مرويات الجذور/بقلم:محمد عمربحاح

الديس الشرقية …
المدينة التي تمنيت لو كانت فيهاصرختي
الأولى ..
اكثر الأماكن إرتباطاً بطفولتي ،، المدينة التي بذرت فيها الذاكرةالأولى ..الذكريات المتراكمة من زمن الطفولة ، اصدقاء الصبا ..المطاريق والطرقات التي تتكدس فيها خطواتي البكر في طريقي إلى النخيل ،والعتم..عيون المياه الكبريتية
الساخنة..الصباح الذي يسلمنا إلى ماقاله الريح للنخيل ..
اشتاق للديس ..لبيوت الطين المبنية
من المدر والمعجونة بماءالعارة وعرق الأجداد والمتلاصقة بيوتها بحميمية مدهشة كأنها بيت واحد ..التوغل في شرايينها..كم اعشق ماءالمطر يغسل الطرقات الترابية ويلثم حيطان البيوت المنتشية،، ويخترق مواقع ذاكرتي.. كم اشتهي ان اشم رائحة الماء المنسكبة على الطرقات..وانظر باشتياق إلى البيوت المبللةبذكرياتي المستودعة من طفولتي ، واستعيد مخزوناتي الجميلة والرائعةمن ذلك الزمن..انفاس روحي ، وكل عمري، واخط حروف عشقي قصة
حب لوطني الذي افتقده اكثر كلماشعرت
بحنين جارف للديس ..لغابةالنخيل ، البساتين ،،، المعايين… واتوغل في شوقها الخفي …
(1)
الساعة الآن ..توقيت النخيل …
مازلت احتفظ بوجه ( …) قريبتي التي تنتزعني من عز النوم وتلقيني في عتوم النخيل واشعة الضوء الأولى ،،راكضين نعبر إلى الصيق ،نلتقط ماألقته ريح المساء ، ونعود بحصيلتنا من اللقيط، الغاسي ،البُسر، الكثير الألوان والأسماء ،والرطب ، نأكل حتى الشبع ونجفف مايفيض فوق الريوم …

(2)
الساعة الآن … تشير إلى سحر الماضي بكل قوة …
بيني وبين جدي قرون من الإرث والتاريخ، ومع قهوة الصباح يلقي علينا ِحكمه،خُلاصة تجربةالحضرمي في الحياة والناس ، مزية جدي انه يجعل ماكان بعيداً قريباً جداً..مازال وجه جدي الطيب والصارم ماثلاً وهو يتصدر مائدة الصبوح ويسألنا إن كنا صليناالفجرجماعة ، ويعلمنا منطق الطين الذي صنع منه الحضارم بيوتهم ، وصنع منه جدي بيتنا، واغلب النهار يعزز حيطان ” الحيوة” بمزيد من الطين كأنه يخشى عليها من التآكل والسقوط.! وكنت اسمع صوته المبحوح يردد كلمات لحن لم أكن اعرف لمن هو :
“لا لحقت المدر
ما تحصل الباني
كم نا باصبر
ياضيق في حالي
والقبل قاصرة
ما وصلت العيدان
يا سميع الدعا لايا عظيم الشان ” ..
مازلت اسمع صدى صوته في شرايين الطين ..
(3)
وجه حبابتي مريم محفوظ قرنح ،،، الطيب المعجون من طيبةالجدات في وجه واحد، تخصني وبقية احفادهابكل العطف ..كانت تملأ البيت دفئاوحناناً وحباً..وفجأة لم تعد موجودة.. قيل لي انها رحلت ذات موت …
(4)
وجه ابي عمر وهو يضحك وانا اسأله : – لماذا سافرت إلى الصومال ولم تسافر الكويت ؟
فيجيبني بطريقته الساخرة:
– لو لم التق بأمك هناك ما اجيت انت ولا أخوتك ! ..
