شعقة أمي/ بقلم:صقر الهدياني(اليمن )

عادةً، قبل سفري بيوم إلى عدن؛ أقرر أن تكون ليلتي في غير بيتنا، لأنّي أتحاشى لحظات الوداع الأخيرة، أهرب لأقضي الليلة وأنام في غير بيتنا، لا أحب رؤية ملامح أمّي وأبي، تلك الملامح التي تتلفّت إليَّ مليئة بالكآبة والحزن. ليس بإمكاني أن أقاوم مشاعري، بالذات وجه أمي، لا يمكنني البقاء ثابتًا أمام عيني أمّي والدمع يتكاثف في مقلتيها، حتّى وإن تظاهرت أمي بالثبات كي لا أُهزم؛ تفضحها تنهيدات تنفلت عن إرادتها، تستدير أمي بوجهها شبيه سبيكة من فضة، لتمسح الدموع بسرعة، ثم تلتفت إليّ دونما شيء، لكنّي أعرفها جيّدًا، رقيقة جدًا وتبكي لشأن العصافير الجائعة.
آه ماما، ليتني أقضي كل العمر في تحنان يديك، ليت عمري لا يكلّفني فراقك لحظة، لكنها الحياة قاسية لا تعرف قلوب الأمهات.

تمرّ أمّي الآن في الشرفة، فتنزلق رائحتها للغرفة، أشم تلك الرائحة قادمة من شجرة الحنان “أنيسة”؛ فتنقبض ضلوعي، وأرنو بروحي خلف تلافيف ثوبها، يتهدّج كبدي على صوت خطاها، فأنثني نَهِمًا والتمنّي يسوقني يا ليت فمي يلثم قدميها. تمر دقيقة كُلّها تأملٌ وصمت، وثمّة طاقة تبزُّ جسمي، أروم بشوقي خلف هدوئها، أسترق نظرة من الباب، أسمع شهقتها المعتادة التي تشهقها عند كل وداع، يئن صوتها ويتحشرج، فتتهدّم قواي من أركان رجولتي، يمتلئ صدري بالوجع، أرى أمّي تتشمّم ملابسي وتلثم بها وجهها، تضم ملابسي في صدرها، وترقد على كتفها مثل يمامة يعصرها الحنين. يهزمني المشهد الحنون، فتتصلّب حنجرتي، ويفيض دمعٌ ملتهبٌ في عيني، أحاول حبس عاطفتي، لكنّي رجلٌ ضعيفٌ يا أمي. أهرول بخطًى سريعة نحو أمّي وأكاد يصهرني الحنان، أحملق بكتفيها من خلف، وتضم يديّ من أمام، أسند رأسي إلى رأسها؛ وننفجر بالبكاء سويًّا في مشهدٍ تختلجه عاطفة فيّاضة. تقبّل أمّي كفّي، وأُقبّل كتفيها، يغازل دمعها يدي، ويُغرِق دمعي ظفيرتها، تتشمّم ثيابي، وأشمّها من رأسها وكتفيها، فتفيض بكاءاتي، وأضمّها صدري مغمضًا عيني، وأبكي منصهرًا في شعوري. الله، ما أجمل هذا الشعور. جسد أمّي الحنون بين ذراعي، أشمّها فتتفتح دواخلي عواطف الأبناء، أحس نبضها وأنفاسها كأنها تتنفس منّي. تستدير إلى صدري، فأضمها، ويتخضب صدري بدمعها، فيخال لي أنَّ سقيا دمعها في صدري يُنبِت ملائكةً صغار!.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!