هي لمن؟

– صالح: هذه لفلسطيــن.

– عمر: من فلسطين هذه التي تهذي بها يا صالح؟

– صالح: فلسطين هي البنت التي في الصورة.. هي أختي يا عمّي.

– عمر صارخاً بأعلى صوته: ماذا؟ ماذا تقول؟ اتّق الله يا ولدي.

– صالح: هذه الحقيقة المذهلة يا عمي.. أقسم بأعظم الأيمان أنها صورة أختي فلسطيـن.. أنا أعرفها وماتزال صورتها مرتسمة وماثلة في ذهني.. لا يمكنني نسيانها مهما تباعد بنا الزمن، إلا أن أكون تحت التراب.

عمر- وكيف كان ذلك؟ هيّا قم بتوضيح ما خفي عنّا جميعًا من الأمر، قلْ ما لديك بسرعة.. بسرعة يا صالح، قبل أن يتوقّف قلبي عن الخفقان.

– صالح: نعم يا عمي، كما قلت أنت، فحرب الأيام الستّة، خلّفت وراءها كوارث وشتاتاً عظيمين، وأختي هذه من إحدى ضحايا الشتات، لقد فقدنا أختي الطفلة فلسطين في عام 1967م  في الجبال الواقعة شرق مخيّم نورشمس، ولا ندري الجهة التي ذهبت إليها، كنّا مع الكثير من الناس في الجبال، فارّين كغيرنا، إلّا أنّنا فقدنا هذه الطفلة، والتي كما قلت أنت، هي لم تكنْ تحملْ معها سوى هذه الصورة، والتي أعرفها جيداً، سألنا عنها كثيراً، لكنّنا لم نعثر عليها، هي لم تفارق مخيلتي ولا ذاكرتي يوماً، دائماً تأتي ببالي وأستذكرها، وبعد عدّة سنوات احتسبناها عند الله تعالى، والآن ها نحن نقع بكارثة عظيمة.. يا ويلي..! ماذا أفعل..؟ ماذا أفعل..؟ أشعر بأنّ رأسي سينفجر من الحَيْرة.. عمي أتوسَّل إليك ساعدني.. أرجوك يا عمي عمر.

 

  اكفهرت وجيهة.. تصلّبت شفتاها وشَحبَتا.. تغيّر لون بشرتها إلى الزُّرقَة المائلة إلى السّواد.. تحوّل بياض عينيها إلى الأحمر القاني.. بدت كلبؤة مفترسة من هول الصّدمة.. انهالت لطماً على وجنتيها وفخذيها.. بدأت تجوح وتنوح.. أوسعت صدرها لطماً.. قدّت جيوبها حتى انفضح المستور فخرج ثدياها اللذان أشبعا فلسطين إرضاعاً في يوم ما.. أخذتْ تندُبُ حظّهم وتقول: يا ويلتاه.. خيراً عملنا.. شراً لقينا.. ليتنا لمْ نخرج منْ دارنا.. ليتنا لم نلتقيها.. ليتنا لمْ نضمّها إلينا.. كان يوماً أسوداً ذاك اليوم الذي التقيناها به.. ألا لعنة الله على اليهود الذين شتّتونا، فأوصلونا إلى ما نحن فيه.. ماذا يُخبئ الزّمان لنا أيضاً.. هل هناك ما هو أمرّ وأصعب مِنْ هذا؟ لا نطلب من الله سوى المغفرة والرحمة.

 

– عمر: على رسلك يا ولدي.. كما ذكرت أنت فالمكان الذي وجدنا به الطفلة كان لا يبتعد كثيراً عن المكان الذي ذكرته أنت، أنا أعلم أنّ الأمر عظيم كما قلت.. لكنْ.. دائماً هناك حلول.. شرعُ الله تعالى لم يترك لنا شاردة ولا واردة إلّا وأعطانا لها الحل، غداً في الصباح سنذهب، إلى دائرة الإفتاء ونرى الحكم الشرعيّ في هذه المسألة… إن شاء الله تعالى.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!