وجه أمي حواء الجميل والطيب التي تجيب على سؤالي الغبي نفس الإجابةكل مرة:
– لقيناك تحت شجرة تين !! ،
ووجه خالتي سعيدة السمح التي تملي علي رسائل إلى أخي في عدن ، او أخي المغترب في الكويت ..وتسألني كل قليل – ماذا كتبت ؟
ويكاد شوقها يحرق أصابعي ..القلم والورق !! لم أكن أدرك حينها أن الشوق يشعل كل هذا الحريق !!
(5)
وجوه أخوتي فرج ، محفوظ ، صالح ، عبدالكريم ، علي ، وعبدالله، دائما هناك واحد منهم كان غائبا في سفر ، أما للدراسة او للعمل ، واحيانا يكونوا غائبين أجمعين ويوم يطل علينا الموت أعود إلى البيت فلا اجد كبير الأُسرة جدي احمد فرج…كان يملأ البيت هيبةً ،وحضورًا، وحكمةً حتى وهو مريض ..ولا أصغر اخوتي عبدالله ، واجد فيه الكثير من الدموع !
اشتاق إلى صدر ادفن فيه حزني ، لايشيل الحُزن الجاثم على طفل سوى حنان النساء : امي، خالتي، عماتي خديجة ،وسلطانة، وصفية ،وسلمى، ومزنة، وزينة ..اخواتي آمنة ، فاطمة ، وزينب ، كنت أشعر دائما انهن اكبر من اعمارهن…ولايكتمل البيت بغير امهاتنا الصغيرات، خديجة معيتب زوجةاخي الكبير فرج ، وفطوم غانم زوجة اخي محفوظ، واولادهم،اولاد اخي فرج : احمد ، عيشة، جميلة ، صفاء. وولداأخي محفوظ نجيب وصبري.. يملأون البيت حياةً ، بريقاً، لعباً، ضحكاً ، بكاءاً، واحلاماً صغيرة… البيت وطن الأطفال … بيت رائع ليكبر طفل فيه بين عائلة كبيرة تحبه .
(6)

وجه اخي محفوظ الذي لا اراه ولايراه احد إلاٌ بين دفتي كتاب ، رواية ،اوديوان،
او سيرة ذاتية ، او كتاب في التاريخ ، ويعيد إكتشاف العالم ، العواصم ، حياة الشعوب ،العلاقات الإجتماعية ولايصادق
إلاٌ كبار الكتاب العرب والأجانب …لم يكن في حاجة لأن يسافر ليرى العالم ، كان العالم يأتي إليه…ويوم يسافر يغيب ربع قرن دون أن يعرف عنه احد …!!
كان مجنوناً بالقراءة، وصرت مثله شغوفا بها وبالكتابة .. (7)
الوقت ضوء …
الديس وفرح الذهاب كل صباح للإلتقاء
بزملاء المدرسة مهما تكررت وجوههم ..ولا تشعر انك قد كبرت في العمر إلاٌ بعد ان تكون قد انتقلت إلى المرحلة الوسطى ،، إلى مدينة أخرى،وزملاء دراسة آخرين …صالح الحريبية ، محمد سعد باصلعة ، محمد صالح بامسعود ، فرج بن يمين ، عبدالله حسين المرفدي ، صالح شغدارة ، جمعان عبيد حيول، محمد صالح المقدي ، محمد سالمين بحاح ، محمد سالم المقدي، عبدالحافظ حسين البكري ، واخي صالح ، وآخرين قطعنا سنوات العمر الأولى معاً ، في المذُاكرة ، اللعب ، التنافس الشريف ،إقتسام اللقُمة والفراش في الرحلات إلى شرمة والشحر وغيل باوزير ، قبل أن يفرقنا الزمن وتتلقفنابلاد بعيدة..غابت أسماء البعض لكن وجوههم لم تغب، تسكن حناياالقلب…
فرحتي عندما التقيت زميل دراستي من إبتدائية الديس في ميدان شتات برلين،
وسعادتي بزميل آخر من نفس الفصل في دبي ،وثالث في الساحة الحمراء في موسكو، ورابع على ضفاف النيل في القاهرة ، وآخرين على ضفاف ساحل صيرة في عدن ،وقد كبرنا قليلا او كثيرا في العُمر، وجلسنا في مقهى نجتر ذكريات الطفولة ، ونستغرق في أدق التفاصيل ، حتى الحماقات الصغيرة..

