ها أنا ذا/ بقلم: محمد عمر ( اليمن)

ها أنا ذا كهل قديم، وحيد خائر القوى، ناقم على الحياة بكل ما فيها.
“عجوز” في عقدي السادس، أو بالأحرى “يتيم”.
ما عاد لي من أحد بعد رحيلها قبل عشرات السنين، وما عدت أرجو شيئا عدا تلك الأمنية العالقة: “اقتراب ساعة الأجل”.

لا جدوى من هكذا حياة! كل النهارات تتشابه في الكآبة.
أقعد على ذات الهيئة، لا أبارح مكاني حتى أفول الشمس، متكئا على كومة عجز في فناء داري المتهالك، بعد أن اكتساني اليأس بالكامل مؤخرا.
أشاهد مزرعتي الصغيرة، مورد عيشي الوحيد تحتضر أمامي.
يحيلها العطش إلى قطعة أرض جرداء مقفرة، كأن لم تخضّر بالأمس قط، ولا طاقة لي حتى على تحريك معول.
تتجرع مزرعتي الموت ببطء شديد مثلي تماما، ومع ذلك لم أرسل دعاء واحدا للسماء؛ لأستجدي نزول المطر ولن أفعل.
بل في الحقيقة لو كان الأمر بيدي لمنعت هطوله.
كم أكره المطر!

على غير العادة تخالجني رغبة جامحة في الحديث، بعد وجوم اعتراني لأكثر من خمسين صيفا مريرا.
أبدو اليوم شجاعا بما يكفي لأعترف للملأ بامتعاظي وكرهي الشديد له، مع إدراكي بفداحة ما أقول في نظر البعض، ولست أبالي.
ربما هي لحظاتي الأخيرة لكن هذا البوح يرفض أن يموت معي.
ولا آبه إن لامني الجيران أو القرية بأسرها، أو حتى استشاط العالم غضبا.
هذا المطر الذي تستقبلونه بالضحكات، وتشرعون له الأذرع المتلهفة.
وتستميتون دفاعا عن كونه أعظم النعم، وتصلون لينزل وتسقى أراضيكم.
كان يهوي كسعير في المقابل على سقف منزلنا الهش المثخن بالثقوب.

كم أكره المطر!
تقولون: غيثا ورحمة؟ وتتناسون أنه سرقني من حضن أمي وسرقها من طفلها الوحيد في باكر عمرها.
كلما أسمع وقع قطراته وهي تنخر سقف الدار أو بالأصح ما تبقى لدي من دار، تزور ذاكرتي أحلك ليالي العمر.
وينداح في أذنيّ صدى أنين أمي وهي تكظم بكائها وتتمتم بالأدعية، مع كل عاصفة يستحيل جرائها المنزل في ظلمة الليل إلى بركة معتمة.
وتتراءى لي والدتي تهرع محاولة إنقاذ صغيرها من الغرق.
تمسك بيديها دلوًا تآكل بسبب الصدأ وتنكبُّ وسط ذعر الليل تجرف المياه للخارج، إلى أن يبزغ الضوء فتسقط كجثة هامدة.

هكذا أمضت عمرها، تكابد وحيدة تجرف ثم تجرف وتجرف. بينما المطر لا يعرف طريقا للتوقف.
يجلد ظهرها النحيل بكل فظاظة، ويسرق صحتها بين عاصفة وأخرى، ولا يتورع عن إنهاك أم أرملة عاجزة.
وسرعان ما احدودب ظهر أمي، وسطت على جسدها ملامح الهرم قبل أوانها بسنين.
ومع مرور الأيام، استشرى الألم بفعل التراكمات والإهمال، وتفاقمت أسقامها حد استحالة الشفاء.
لم تنتظرني لأكبر وأنوب عنها في مهمّة الفقراء.
رأيتها للمرة الأولى راقدة هادئة مستكينة، كأنها تتعرف لتوها على معنى الراحة.
في تلك اللحظة أدركت أنها رحلت للأبد، تاركة ورائها طفلًا لم يتجاوز العاشرة، ليس له من أحد، ولم يجد الراحة إلى اليوم.

بعد موت أمي لم أطق الحياة، أفنيتها بلا غاية.
وكنت كلما وقع المطر، استسلم مكاني في أحد أركان المنزل متمنيا الموت غرقا، حتى ألحق بوالدتي وأنال نصيبي من الراحة، لكن دون جدوى.
ولم يكن بوسعي سوى أن أربي بصمت في صدري، بغض عارم تجاهه.
وها أنا اليوم أصرخ بكل ما تبقى من أوتار حنجرتي المسنة وصوتي الضامر، بعد ستة عقود مسجورة بالأسى والضنك: تبا للمطر.. تبا لقاتل أمي، وأستعجل الأجل أن يأخذني إليها.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!