الجمال يواجه قبح العالم… في ديوان “كلمات مبتورة”

كتب : إبراهيم موسى النحَّاس:  جمهورية  مصر العربية 

 في ديوانه الجديد الذي يحمل عنوان ((كلمات مبتورة)) يقدِّم لنا الشاعر محمد الصوالحة قصيدة تقوم في رؤيتها على الانحياز للجمال الإنساني، جمال يأبى القبح بكل صوره وأشكاله، جمال يدفع الذات الشاعرة لفضح سلبيات الواقع كي يخلق الواقع الموازي الأجمل، من هُنا نجد التعبير عن متاعب هذا الواقع من خلال رسم صورة المدينة المؤلمة في قصيدة ((وتشبهني الشوارع)) حين يقول في ص 41: ((كئيبة شوارع المدينة

حزينة هذه الأرصفة

وأنا تائهٌ خطوي

حائرٌ دربي

بأوَّل الطريق..

مُتعَبًا أجلسُ

أمشط جدائلَ الشوارع

أمسحُ عنها أثرَ الريح

وأهدهدُ الرصيف)).

تلك اللوحة المؤلمة للشوارع والمدينة كمعادل موضوعي للواقع المؤلم تدفع الذات الشاعر للإحساس بالاغتراب، لأنها تطمح وتطمع في واقع أكثر مثالية وأكثر جمالا، نلمس هذا الاغتراب في قصيدة حملت عنوان ((غربة)) ويقول فيها في ص21:

((أردِّدُ أنا الغريبُ

أنا الوحيدُ ..

اليتيمُ ..

إلّا مِنِّي

وبقايا وجعٍ ..

نقشٌ على أوَّلِ الليلِ

أوَّلِ الحلم ..

وأوَّلِ القصيدةِ

 يتيمٌ أنا إلّا ..

من بقايا قلم ..

أكلته المبراة)).

ومع شعور الذات الشاعرة بالاغتراب والفقد أحيانًا نجدالذات الشاعرة تُعوِّض هذا بالنظرة الجديدة المغايرة للأشياء, لنجد المرأة بمفهومها المُجرَّد العام هي إحدى ملاذات الذات في مواجهة قُبح العالم، ففي قصيدة ((حالة)) نجده في المقطع الأول ص 25 يقول:

((تفقأ عيني سهامُ الفجر

 يعلو أنينُ الروح

يهبط ضغط القلب

 يتعثر نبضي ببعضه فأتوه

 لفنجانِ القهوةِ أركضُ

 تتجلين بفنجاني ..

كشعاع يتوهَّج

 يفوح شذاكِ

تأخذُني الرجفةُ ..

تسكنُني الدهشة

 أتناولكِ ..

الرشفة تِلو الرشفةِ

برضابكِ أتشبَّعُ

 أغادرُ قبري ..

أغادرُ يومي

 لأبعث فيكِ حيًّا)).

من هُنا فنحن أمام ذات شعرية فاعلة، وليست ذات انهزامية، ذات عِشقُها للجمال لا حدود له، تصنع الملاذات التي تواجه بها قتامة العالم المحيط بها، ومن تلك الملاذات الأنا القوية المفعمة بالأمل والحركة والنشاط والحياة، نلمس هذا في قصيدة ((بكاء السماء))  ص17، وفي المقطع الأوَّل من قصيدة ((يا أنت))ص 14 حين يقول:

((انهضْ من نومك ..

وانثُر بعضًا من نورك في روحي

 لتخلق فيَّ أنثى النار ..

أنثى الغيم

لتمطرني فوق ترابك ..

زهرة دفلى ..

أو شتلة ريحان

 

لتشعل زيت العمر ..

وترسم دربي إليك

 يا أنت

 جفَّت غيمة يومي

ووجع الشوق يملأ قلبي ضباب

 يا أنت

 أشتاق لحضنك يأويني)).

ولأن الواقع مُعقّد، ولأن الشاعر يسعى نحو التجريب والصوت الشعري الخاص كان من الصعب أن يستخدم الشاعر آليات تشكيل فنية تقليدية ومستهلكة،

فيوظف الشاعر السرد القصصي القائم على الحكاية وتوظيف ضمير الغائب والتكثيف الدلالي في قصيدة ((الوجع))ص 120، وقصيدة ((أنا والثريا والغياب))ص 34 حين يقول:

((تقترب مِنِّي، تحضن خدِّي بكفَّيْها، تمسح عن عيني بقايا دمعة، تحضنني وتقول: حبيبي أحرقْ ما يسكنك من وجع، اغتسِلْ من ذاكرتك، وامسَحْ صورهم منك، هذا الوجع الساكن فيك عثرات تقرب النهايات.. تُعجِّلُ بالرحيل إلى العدم)).