ولم تكن حياتنا تخلو من الخصومات ،،واحياناَ لأتفه الأسباب ، وعندما تشتد كنا نلجأ إلى الحجارة ، أطفال يركضون وراءأطفال ،ولايتوقفون حتى يصرخ أحدهم من الألم ، ونرى السائل الأحمر
..لحظتها نهرع به إلى بيت من البيوت المعروفة التي تمتلك بعض أدوية ال “ايدين” ..كانت كافيةلعلاج الإصابات “المصوبة” التي غالباً ماتكون في الرأس.
وبمجرد مانسمع صفارة الشرطي( الزيتي ) وصرخة:
– يادركاه ..يادركاه !
حتى ننسى الخصومةونسارع للنجدة،،
ونساهم مع الكبارفي إطفاء الحريق الذي شب في عريشة من العرائيش ..
(8)
كلما مررت من أمام تمثال أمير الشعراء جالساً في مدخل شارع الدُقي أمام حديقة الأورمان في الجيزة – القاهرة، أرمقه واذكر فورا قصيدته الشهيرة : ( قم للمعلم وفه التبجيلا…كاد المعلم ان يكون رسولا ..) ،اختار شوقي المعلم من دون العالمين ليصبغ عليه هذا التشبيه العظيم( كاد ) و (رسولا)فلا احد سواه يستحق هذه المرتبة العظيمة ، كانت قصيدته مقررة علينا في الصف الرابع إبتدائي ، وكنا نحفظها عن ظهر قلب ، ونقف لكل معلم من معلمينا عندما يدخل علينا الصف ، ولانجلس حتى يأمرنا :
– جلوس ..
ولوصادفت شوقي في كورنيش الجيزة حيث يتطلع إلى النهر الخالد من حديقة فيللاه التي صارت متحفه -وكثيرا ما امر من هناك – لسلمت عليه ووقفت له إحتراما وكان سيعرفني دون ان يسألني من انا، ولأخبرته كيف هو حال المعلم اليوم لايحسد عليه …!
كانت كثير من قصائد شوقي مقررة علينا في المحفوظات، وكنا نحفظها جميعاًرغم طول ابيات بعضها..وبعد ذلك قرأت “الشوقيات” وأعماله الكاملة في مكتبة اخي محفوظ ..لكن من بين كل قصائده ظل لقصيدة “قم للمعلم” وقع خاص في نفسي …
ولو وجدت إبراهيم طوقان لحييته ايضاً، على قصيدته ( المعلم) التي عارض بها قصيدةشوقي ، فقد كان معلم لغة عربية ويعرف معاناة المعلمين امثاله ، ولوعاش طوقان ورأى أوضاع المعلمين اليوم في الوطن العربي خاصة لتمسك بقصيدته الساخرة تلك ، ولهاله فضاعةحال المعلم وبؤس مايعاني ، وربما زادها من الشعر بيتا …! ولقلت له ولشوقي ان كل ما اصابنا من خراب بعدهما كان بسبب إهمالنا للمعلم وللعلم حتى صرنا في ذيل الأمم..
(9)
كان للمعلم هيبتةواحترامه، ونفر من المقهى كما تفر الحمر من قسورة إذٌا لمحناه قادماً من بعيد خشية أن يكون قد رآنا فيوبخنا غداً امام كل التلاميذ في الصف …! الجلوس في مقهى جريمة تستحق العقاب ..وكان لمعلمينا عيون صقر ترى فريستها من مسافات بعيدة .
