وشوشات صيف ١٩٧٠ / بقلم : سمر دوغان ( لبنان )

وشوشات
صيف 1970
حينما يضع الصيف اوزاره… تحلق الارواح النائمة نحو الافق المسحور… يتراكم الفحم في الموقدة النائمة ويصبح رماد البرد في ظلال العباءة الشتوية. يستعر الجسد من قيظ الشمس الحارقة، تستفيق انشودة الحياة نحو رياح الحرية الشرقية. تودع في خزائن النسيان حقيبة الكتب والكراسات، وتنطلق الأرواح لترحال الجنون.
تنطلق سيارة الفولسفاغن بأثقالها، دواليب الرحلة تإن فرحا بثرثرتنا. وعلى وقع هوانا يصدح الراديو ب” الهوا هواي” نستمر صعودا نحو المدى الفسيح. شريط اشجار الصنوبر تكحل عيني، أغرف من شموخهن واسبح في اريجهن المتماهي جزلا مع رائحة التراب.
وصلنا اخيرا الى سوق الغرب، الى موقع البيت الجديد.
سكنت عيني دهشة الإنتظار. أدخل كأميرة في معبد الجمال، ممر طويل تظللها العرائش، نور الشمس تتسلل خجلا بين الوريقات الخضراء، وعناقيد العنب كثريات من بلور تتوج هامتي بصمت المعبد المسحور. تصطف احواض الورد بكافة الألوان عند الجانبين، ترحب خاشعة بالضيف. عبق رائحة اللافندر تخترق روحي وتزرع من لونها الليلكي سحرها. في آخر الممر شجرة تين معمرة تزدان باكوازها الخضراء تنتظر دورها.
عند اسفل سلم دارتها، وقفت إم رشيد بقامتها الطويلة وشعرها القصير ترحب بنا بفرح. آنسني وجهها البشوش ويداها اللتان همتا بإحتضان والدتي بشوق.
دلفنا الى البيت الجبلي من شرفة تطل على حديقة غناءة.
ادمنت عيني الجمال الذي يتماهى بعنفوان مع لون التراب. آنست روحي شتائل البندورة الحمراء واغصان ام قليبانة اليافعة.
ارتميت عاشقة الممر الضيق حيث أحواض البقدونس والنعناع ترحب بعبيرها خطواتي الصغيرة. في آخر الممر فسحة مربعة، افترش أرضها طقم جلوس من الخيزران. تنفست قليلا والقيت بنظري على إبداع الخالق. عيني تلامس موج البحر الأزرق. وطائرة تقلع من المطار. بيروت مدينتي الجميلة ما زالت تتأنق.
مضت صيفيتنا في الدار الجديد كحلم لن يتكرر. نصحو مع الفجر على صوت البلابل والحساسين نتناول ترويقتنا في الشرفة الواسعة. كانت أختي منى تأخذ زوادتها وكتابها وتلوذ بصمت الراهبات في الركن المربع فتطال بعينيها سياج البحر الأزرق.
مهى… مي… ميرفت ونظيرة، أولاد العم أبو رشيد الأكبر سنا، شاركونا نعمة الجيرة، كانوا يأخذون أخي محمد الرضيع ويهتمون به بشغف. ولعل اطيب تبولة تذوقتها من الأرض الطيبة ومذاقها يحلق في فمي كينبوع عسل.
كنا نقضي بعد الظهر في لعبة البالون شاسور (ballon chasseur) وكانت اصواتنا تتعالى فرحا. وحدها جارتنا العجوز الحلبية أم كميل، التي كنا نقض قيلولتها بعد الظهر، تقف بغضب عند السور الفاصل بيننا وتردح”طفشنا ولادنا وبعدكم عم تعملوا طج طج طج”.
يوم واحد إختمر في ذاكرة طفولتي في سوق الغرب وحملته معي لسنوات…
كان يوما من أواخر أيلول، وأبي كعادته بعد صلاة الفجر، يتناول ترويقته في الشرفة ويستمع بهدؤه المعهود على الترانزيستور، واذا به يعلو صوته “لا… لا مش معقول” وكانت في نفس الوقت أم رشيد تحمل دست كبير يحتوي على ما لذ وطاب من عنب وتين. بدأ ابي يجهش بالبكاء.انتابت أم رشيد الدهشة وسألته ما الخبر. قال لها بصوت مخنوق “مات عبد الناصر”. وصلت أمي لتوها على صرخته وسمعت النبأ، وبدأت تئن ألما رافعة رأسها الى السماء “ما معقول… ما معقول… جمال مات…حسبي الله ونعم الوكيل”. سكنت السماء غيوم الحزن يومها وذرفت دمعها على فراق الزعيم.
بعد سنين الحرب التي حصدت بدورها أم رشيد، أبو رشيد والجميلة ميرفت بقذيفة قاتلة، تقصدت زيارة منزلنا هناك…
آثار الحرب طالت جماله ففقد بريقه. الجدران والحديقة والعرائش يبست على فراق الأحبة.
وحده عصفور دوري كان يسير في الركن المربع يلتقط رزقه ويغرد للوحدة.
هنا كانوا… هنا رحلوا…ذكريات الامس ما زالت تدق الأبواب… بعدك على بالي يا صيف 1970
سمر دوغان
لبنان

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!