كما نجد التفكيك حيث تقسيم القصيدة إلى مقاطع قصيرة تقوم على التكثيف الدلالي بحيث يتحول كل مقطع وكأنَّه لوحة تشكيلية شبه مستقلة وترتبط المقاطع مع بعضها البعض على المستوى الدلالي بخيط رفيع، لتخلق في النهاية رؤية القصيدة كلها، نجد هذا في قصيدة ((كلمات مبتورة))ص 58، وقصيدة ((حبل الغسيل)) ص 98، وقصيدة ((الجوع))  ص 116.

نجد أيضًا توظيف السؤال الذي يعكس قلق الذات الشاعرة في قصيدة ((بيت الغمام)) ص 9، وقصيدة ((الرحيل)) حين يقول في ص 15:

((مَن سيشعلُ المواقدَ؟

ومَن يوقظ الحمام

 إذْ رحلتَ يا نبيَّ العاشقين؟

وعلى أيِّ كفٍّ بعد كفك تستفيق القلوب؟

 وفي أيِّ فضاءٍ ..

يثورُ ..

بركانُ الحمام؟

 لينثرَ في العروق الحِمَمِ

 كلُّ الحناجر يا صديقي مستعارة

 مَن يروي سيرة قميصٍ من وبر الغيم تَشكّلَ؟

وأيُّ جسدٍ بعده تكشف؟

 مَن ذا الذي كشف سوءة المساء

عندما انتحر النهار على بوابات الغياب؟)).

من السمات الفنية التي اعتمد عليها الشاعر في هذا الديوان الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة في رسم الصورة الشعرية مِمَّا يعكس ثقافته واطلاعه بل كتابته لفن الرواية التي تهتم بالوصف ودقة التفاصيل في رسم الشخصيات، نجد هذا الاهتمام برسم أدق تفاصيل الصورة الشعرية في قصيدة ((تمرُّد)) حين يقول فيها في نهاية ص 20:

((ووحده حبيبي ترتيلتي في هذه الحياة

لا يا سيِّدي ..

لن أقرأ

وتيقَّن ..

لن أكفر بأميرتي

 لأنَّها …

كقهوة الصباح

 وكنكهة سيجارتي الأولى

فكيف لي …

أن أكفر بقهوتي

وعيون حبيبتي التي

سكنتني …

فصارت ..

بعيني ..

وطن وَ وَرْد

ومعجزة تبعثُ ..

بَعْدَ …

الموت حياة)).

تلك الأبعاد ما بعد الحداثية في فلسفة تعامل الشاعر مع آليات التشكيل الفني داخل الديوان لم تبعده عن تراثه، ولم تنزعه من أصوله، لأن التجريب الحقيقي ينبع من خلال هضم التراث والتمكن منه، فلا تجريب دون استلهام جمال الأصالة وعظمتها، ولا مستقبل لمَن لا جذور له، من هُنا كان توظيف الشاعر للمعجم الأصيل من خلال استخدام الرمز الديني المأخوذ من القصص القرآني في بناء بعض صوره الشعرية، كما في قصيدة ((وجع الغيم)) حيث يقول في ص 12، و13:

((منذ كنت

 وأنا كموسى

 أنتَ عصايَ

 أشقُّ بها بحرَ المتاعبِ

 أهشُّ بها قلقي ووجعي …

وقطعان الغيم

 أرسمُ بها حلمي

ولا أدري يا سيِّدي

 مَن سرق من يدي ..

تلك العصاه

النهر بحزنه باق

بخوفه باق

والأرض مجروحة

 والغيم وجع الدموع

 وأنا المُصلّي هناك

 فهل يعرفُ موجوعٌ

كيف يقيمُ الصلاة؟)).

من القراءة السابقة يمكن أن نقول إنَّ ديوان ((كلمات مبتورة)) للشاعر محمد الصوالحة يُقدِّم لنا رؤية تقوم على حُب الجمال، والسعي نحو واقع أكثر مثالية وجمالًا، جاعلًا الذات الشاعرة تأخذ من المرأة ملاذًا لمواجهة هذا القبح، كما يُقدِّم لنا الذات القوية الفاعلة المفعمة بالأمل، في قصيدة تقوم على التفكيك والتكثيف الدلالي مستفيدة من فن القصة القصيرة، وفي نفس الوقت تستفيد القصيدة عنده من خبرته بفن الرواية في الاهتمام بأدق التفاصيل في رسم الصورة الشعرية التي جمعت بين التجديد والحفاظ على الأصالة، ليؤكد الديوان أننا أمام شاعر مثقف يكتب القصيدة بوعي واقتدار فنيِّ.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!