المدرسة …حيث يفرك المُعلم اصابعنا في الحائط ويشمها ليتأكد اننا لم ندخن !! ويضرب ظاهر كفنا بحد المسطرة إذا وجد ان أحدنا لم يقص اظافره ، اويجلد مؤخرته بالخيزران او عصا النخل إذا لم يحل الواجب ،ويعاقبه بكتابة بيت شعر اوحكمة او جملة مفيدة مائة مرة..وكنا نكره ذلك العقاب وننفذه مكرهين..بعد سنوات نكتشف انه لم يكن عِقاباً بل وسيلة لتحسين خطنا،وتقوية فصوص ذاكرتنا، وإجادة لغتناالعربية…كنا اولاداً محظوظين بمعلمين رائعين يؤدون رسالة
عظيمة (كاد المعلم ان يكون رسولا ) في مهمة نبيلة تحتاج إلى صبر وإخلاص وحب وقليل من الحزم : محمد سعيد بن جوهر، نصر سعيد مرسال ، محسن حسين الحوثري ، محمد سعيد بارفعة ،حاج سعيدمحروس، بكري عباد ،محفوظ نصيب ، عمر الحريبية ، محمد حمران ، سالم عبود العفاري، سالم اليماني ، عمر المرفدي وغيرهم …لوصادفت اي منهم او من المعلمين الذين درسونا بعد ذلك في زقاق من ازقة او مطراق من مطاريق الديس اوغيل باوزير ، اوشارع في عدن ،اوالقاهرة ،او الخرطوم لوقفت لهم إحتراما ايضا وانا في هذا العمر وقد جاوزت السبعين …ولقلت لهم انهم كانوا نوعا نادرا من المعلمين ، وعلمتمونا الكثير الذي جعلنا نحب الحياة حتى لو لم تقصدوا…
وبفضلكم صرنا ما نحن عليه …لكن ماحدث بعد ذلك لاذنب لكم فيه ….
(10)
الساعة تزحف الآن نحو الثانية بعد الظهر …
الموعد المعتاد للمذاكرة…
..كُنا مخيرين بين ان يذاكر كل واحد في بيته بين الساعة الثانية إلى الرابعة عصرا ،أونذاكر كل مجموعة في منزل واحد منا في نفس الحي ، ومن يخرج خلال هذا الوقت يتعرض للعقوبة ،، فهناك مراقب يدور بدراجته يرصد المخالفين !
اخترت المذاكرة مع مجموعة صغيرة جداً من زميلين من زملاء صفي: محمد سعد باصلعة وصالح عوض الحريبية ..أحببت هاتين الساعتين ، الأوراق ، الحبر ، الكتب ، والأقلام، واحببت زميلي ُمذاكرتي ، الحريبية، وباصلعة .
الآن عندما افكر فيها اجد الفكرة عبقرية ،،
هذا النظام اسسهُ كما علمت من ابن عمتي عبدالله عمر المضي ، الأستاذ نصر سعيد مرسال أثناء نظارته للمدرسة وهو من المكلا وكانت حينها المدرسةالوحيدة،
في الديس الشرقية..واستمر بعده لعدة سنوات..وبالتأكيد عندما فكر فيه كانت تهمه مصلحة تلاميذ مدرسته..
(11)

الآن السابعة مساءا…
بي رغبة لمغادرة البيت ..
كدت أنسى إنه موعد الحظر الليلي ،، ليس حظر تجول مما تفرضه السلطات عقب اضطرابات سياسية ، بل لم يكن مسموحا لنا نحن التلاميذ التواجد خارج البيوت بعد هذا الوقت ..
أماالجلوس في المقهى فمن المحرمات! من يجلس في المقاهي في عمرنا ذاك ينظر إليه على انه من ” عيال السوق”!
ولم يكن في الديس كلها سوى مقهيين ، وعدة حوانيت هي كل السوق … !
لست ادري اذا ماكان ذلك قاسياً…لكن بالنسبة لتلاميذ في الإبتدائية وفي هذا العمر ماذا كانوا سيفعلون خارج البيوت ؟!
