رواية” نيران الوجد” ..ورحلة البحث عن الذات

 كتب إبراهيم موسى النحَّاس:

في روايتها الجديدة “نيران الوجد”تقدِّم لنا الروائيةالجزائرية نورا نور الشمس نعيمي رؤية تقوم على الغوص في أعماق النفس الإنسانية للبحث عن الجمال الذي يواجه به الإنسان متاعبه وهمومه في واقع لا يعترف برقي المشاعر ورهافة الأحاسيس وأهمية قيم الصداقة والحُب واحترام اختيارات الآخَر, بل وتأتي الصدمات من أقرب الناس إلينا أحيانًا سواء من خلال الأهل أو مَن عشنا نظنُّهم من الأحباب. فتعرض الرواية معاناة المرأة في المجتمع الذكوريّ من خلال شخصية” ريم” ابنة الجزائر التي ارتبطت بصداقة مع الدمشقي “نادر” عن طريق المراسلة في البداية لتتطور الصداقة بينهما إلى حُب قوي لا تمحوه متاعب الحياة وتعاقب السنين والأيام. ثم تتابع الأحداث ويتدرج الصراع داخل الحدث الروائي فتصاب ريم بالمرض الذي يهددها بالموت ورغم نجاح العملية الجراحية وشفائها ولقائها بنادر في باريس وانفصال “ميري” رفيقة نادر الأولى عنه لتفسح الطريق كي يكون نادر لريم, لكن تأتي الكوارث من أقرب الناس: فها هو إبراهيم أخو ريم يدفعها للزواج من ابن خالتها “رحيم” تسديدًا للدَين لأنَّ رحيم هو الذي دفع تكلفة سفرها وعلاجها بفرنسا, وها هي “ميري” تدبِّر مكيدة انتقامية من نادر فتتهمه بسرقة سيارتها ليتم القبض على بطل الرواية في فرنسا ويتم وضعه في السجن بضع سنين كي يعجز عن السفر لريم في الجزائر. ليتم خنق كل مشاعر الحُب, وكل الطموحات الإنسانية النبيلة من أقرب الناس في حياة البطل والبطلة.

وقد قسَّمَتْ الكاتبة روايتها إلى أربعة فصول وكل فصل جاء في صورة عدد من الرسائل بين نادر وريم, وكأنَّها أرادت بهذا التقسيم أن تعكس ما يعانيه واقعنا من انقسام وما تعانيه المشاعر من تفتت وتمزُّق بسبب عدم تقدير الواقع المحيط لسمو تلك المشاعر والطموحات. وقد جاءت هذه الرسائل لتذكرنا بالرسائل المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران وقصة الحُب بينهما.

رغم تعبير الرواية عن رؤية فلسفية حول مفهوم الصداقة والحُب والبحث عن الذات ومعنى وجودها الحقيقي, لكنها حملت بعض الإسقاطات السياسية, مِمَّا يعكس وعي الكاتبة بقضايا مجتمعنا العربي وهمومه, مثل تجسيدها مأساة الوضع السياسي في سوريا حين وصفت المأساة في ص14 بقولها في سياق حديث نادر عن حياته وأسرته: ((أمَّا والدتي فقد غرسَتْ فِيَّ الصبر والتجلد في وجه المحن, شخصيتها القوية كانت ملاذنا في وقت الشِدَّة, وقت الحرب التي سادت الشام فجعلتنا أغرابًا في أرضنا, يتربَّص بنا الموت من كل جانب حتى طالت يده أغلب أفراد عائلتي الذين استشهدوا في يوم واحد, إثر غارة جوية دمَّرَتْ المنازل, وخطفت الأرواح وهدمت الآمال, وبعثرتْ الأحلام)). كما نجد مدى حُب الكاتبة للوطن وانتمائها له من خلال توظيف بعض الأبيات لشاعر الثورة الجزائرية “مفدي ذكريا” داخل النسيج الروائي, فنقرأ في ص 9: ((جزائر يا مطلع المعجزات/ ويا حُجَّة الله في الكائنات/ ويا بسمة الربِّ في أرضهِ/  ويا وجهه الضاحك البسمات)).