استسلمنا لذلك ، ومع الوقت اصبح أمرا طبيعيا، ربما قام البعض بخروقات فردية خفية دون ان يشعر بهم احد.. لكنها لم تبلغ ذلك الحد الخطير .. لم يكن يجرؤ احد على كسر هذا النظام ! كنا أصغر من ان نفكر حتى في ذلك ، مع ان بعض العصيان الطفولي كان لابأس به ،،، فالعصيان فطرة إنسانية،،ووسوسة شيطانية .
(12)

المدرسة ..حيث تعلمت ابجدية الكتابة وألف باء الصحافة من المجلة الحائطية التي كنا نحررها مع بعض زملاء الصف ، ونزينها بالألوان والرسوم ، ويختار لها مُربي الصف احسن الخطاطين والرسامين في المدرسة -وكنت أحدهم- ، وننشر فيها خربشاتنا الأولى، وأولى سرقاتناالأدبية..
.!!
(13)
اليوم فقط عرفت ان الزي المدرسي الأبيض الذي كنت ارتديه ويرتديه كل تلاميذ مدرستنا، كان تقدمة من المجلس القروي، مساهمة منه في تشجيع التعليم،
وكان إمام مسجد عصيدة العم الخياط صالح محروس، يأخذ مقاساتنا ويخيط لكل واحد زيه هذا من قماش البفتة الأبيض المكون من صاروم، وشميز،
وكوفية.
اليوم عندمااتذكر منظري وزملائي بذلك الزي الناصع البياض ، اجدنا نشبه طيور حمام ابيض نزلت إلى الأرض من السماء …ذلك الحمام طار وتعب من كثرة السفر، لكن لم يستطع أن يمنعه احد من مواصلة التحليق في الفضاءات العالية .
(14)
الديس ..والسيد جعفر الذي يقسم البعض انه رآه يطوف الكعبة في موسم الحج ، في الوقت ذاته الذي رآه البعض يدرع طرقات الديس حافيا بقميصه المهلهل ، والبعض الثالث في الحامي او الشحر في الوقت عينه !..كيف يكون الرجل نفسه في كل مكان ؟!! يميل الناس إلى المبالغة وتصديق الأساطير .. .. ومع ذلك كنا نصدق ، وبقدرته على شفاء جروحنا بمجرد أن يبصق فيها .. ولم يكن السيد جعفر يبخل علينا ، وكنا نصدق ، وكانت تبرأ …
(15)
الديس .. وذلك الرجل الأشعث الذي كان الاطفال يجرون خلفه بالحجارة في الطرقات، وهم يصرخون وهو يهرول هاربا : ” احمد محمد المغروم ..لايصلي ولايصوم! “.. هل كانوا يرجمونه لانه مجنون ، او لأنه لم يكن يصلي ولايصوم؟! أو لأنهم كانوا يخافون منه ؟
هل تعلم ايها المجنون ايا كان اسمك .. اعتذر لك الآن نيابة عن كل الأولاد الذين رموك بالحجارةوالجنون
..وعن كل الكبار الذين لم يكفوا اذى أولادهم عنك !!
أو تدري ربما يكون هذا الإعتذار متأخرا جدا .. بل هو أكثرمن متأخر جدا ، ولن يصلك حتما، لكنه عنٌَ لي في لحظة الكتابة هذه فكان لابد منه ..
(16)
الديس ..حيث لعبنا الهوكري هوك، ودحدوح المرق ، والهبنا ظهور بعضنا بالكوافي في الليالي المقمرة، حيث سهرنا ليالي رمضان ، وصلينا التراويح ، وتنقلنا من مسجد إلى مسجد في ليالي الختم ، حتى الجامع الكبير في انتظار ليلة القدر …ونفض ليل المصطبات والدكك التي امام البيوت بالحكايات
…واستمع كطفل وديع إلى قصص الأجداد والاقوام الراحلين ، والساحرات ، والجنيات ، والأميرات اللاتي يركبن الغيمات.. لاادري مصدرها لكني كنت سعيدا بها …
الديس ..حيث كنا نتسلل بين اللاعبين المحترفين في الألعاب والرقصات الشعبية : العدة ، الشبواني ، والمرفع ونحاول تعلم أولى خطواتنا في الرقص دون ان نخطيء حتى لا نفسد على الكبار العابهم فنطرد ونكتفي بالفرجة ..
(17)
الساعة الآن .. “بين بين”
الديس .. حيث يأتيك الفرح في عرس هنا وهناك ، أوبعودة مسافر من عدن ، أومغترب من الكويت ، او شرق إفريقيا، فتفرح الديس كلها لفرحهم وتذهب لتهنئتهم بسلامة العودة ..
والديس حيث يجثم الحزن في بيوت المهاجرين الذين طالت غيبتهم ، او الذاهبين الجدد إلى غربتهم طلبا للرزق الحلال …فتستقبلهم الأمهات والزوجات بالزغاريد والدموع وتودعهم بالدموع..
.
..وبين فرح العودة ووجع السفر وحُزن الغياب بيوت لاتعرف سوى الإنتظار …
الديس ..التي تستقبل ابناءها العائدين الذين سافروا فتية يافعين وعادوا رجالا، والبعض كهولا تسرب العمر منهم واهدوا شبابهم وقوتهم لبلاد غريبة … والبعض افترس الوحش حياتهم هناك ولم يعودوا .. فلاباب الهجرة يغلق ولاأبواب الدموع والأمل تسد ! “ورثهم جدهم الحضرمي السفر وانسحب … ”

(18)
” بيت مافيه دلة مايندل ” ..
أشتاق إلى قهوة الصباح حيث مذاق القهوة لايعادله اي مشروب آخر..
، وللقهوة طقسها الشعري ، مزاج لايعرف ترتيله إلاالشعراء،القهوة شهية عندماتكون
بمذاق القصيدة ،ومدارات السواد، واجمل مافيها انها اكسير الحياة ينبغي أن تشربها حتى ثمالة الثمالة . وحدها كلمات جنيد محمد الجنيد ، “وللندامى مزاج القهوة” تعطيها عشبة الحياة :
“لا تكفي دقيقتان لمغازلة القهوة..
تحتاج لغزل القهوة أكثر من وقت ،فيه تستجمع كل مذاقك لتصبها في ينابيع الروح..
للقهوة طقسها الشعري الخاص..ولها مزاج لا يعرف ترتيله إلا الشعراء،
اقرأ عليها من الشعر ما تدفق من آياته الفاتنات،قبل أن تصبها..
القهوة توأم الشعر..هل تستطيع
قراءة أبجديتها..اقرأ من أول ما يتكثف منها على السطح حتى آخر ثمالتها..
إنها تعويذة النفس من أزمات أرهقتها ومن جراحات أدمتها ومن بكائيات أحزنتها ومن حرب دمرتها..
انتظر ،لا تشرب على عجل..
رقرق الكوب قليلا ،وانتظر..
انتظر..
فهناك من الندامى من يحن إليها..إليك..
انتظر..
هناك من ينتظر بفارغ الصبر ،ليشاركك النشوة..
ويرفع معك نخب المزاج ..”

كلما اشتهيت القهوة بلون الذهب رقراقة صافية اشربها في فناجين الفخار
.. هناك في الأعراس والمساجد ومزارات الأولياء “محضار واحمد مول القبة او مقام الولي بكريت” حيث يقرأ المولد النبوي صباح كل اثنين شربتها كثيرا ..لا الذ من احتساء القهوة إلا تحويلها إلى نخب لقاء ،،،

الديس ..حيث يطبخ كل شيء على الحطب والفحم ، الخبز ، الرز ، السمك ، اللحم ، البراوطة، القهوة ، الشاي على نَفّسْ الأمهات ،الزوجات، والأخوات، ولامكان لصناعات دخيلة…فتجد طريقها إلى المعدة فلا تصاب بمغص أو تسمم غذائي .. حيث لرائحة الخبز الطازج ودهرة السمك والعَيْدْ القادم من التنار نكهة خاصة لاتجدها في اي مكان آخر،
قبل ان يفسد “البوتغاز” كل نكهة وأية رائحة ..