 

وقد عرضت الكاتبة رؤيتها في لغة روائية سلسة لا غموض ولا تعقيد فيها, وتقوم على توظيف الخيال من خلال الصور البلاغية الجميلة, مثل تلك التشبيهات المتتابعة في سياق حديث نادر عن خطابه لريم ورغبته في السفر إلى الجزائر ليلتقي بها , فتقول الكاتبة في ص101: ((كم تمنَّى أن يصير موسى فيشق البحر بعصاه كي يختزل المسافة بينهما, وكم اشتهى أن يكون المسيح كي يُحيي كلَّ لحظة بينهما, أو أن يصير مراسلًا كي يُتمِّمَ مكارم العشاق..)).

كما نلمس في الرواية الدقَّة في وصف الشخصيات و رصد أبعادها السيكولوجية مع التعمُّق في دواخلها النفسية, في لغة رومانتيكية تقوم على التشبيه والمجاز, تحمل بين ألفاظها الثراء الفني, وقدرة الكاتبة على التعامل معها, مثل هذا الوصف الذي قدَّمته لريم وقت معاناتها مع مرضها, حيث قالت في ص57: ((في أحد الأيام كنت جالسة بغرفتي أمام نافذتي, أنظر لقطرات المطر المنسابة فوق أوراق الأشجار, وهي ترسم لوحة رائعة الجمال, تعجز ريشة الرسَّام أمامها, تنهمر دموعي على خدِّي تسابق قطرات السماء, كنت أبكي وابتسامتي ترتسم على وجهي, لا أخاف الموت لأنِّي مؤمنة بقضاء الله, راضية به وبحكمته)).

تعكس الرواية شخصية الكاتبة المثقفة, واسعة القراءة, فقد حملت الرواية توظيف الكثير من المقاطع الشعرية والنثرية أيضًا لشعراء وكتّاب من مختلف دول العالم مِثل: مفدي ذكريا والدكتور عبد الحق موافي ونزار قباني والشاعرة السورية سهير الشاغوري وفيكتور هوجو وابن زيدونوعبد الرحمن العشماوي وعثمان عقلي وجبران خليل جبران وأليس سلوم وهندة حسين ومارك توين وآخرين تناولهم آخِر مقطع في الرواية ص 102.

من القراءة السابقة يمكن أن أقول إنَّ رواية((نيران الوجد)) للروائية نورا نور الشمس نعيمي تحمل في رؤيتها قدرة الكاتبة على التعبير عن طموحات وهموم النفس الإنسانية مع إعلاء لمعاني الصداقة والحُب والانتماء  للوطن, ورصْد لهموم الذات في واقعها في رحلة بحث الذات عن كنهها ووجودها وتحققها وتحقيق آمالها, كل هذا جاء في رواية تتمتع لغتها بالثراء الفني في لغتها القائمة على المجاز والتصوير الفني, كما جاء تقسيم الرواية إلى عدد من الفصول والرسائل المتبادلة بين بطلي الرواية”ريم ونادر” لتعكس رُبَّما من خلال هذا التقسيم مدى انقسام واقعنا وتشطي الآمال والطموحات في الحياة. كما ترسم لنا الرواية صورة للكاتبة نفسها تلك الكاتبة المثقفة التي تستفيد من المنجز الإبداعي شعرًا ونثرًا عربيًّا وعالميًّا لتقوم بتوظيفه داخل نسيج روايتها, كما تعكس جانب آخر يرتبط بحياة الكاتبة وهو عملها في قطاع الصحة بالجزائر لنجد مفردات من هذا العمل موجودة داخل الرواية مثل مرض ريم وإجراء العملية الجراحية لها بمستشفي بباريس وكأنَّ تلك المشاهد تخرج من الواقع المحيط بالكاتبة في مجال عملها ومهنتها الراقية كواحدة مِن “ملائكة الرحمة” على حد وصف الكثيرين لأصحاب تلك المهنة الراقية.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!