لاشيء بعد هذا غير احتساء الشاي الأحمر في كاسات الزجاج الصغيرة ، وانتظار الأخبار التي تأتي من وراء البحر الديس ..حيث نشرب الماء من الكوز ، ونتوضأ من الزير ، ونعتسل بماء الصيق الدافيء الكبريتي ، او ماء العارة البارد والمنعش في جابية الشيخ على يسار العطية ، او معيان من المعايين الكثيرة التي تحيط بالديس إحاطة السوار بالمعصم وخاصة ضيقةسالم ،او في مقالد المساجد ، ونستقي من الجابية .
(19)
اسمع الآن صوت الحول :
– ياحول..ياحول!
تتلون السماءبالغيوم ،وفي مكان ما
بعيد ينزل المطر قويا ،،ينفجر رصاص التحذير ، ويندفع السيل صاخبا بلون الطين ،، يجرف الحجارة وجذوع النخيل في المسيلة في طريقه إلى البحر .. وحين يخف اندفاعه نلقي بأنفسنا في الماء في فرح وشغب طفوليين ..

(20)
كانت الديس تحاول صناعة فرحها الخاص ماأمكن..
فعودة صيادي السمك من القرن مناسبة
جديرة بالفرح والإستقبال..ويفرح الناس بهدية المغتربين العائدين من السواحل ..”الليم سواحلي”وجوز الهند حيث يوزع على الجيران .وكنا نفرح بالمنادر، رحلات أحياء القويرة والطالع التي تأتي عادة بعد موسم الزيارات ، ونكون في قمة الفرح عندما يصل المرفع والبرع إلى مربعة آل بحاح في العيد حيث يستقبلهم عمي محمد صالح بحاح . وكانت تلك الأفراح والهدايا الصغيرة تصنع دهشتنا الكبيرة ..هناك حظيت باجمل الأعياد …
(21)

الديس ..
حيث ننتظر بفارغ الصبر مواعيد زيارات “أولياء الله الصالحين”.. هبورك ، المقد ، حلفون ..حيث الشرح البدوي ، فلا ندري في أي مدارات الهبيش تلقي جنونك .. في صوت المزمار ، اوحجول المشترحات
،اوعنفوان المشترحين،او تبتدع بدوية أخرى تحتمل فضولك…وهذا المساء لايصمت صوت الرصاص من بنادق العيلمان ، والكندا، والجرمل ، وابو فتيلة ، ورائحة البارود تلون الأفق برماد مبهم ودخان غامق وليل طويل يصل الضوء بالضوء، والشرح بالشرح ، والهبيش بالهبيش…بالأسواق المفتوحة في الهواء الطلق ، ورائحة شواء اللحم على المعد الجائعة ..
المشقاص حيث يولد الأطفال بصلابة الصخر ، ويتعلمون ابجديات النار … ولايستسلمون للموت بسهولة،ولايسألون عن مخاطر السفر.. وكلما كبروا ركضوا نحو طفولتهم البعيدة ليعودوا رجالا ..
(22)
” المشقاص التي مازالت حقلاً بكراً لم يحظ باهتمام كافٍ يستكشف به المهتمون نواحي مهمة من شأنها أن تكشف النقاب عن ثراء وعمق تنماز بهما هذه المنطقة الشاسعة المتعددة الوجوه والملامح الجامعة بين البحر ، وتاريخه وثقافته، والجبل والبادية بتجليات مظاهرهما المختلفة العجيبة. ” بتعبير الدكتور سعيد الجريري في تصديره لكتاب طاهر المشطي (المعالم العسكرية الحضارية في الديس الشرقية).
ديس العشرين حصنا ..حصن البلاد ، في قلب المدينة، ببهائه الأبيض اللافت ، قريباً من بيتنا ومربع آل بحاح “ويسمى أيضاً حصن الدولة ، تم بناؤه ماقبل عام 1822م ويعتبر مركز الحكم في المدينة ومقر إقامة حاكم البلاد (القائم)، ويوجد فيه أيضاً مقر قاضي البلاد،،صمدالحصن وحافظ على وجوده امام زحف العمران وكأنه يتجاسرعلى العمر الذي مر والذي سيأتي ..!
(23)
يذكر الطفل الذي كنته الساحة المحيطة بالحصن ، هنا كانت تقام الألعاب الشعبية في الأعياد والمناسبات ، وتقدم التهانيء للحاكم ( القائم ) ،وتعرض المسرحيات والحفلات الغنائية في الهواء الطلق ،،، ويستعرض أبناء الديس الموهوبون وصلاتهم في الغناء والتمثيل والمنلوج الذي كان من أنشطة اتحادالطلبةالحضارم
– فرع الديس الشرقية -وفي العادة كان يتكون من مسرحية أدبية باللغة العربية الفصحى ، من ممثليها : سالم عبدالله باغويطة، صالح سعيد يمين. عمر احمد باخوار، عبدالله عمر المضي وآخرين،،، واخرى كوميدية باللهجة المحلية، تمثيل: سعيد عمرفرحان، ،احمد الصبان، فرج باحمبص. وعبدالله رموضةوآخرين… أما الوصلات الغنائية فمن غناء محمد احمد شحور ، وعبدالله عمر المضي ، ويشترك فيها عوض احمد سليمان عندما يأتي من عدن في إجازة، ومحفوظ باغويطة ( بعوض) عندما يأتي من الكويت .. ملك المنلوج كان بدون منافس سعيد عمر فرحان الشهير ب (ابو عمر) فيمايدربهم على الأغاني والمسرحيات عبدالله محفوظ الحداد وسعيد عمر فرحان . وكان مسرحهم في غايةالبساطة ولايشبه في شيء المسارح الفخمة والأنيقة،، ولاحتى البسيطة.. لا ديكورات، لاإضاءة لااكسسوارات ، لاستارة ولاميكرفونات ، ولاسماعات صوت..ربما كان ذلك أجمل شيءالبساطة،والتلقائية،والصدق ..وتلبس الشخصية، وأنه في الهواء الطلق ، وجمهوره يفترش الأرض …
وكان هؤلاء الفتية في معظمهم تلاميذا اكتشفوا في انفسهم مواهب لم تكن لهم من قبل ، وكانوا يحاولون الآن التعبير عنها وإظهارها للآخرين ..إمكانياتهم في الغناء والتمثيل ،،، وإدخال البهجة إلى قلوب أبناء بلدتهم الديس ، لاشيء آخر ..وكانوا يحصدون النجاح والإعجاب والتصفيق ولايسعون للشهرة، كما لم يكن في واردهم الإحتراف ، كانوا يحبون عملهم ولا يسألون ماذا بعد ذلك ….
(24)
الآن .. عندما اتذكر طفولتي أدرك كم كانت جميلة وبسيطة ..
كم كان جميلا ونحن نكبر ونزهر فيه.. ذلك النخيل كان لنا وطنا..معشوقتناالتي تحتوينا بحب ،تحنو علينا..أرض الطفولة البكر ، الأم التي تعلمنا منها اللغة،أبجدية الطفولة…عالمنا البريء. الذي نريد الاٌَ يغادرنا …
مصدر أحلامي، وتطلعاتي، وإبداعي الذي مهما كبرت أشتاق له ، ولها .. كل ما اتمناه ان تعيش أرض النخيل تلك ولايلحقها الخراب ابدا. النخيل لاينحني ولاينكسر …

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!